• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : التزاحم (1440-1441هـ) .
              • الموضوع : 286- الشيخ: المكره يجوز له الإضرار بالغير مطلقاً ، ومناقشات خمس لكلامه .

286- الشيخ: المكره يجوز له الإضرار بالغير مطلقاً ، ومناقشات خمس لكلامه

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

(286)

 

الشيخ: يجوز للمكرَه الإضرار الشديد بالغير مطلقاً

والحاصل: ان الشيخ استدل على عدم الترجيح بأقلية الضرر بأدلة ثلاثة قال: (والظاهر: عدم الفرق بين كون ضرر المالك بترك التصرف أشدّ من ضرر الغير أو أقل؛ إمّا لعدم ثبوت الترجيح بقلّة الضرر كما سيجئ، وإمّا لحكومة نفي الحرج على نفي الضرر؛ فإنّ تحمّل الغير على الضرر ولو يسيراً لأجل دفع الضرر عن الغير ولو كثيراً، حرجٌ وضيقٌ. ولذا اتّفقوا على أنه يجوز للمكره الإضرار بما دون القتل لأجل دفع الضرر عن نفسه ولو كان أقلّ من ضرر الغير. هذا كلّه في تعارض ضرر المالك وضرر الغير)([1]).

 

استدلال الشيخ

وقد سبقت مناقشة الوجهين الأولين وبقي الأخير، وقد فصّل الكلام في بيانه والاستدلال له في المكاسب إذ قال قدس سره في بحث الولاية من قبل الجائر إذا أكرهه على الإضرار بالغير وسائر المحرمات: (إنّما الإشكال في أنّ ما يرجع إلى الإضرار بالغير من نهب الأموال وهتك الأعراض، وغير ذلك من العظائم هل يُباح كلّ ذلك بالإكراه ولو كان الضرر المتوَعّد به على ترك المكرَه عليه أقلّ بمراتب من الضرر المكره عليه، كما إذا خاف على عرضه من كلمة خشنة لا تليق به فهل يباح بذلك أعراض الناس وأموالهم ولو بلغت ما بلغت كثرة وعظمة، أم لا بدّ من ملاحظة الضررين والترجيح بينهما؟ وجهان:

من([2]) إطلاق أدلّة الإكراه، وأنّ الضرورات تبيح المحظورات.

ومن([3]) أنّ المستفاد من أدلّة الإكراه تشريعه لدفع الضرر، فلا يجوز دفع الضرر بالإضرار بالغير، ولو كان ضرر الغير أدون، فضلًا عن أن يكون أعظم. وإن شئت قلت: إنّ حديث رفع الإكراه ورفع الاضطرار مسوق للامتنان على جنس الأُمّة ولا حسن في الامتنان على بعضهم بترخيصه في الإضرار بالبعض الآخر، فإذا توقّف دفع الضرر عن نفسه على الإضرار بالغير لم يجز ووجب تحمّل الضرر. هذا.

ولكن الأقوى هو الأوّل؛ لعموم دليل نفي الإكراه لجميع المحرّمات حتّى الإضرار بالغير ما لم يبلغ الدم وعموم نفي الحرج، فإنّ إلزام الغير تحمّل الضرر وترك ما اكره عليه حرج.

وقوله عليه السلام: ((إِنَّمَا جُعِلَتِ التَّقِيَّةُ لِيُحْقَنَ بِهَا الدَّمُ فَإِذَا بَلَغَ الدَّمَ فَلَيْسَ تَقِيَّةٌ))([4])، حيث إنّه دلّ على أنّ حدّ التقية بلوغ الدم فتشرع لما عداه)([5]).

 

المناقشات

أقول: قد يناقش ما ذكره قدس سره بوجوه:

 

1- حرمة الإضرار بالغير وترجيح الأخف، من المستقلات([6]) العقلية

الوجه الأول: ان حرمة الإضرار بالغير من المستقلات العقلية كما ان ترجيح الضرر الأقل على الضرر الأكثر الأشد في بعض درجات التفاوت بينهما من المستقلات العقلية كذلك، سلّمنا لكن لا ريب في ان بناء العقلاء عليه، والعقلاء ببابك فانا لا نجد عاقلاً من أية ملة من الملل أو نحلة من النحل يرى (الإكراه) بتهديده بصفعةٍ أو إهانته بلفظةٍ خشنةٍ، مسوِّغاً لقطع يد الآخر أو الزنا بالمؤمنة أو إحراق دار الغير فيما إذا قال له المكرِه: إقطع يد زيد أو أضربه وعذّبه بحيث يبقى معوَّقاً أو مشلولاً إلى آخر عمره أو يحتاج للعلاج الصعب عشر سنين مثلاً، أو أحرق بيت جارك، وإلا سببتك أو صفعتك أو صادرت كتاباً أو ديناراً منك؟ والحاصل: انه لا ريب في القبح العقلي والعقلائي للإضرار بالغير ضرراً بالغاً لمجرد ان الظالم قال له أفعل ذلك وإلا أضررت بك ضرراً خفيفاً لا يقاس بذلك الإضرار.

 

وهو مقدمة موصلة لمفاسد عظيمة

بل نقول: ان تجويز فعل العظائم بعذر الإكراه ولو كان المتوعَّد عليه كلمة خشنة أو ضربة بسيطة يفتح الباب على مصراعيه للفساد والإفساد في الأرض، فان الحكام الظلمة والفراعنة والطغاة على مرّ التاريخ([7]) يعمل تحت أمرتهم الألوف من الوزراء والأمراء والمحافظين أو الولاة والشرطة وغيرهم، وهؤلاء يظلمون الملايين بل مئات الملايين من الناس في أعراضهم وأموالهم وأبدانهم فتجويز كل تلك([8]) العظائم بعنوان انه مكره يريد تجنب أدنى ضرر لو لم يفعل تلك العظائم، إيقاع في أعظم الفساد والإفساد، بل لعله مخالف لضروري الدين، المبني على (وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمينَ)([9]) وشبه ذلك([10]). فتأمل

 

2- لا يصدق عنوان الإكراه مع كون المتوعَّد به خفيفاً

الوجه الثاني: انه قد يناقش في صدق الموضوع أي في صدق عنوان (الإكراه) على مثل ذلك، ولو أطلق فلا ريب انه مسامحة وتوسّع؛ ألا ترى ان العقلاء لو أنّبوا من كسر العمود الفقري لأخيه أو لصاحبه، بقولهم لماذا فعلت ذلك؟ فأجاب بانني مكره ومجبور على ذلك! فإذا سألوه لماذا؟ قال: لأنه هدّدني إن لم أفعل ذلك لسبّني بكلمة خشنة!!، فانهم يتهمونه حينئذٍ بالسفاهة المطلقة أو بالدجل والاحتيال لتبرير فعلته الشنيعة وان هذا ليس من الإكراه في شيء؟

 

3- لا شيء من مقدمات الحكمة بمنعقد

الوجه الثالث: سلّمنا، ولكن لا شك في عدم انعقاد مقدمات الحكمة في أدلة الإكراه التي عدّها الشيخ عامة أو مطلقة، فان مثل قوله صلى الله عليه واله وسلم: ((وُضِعَ عَنْ أُمَّتِي تِسْعُ خِصَالٍ: ...وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ...))([11]) لا شك في انه ليس في مقام البيان من جهة مثل ذلك الاستكراه (على حرق قرية كاملة أو قطع يدي ورجلي زيد وإلا قال له كلمة خشنة فقط!) أو يقال: هو منصرف عنه قطعاً؛ وذلك للقرينة العقلية والعقلائية القطعية الحافة به كما سبق في الوجه الأول، أو يقال انه قدره المتيقن غير هذه الصورة.

سلّمنا، لكنه على أقل تقدير من محتمل القرينية المتصل وهو مخل بالإطلاق.

 

4- الإكراه عنوان ثانوي كالإضرار فيتعارضان

الوجه الرابع: انه كما ان (الإكراه) عنوان ثانوي حاكم على العناوين الأولية، ولذا يجوز له ترك الصوم لو أكرهه عليه وإلا ضربه، كذلك (الضرر) و(الإضرار) بالغير عنوان ثانوي حاكم على العناوين الأولية، واما النسبة بين العنوانين (الإكراه والإضرار بالغير) فهي من وجه، فهما متعارضان، فكيف لاحظ الشيخ دليل الإكراه ولم يلاحظ دليل الإضرار؟ بعبارة أخرى: لا دليل على حكومة دليل الإكراه على دليل الإضرار، بل قد يقال بالعكس، وقد يقال هما متعارضان فيرجع إلى دليل ثالث فوقي، والأصحّ انهما متزاحمان كما سيأتي في الوجه الآتي.

 

5- بل الحق التزاحم بينهما والمرجع الأهم

الوجه الخامس: ان الحق الذي لا محيص عنه ان (الإكراه) و(الضرر أو الإضرار) داخلان في باب التزاحم دون التعارض؛ إذ لا تكاذب بينهما بل كلاهما صادر دون شك، وكلاهما له ملاك، مما لا مجال لإنكاره إذ ملاك الإضرار هو الضرر الوارد على الغير كما هو بديهي وملاك الإكراه الضرر الوارد على النفس([12]) كما هو صريح كلام الشيخ أيضاً.

ويكفي صريح حكم العقل بان ملاكهما كما ذكر، فلا وجه لتوهم ان الضرر في الإكراه مجرد حِكمةٌ والمستمسك الإطلاق.

وعليه: فيجب ملاحظة الأهم منهما فعلى حسب درجات الضرر المكره عليه الوارد على الثالث والضرر المتوعد به الوارد على المكرَه، يحكم بجواز أو وجوب أو حرمة الإضرار بالغير عن إكراه، ومنه يظهر بطلان إطلاق القول المقابل إذ قال: (وإن شئت قلت: إنّ حديث رفع الإكراه ورفع الاضطرار مسوق للامتنان على جنس الأُمّة ولا حسن في الامتنان على بعضهم بترخيصه في الإضرار بالبعض الآخر، فإذا توقّف دفع الضرر عن نفسه على الإضرار بالغير لم يجز ووجب تحمّل الضرر. هذا) إذ اتضح ان الأمر بحسب درجة وشدة وضعف الضررين وانه يحسن الامتنان على بعض الأمة بالترخيص له بالإضرار بالبعض الآخر إذا كان الضرر المندفع عنه (بإضراره بغيره) عظيماً جداً وكان الإضرار بالغير ضرراً بسيطاً ويقبح خلاف ذلك، كما انه لا يحسن إن كان الضرر الواقع عليه ضعيفاً وعلى غيره شديداً. فتدبر. وللبحث صلة بإذن الله تعالى فأنتظر.

 

 

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

 

 

قال أمير المؤمنين عليه السلام: ((لا خَيْرَ فِي السُّكُوتِ عَنِ الحَقِّ، كَما أنَّهُ لا خَيْرَ فِي القَوْلِ بِالجَهْلِ))

(غرر الحكم: ص70).

 

 

 

-------------------------------------------------------

([1]) الشيخ مرتضى الانصاري، فرائد الأصول، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم: ج2 ص471.

([2]) دليل الجواز.

([3]) دليل حرمة ترجيح الضرر الأكثر (بل مطلقاً) على الأقل.

([4]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج2 ص220.

([5]) الشيخ الانصاري: المكاسب، ط تراث الشيخ الأعظم ج2 ص86 -87.

([6]) ومع قيد (ضرراً بالغاً) فانه مما لا شك فيه.

([7]) كالفراعنة وبني أمية وبني العباس وبني عثمان وكأمثال صدام ومعمر و...

([8]) عدا القتل الذي قَبِل استثنائه.

([9]) سورة الأنبياء: آية 107.

([10]) كـ(رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) سورة الفتح: آية 29، و(فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَليظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) سورة آل عمران: آية 159.

([11]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج2 ص463.

([12]) أي ملاك تجويز الإكراه هو دفع الضرر الوارد على النفس.

 


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=3768
  • تاريخ إضافة الموضوع : الاحد 16 جمادي الاولى 1441هـ
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19