• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : التزاحم (1440-1441هـ) .
              • الموضوع : 299- تزاحم ضرري الغاصب والمغصوب منه والأدلة الخمسة .

299- تزاحم ضرري الغاصب والمغصوب منه والأدلة الخمسة

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

(299)

 

الضرر على الغاصب لو تزاحم مع ضرر المعتدى عليه

سبق: (الصورة الأولى: ما لو أدخل ديناره الذي يملكه في محبرة الغير بدون رضاه، ونظيره ما لو بنى بيتاً فخماً على أرض الغير بدون إذنه، فقد يقال بانه يلاحظ الأهم منهما أي الأكثر قيمة، فلو كانت قيمة الأرض مثلاً عشرة ملايين وقيمة القصر مليار دينار، فلا يُلزم صاحب القصر بهدمه لأنه تضييع للأكثر الأهم، بل عليه ان يعوّض صاحب الأرض عن أرضه بأرض أخرى مثلاً أو بمبلغ مساوٍ لها، فان تعاسرا أوقع الحاكم الصلح قهراً بينهما.

لكن المشهور المنصور([1]) عدم ملاحظة الأكثر تضرراً منهما في حد ذاته، بل يراعي جانب المغصوب منه، ففي المثال يُهدم قصر الغاصب بالغاً ما بلغت قيمته، وتُرجع الأرض إلى صاحبها وإن كانت ضئيلة القيمة جداً.

ويمكن الاستدلال على ذلك بأدلة بأربعة أدلة أو أكثر:

 

أ- لأن الغاصب يؤخذ بأشد الأحوال

الدليل الأول: ان الغاصب يؤخذ بأشد الأحوال وأشقّها.

وفيه: ان هذه ليست رواية بل هي قاعدة مصطيدة وهي دليل لبّي يقتصر فيه على القدر المتيقن، ولا يعلم بناء العقلاء على ذلك على إطلاقه أي على الشمول لمثل ذلك بل قد يعدونه غير عقلائي. فتأمل)([2]).

وقد ذهب إلى ذلك السيد الوالد فيما عدّ غير عقلائي([3])، كما لو بنى داراً عظيمة ووضع في أساسها حجراً واحداً مغصوباً فان المشهور ذهبوا إلى ان لمالك الحجر ان يسترجع حجره ولو استلزم هدم الدار كلها، لكن السيد الوالد رأى انصراف الأدلة عن مثله، كما سيأتي بيانه.

وقد مثّلوا للغاصب الذي يؤخذ بأشق الأحوال ما لو غصب بضاعة منه، ككتابه أو آنيته مثلاً، فارتفعت قيمتها ثم انخفضت فانه يضمن أعلى القيم من حين الغصب وحين الأداء وما بينهما، والسرّ ان الزيادة دخلت في ذمته فضمنها (سواء أكانت بدواً أم ختماً أم ما بينهما) وكان عليه إرجاعها فوراً فضمنها حينها آناً بآن، وحيث نزلت القيمة وكانت بتفريط منه (لأنه غاصب) فقد نزلت مضمونةً عليه، لكن المقام لا يقاس بمثل هذا المثال فان وجهه ما ذكرناه، ولذا نقول به ولو لم نقبل قاعدة ان الغاصب يؤخذ بالأشق.

 

ب- لأن المالك مسلَّط على ماله

الدليل الثاني: لأن المالك (للمحبرة) مسلط على ماله، ولا دليل على سلطنة الغاصب على التصرف في مال غيره أو إتلافه، لمجرد ان يستنقذ ماله الذي وقع فيه بسوء تصرفه.

لا يقال: ان الغاصب أيضاً مسلط على ماله إذ انه لم يَخرُج دينارُه عن ملكه بإلقائه إياه في محبرة غيره، غاية الأمر انه فعل محرماً لكن الحرمة لا تغير الحكم الوضعي فانه لا يزال ملكه دون شك.

إذ يقال: أدلة سلطنته على ماله منصرفة عمّا لو تعمد التصرف فيه بما يستدعي إتلاف مال الغير لو أراد استرجاعه، أي منصرف عن مثل صورة وضعه، عمداً عدواناً، في ملك الغير بما يستلزم استرجاعه إتلاف ملك الغير وشبهه.

وبعبارة أخرى: أدلة السلطنة العقلية والعقلائية لبّية فلا إطلاق لها لتشمل مثل هذه الصورة واما النقلية اللفظية فمنصرفة.

وبوجه آخر: ان المقام يكون من تزاحم سلطنته على ماله مع سلطنة مالك المحبرة على ماله، وحيث ان التزاحم عرضي عدواني ناشئ عن غصبه وسوء اختياره، فلو دار الأمر بين رفع اليد عن سلطنته أو عن سلطنة المالك (المعتدَى عليه) فلا شك في أرجحية الأول عقلاً ولدى العقلاء.

 

ج- دليل لا ضرر، بوجهين

الدليل الثالث: دليل لا ضرر، ويمكن الاستدلال به بوجهين:

 

1- ورود لا ضرر مورد الامتنان

الأول: انه وإن صح ان ضرريهما متزاحمان، ولكن حيث ان لا ضرر واردٌ موردَ الامتنان، وقد تزاحم الامتنان (في مرحلة الجعل) على مالك المحبرة بعدم الإضرار به بكسر محبرته لإنقاذ دينار الغاصب، مع الامتنان على الغاصب بإنقاذ ديناره ولو بكسر محبرة الغير، فانه لا شك في ترجيح الامتنان على المالك المعتدى عليه، من الامتنان على الغاصب المعتدي.

 

مناقشة وجواب

وقد يجاب: بان ذلك صحيح إن كان الامتنان علّةً دون ما لو كان حِكمةً، إذ لا يدور الحكم حينئذٍ مداره فحتى لو كان الامتنان على مالك المحبرة أولى من الامتنان على الغاصب مالك الدينار، فان لا ضرر تشملهما بإطلاقها بوِزان واحد ولا تجرّ الحكم إلى مالك المحبرة برفع ضرره خاصة، أي لا تختص به ولا تصطفّ إلى جانبه لمجرد ان الامتنان عليه أكبر وأولى.

وفيه: ان الامتنان وإن كان حِكمةً، لكنه موجب لانصراف الدليل (دليل لا ضرر) عن الغاصب المعتدِي عند تزاحمه (أي تعارضه حينئذٍ) مع الشمول للمالك المعتدى عليه، فالاستدلال ليس بالحِكمة بل بالانصراف العرفي وإن كان وجهه ملاحظة وجه الحكمة، والفرق كبير لا يخفى على الفطن.

 

2- لأن الضرر نشأ من فعله لا من الشارع

الثاني: لأن الضرر نشأ من فعله (أي فعل الغاصب) لا من فعل الشارع، ولا ضرر إنما ترفع الحكم الضرري أي ما نشأ من قبل الشارع لا ما نشأ من قبل المكلف نفسه؛ إذ الغاصب هو الذي سبّب الضرر لنفسه بإدخاله ديناره في محبرة الغير عمداً غصباً.

 

المناقشة

وقد يجاب: بانه وإن نشأ من فعله، لكن الشارع بإمضائه الحكم (بعدم حق له في استنقاذ ديناره بكسر محبرة الغير) وَقَعَ في سلسلة العلة الطولية للاضرار، إذ لولا حكمه بعدم جواز كسر محبرة الغير لإنقاذ ديناره، لما تضرر الغاصب.

وقد يناقش: بان ذلك وإن صح دقةً لكنه لا يصح عرفاً أي لا ينطبق على الشارع انه المضر بالغاصب بل هو المضرّ بنفسه عرفاً أو يقال: انه عرفاً موجب لانصراف لا ضرر عن مثله، كما سبق، خاصة وان بناء العقلاء على ذلك أي على تحميل الغاصب الخسارة لا المالك.

وقد يقال بالتفصيل: وانه منصرف عما لو كان التفاوت بينهما عادياً عرفياً (بان كانت محبرته تسوى مثلاً نصف دينار في مقابل دينار الغاصب) دون ما لو كان بالغاً جداً كما لو كانت محبرته تسوى فلساً وقد أسقط فيها ديناراً (ألف فلس) أو عشرة دنانير أو أكثر أو بنى بيتاً فخماً على أرض لا تسوى واحداً بالألف من قيمته. فتأمل

 

د- لدليل الإقدام

وذلك لأن الغاصب بوضعه ماله في محبرة غيره، يكون قد أقدم على الإضرار بنفسه.

وفيه: ما سبق من ان الإقدام ليس من الأدلة على الضمان ولا على عدمه، وقد سبق ان النسبة بينه وبين اليد هي من وجه، ونضيف: ان النسبة بينه وبين الضمان هي من وجه كذلك، فقد يُقدِم على الضمان ولا ضمانَ، كما لو أقدم على المجانية كالضيف، وقد لا يقدم عليه ويكون ضامناً كما لو توهمه ملكاً له فأكله فبان ملكاً لغيره فهو ضامن.

وكذلك قد يقدم على الضرر ويكون إقدامه ممضى شرعاً كما لو باع بأقل من القيمة أو وهب أو شبه ذلك، وقد لا يكون ممضى شرعاً كما لو أسقط ما لم يجب، بناء على المشهور من عدم صحته وكما لو باع السفيه ماله بضرر وهكذا.

بل سيأتي النقاش صغرىً بانه لا إطلاق لإقدامه على الإضرار بنفسه، فانتظر

 

 

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

 

 

قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: ((نِعْمَ وَزِيرُ الْإِيمَانِ الْعِلْمُ وَ نِعْمَ وَزِيرُ الْعِلْمِ الْحِلْمُ وَنِعْمَ وَزِيرُ الْحِلْمِ الرِّفْقُ وَنِعْمَ وَزِيرُ الرِّفْقِ الصَّبْرُ)) (الكافي: ج1 ص48).

 

 

 

---------------------------------

([1]) لكن بتفصيلٍ سيأتي.

([2]) الدرس (298).

([3]) أو عدّ إسرافاً وتبذيراً عرفاً، فتأمل.

 


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=3801
  • تاريخ إضافة الموضوع : السبت 13 جمادي الاخرة1441هـ
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 18