بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
كان الحديث حول الادلة على لزوم الاجتهاد في اصول الدين وذكرنا منها اثنين (احتمال الضرر وخوف الضرر) وتطرقنا لبعض الاشكالات عليهما والعديد من الاجوبة عنها
اشكال جديد:وهو ان ترك الاجتهاد في اصول الدين وان كان مظنة الضرر وان دفع الضرر المحتمل واجب عقلا ولكن قد يقال في الاشكال على ذلك:اولاً:ان من المحتمل احتمالا قويا بل يؤيده الاعتبار بان يعفو الله سبحانه عن تارك هذا الواجب العقلي فهذا الاحتمال عقلائي بل يؤيده الاعتبار لان الله كريم جواد اذن ليس احتمال الضرر منجزا
ثانياً:انه يحتمل في الاتجاه المقابل احتمالا عقلائيا ان لا يهتم الخالق العظيم بما لا حدود لعظمته بمعرفتنا اياه وعدمها ولا باجتهادنا في المعرفة اي كون المعرفة عن نظر او لا؟ فما هي قيمتنا في هذا الكون المترامي الاطراف ؟ فان نفس المنظومة الشمسية ليست الا كحبة رمل في صحراء واسعة بالنسبة الى هذا الكون فكيف بنا نحن كي يعتني الله بنا ويحاسبنا لماذا لم تعرفوني ؟ وبعبارة اخرى لا قياس بين المحدود واللا محدود ولا نسبة بين المحدود واللا محدود1 فما قيمتنا اصلا ؟ بل القيمة هي كالصفر امام الخالق اللا محدود حتى يهتم بمعرفتنا اياه او عبادتنا له حتى يعذبنا على عدمهما او لايعذب ؟
اذن هذان اشكالان قد يردان وهذان الاشكالان قد ذكرا في مواضع اخرى بمناسبة ما وان كان بصيغ اخرى
والجواب عن كلا الاشكالين من وجهين:الاول:ان عفو الله تعالى لا ينفي الاستحقاق ومدار حكم العقل بالوجوب والحرمة هو الاستحقاق وليس الفعلية وهذا جواب دقيق فكلما عملت عملا تستحق العقاب عليه فان العقل يراه قبيحا وحراما سواءا اوعد المولى بان يعفو اوعفا فعلا او لم يعف فتلك مسالة لاحقة ,توضيح ذلك:ان شرب الخمر مثلا حرام لكن لو علم العبد ان المولى سوف يعفو عنه او ان الشفاعة ستدركه فهل يسقط ذلك حرمة شرب الخمر ؟ الجواب كلا فانها حرام وقبيح ويستحق العبد العقاب على شربها اذا العقل يحكم بانه خالف المولى فيستحق العقاب ، نعم المولى له ان يعفو لكن ذلك لا ينفي استحقاق العقاب . مثال اخر العبد لو قتل ابن المولى لكن المولى عفا عنه فهل العفو ينفي قبح فعله وحرمته واستحقاقه العقاب؟والجواب كلا
والحاصل : انه لنفرض ان عفو المولى قطعي ولنفرض ان لا اهتمام له بنا لكن ذلك لا ينفي حكم العقل بوجوب المعرفة عن نظر , وهذا جواب سيال يجري في اماكن عديدة ومنها ما ستأتي الاشارة اليه في الاية التي سنذكرها لاحقا
اذن ملاك حكم العقل بالقبح والحرمة هو استحقاق العقاب على هذا الفعل او ذاك الترك ، وليس فعلية العقاب حتى يقال ان فعلية العقاب قد تكون مرتفعة بالعفو او منتفية باللا اهتمام من قبل المولى وهذا نقاش كبروي
وثانياً وهو نقاش صغروي:ان ما ذكر من الاحتمالين لا ينفي احتمال الضرر البالغ لأنه من المحتمل ان يعفو الله وقد يكون الاعتبار (نظرا لكرمه وجوده )مؤيدا ، لكن لا احراز لذلك اذ ان حكمته قيدت كرمه فلعل هذا المورد ليس من موارد المصلحة في الافاضة والعطاء والكرم فان فكونه تعالى كريما وجوادا لا يعني بالضرورة ان يفيض علي الله الان علوم الاولين والاخرين او يعطيني المال كما ارغب
اذن هذان الاحتمالين وان كانا واردين لكن ذلك لا ينفي -بالوجدان - احتمال الضرر بترك الاجتهاد في المعرفة اي ترك المعرفة عن نظر ، وملاك حكم العقل بالوجوب هو وجود ضرر محتمل او هو الخوف من الضرر2وهذان الاشكالان ينبغي التوسع فيهما ولكن الاضاءة بهذا المقدار في مبحث فيها الكفاية باذن الله
الاشكال الاخر على الاستدلال بخوف الضرر واحتماله هو اشكال نقلي وما تقدم كانت اشكالات عقلية وهو:قوله تعالى(وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) وعليه فانه حتى لو حكم العقل بوجوب النظر والاستدلال في المعرفة والعبد يستحق العقاب مع الترك فان الله قد صرح في هذه الاية بانه لا يعذب ؟
وهناك اربعة اجوبة عن الاية: الجواب الاول:ان الاية خاصة بعذاب الاستئصال اي العذاب الدنيوي(وما كنا معذبين)اي باستئصال بعض القرى الكافرة بنتق الجبل كانه ظلة او بما جري لقوم نوح او كالمسخ فانه لا يكون الا بعد ارسال الرسل اي ان صرف اتمامه الحجة العقلية على عباده لا يترتب عليه عذاب الاستئصال بل اخذ الله على نفسه ان لا يستأصل الا بعد ارسال الرسل ,اذن الاية تنفي الاخص وهو عذاب الاستئصال ولا تنفي الاعم الشامل للعذاب الدنيوي والاخروي فما دام اني احتمل الضرر الاخروي بترك النظر فانه منجز عقلا
الجواب الثاني:وهو جواب تنزلي سلمنا بان الاية ظاهرة في نفي العذاب الدنيوي والاخروي ما دام لم يبعث رسولا الا ان ذلك يعني نفي العذاب على مخالفة التكاليف السمعية لا التكاليف العقلية فلو ان شخصا قبل بعثة الانبياء استقل عقله بقبح قتل الغير ظلما فانه لا شك يستحق العقاب الاخروي ولا يستطيع ان يعتذر ويحتج على الله بانك لم تبعث لي رسولا ,والحاصل : ان المستقلات العقلية ليست مجال النفي في الاية الشريفة , وهذان الجوابان مطروقان في كتب الاصول
الجواب الثالث:سلمنا ان الله ينفي العذاب الدنيوي والاخروي على السمعيات والعقليات لكن حتى لو قبلنا هذا الاطلاق فانه غير نافع لمن كان في مثل حالنا من الامم اللاحقة اذ الفرض اننا في زمن ما بعد بعثة الانبياء فهذه الاية لا ترفع الحكم عنا فان الغاية متحققة(حتى نبعث) فالغاية وهي البعثة متحققة بالنسبة لنا اذن العذاب مترتب على من خالف الاحكام العقلية والشرعية والحاصل ان الاستناد للاية غير مجد لنا من ناحية الثمرة العملية نعم من حيث المعرفة النظرية بالمعادلات الالهية فمفيد وانه قبل بعثة الرسل لاعذاب
الجواب الرابع:هو نفس الجواب الاول عن الشبهتين السابقتين حيث قلنا ان الله سبحانه ينفي في الاية فعلية العذاب لا استحقاقه (وما كنا معذبين) اي انا لا اعذب (عفوا و كرما و لطفا او لاي شيء اخر فالاية ظاهرة في نفي الفعلية كما هو الاصل في اي لفظ يطلق فان ظاهره سواء في النفي والاثبات هو الفعلية لا الشأنية والاستحقاق فقوله تعالى(وما كنا معذبين)يفيد نفي فعلية التعذيب لأن الاية في مقام الامتنان وان هذا المخاطب كان يستحق العذاب رغم عدم ارسال الرسل لكن الله يمن عليهم بان لا يعذبهم ولو لم يكنوا مستحقين للعذاب لما صح الامتنان بل يكون لغوا وذلك كقولك لشخص بريء لا اعذبك فانه لا معنى له بل هو لغو من الحكيم اذا صدر امتنانا
اذن الاية تنفي الفعلية لا الاستحقاق بل نقول انها تثبت الاستحقاق لأن المقام مقام الامتنان دفعا للكلام عن اللغوية وقد تقدم ان مدار حكم العقل بالوجوب والحرمة هو الاستحقاق وليس الفعلية وللكلام صلة تاتي ان شاء الله تعالى وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين...
الهوامش..............................................................................
(1) توجد قاعدة رياضية معروفة وهي ان كل عدد كالواحد والاثنين لو نسبته لأي عدد اخر كالالف او المليون اوالمليار والترليون او الاكثر من ذلك فان هناك نسبة معينة بينهما مثلا واحد بالالف او واحد بالمليون فاذن توجد نسبة وان كانت ضئيلة جدا ولكن لا توجد نسبة بين اي عدد واللا متناهي لأن اللا محدود لم يقف عند حد معين حتى تنسبه اليه هذا اذا كان هذا اللامحدود واللا متناهي من قبيل اللامتناهي اللا يقفي ومثاله العدد ونعيم الاخرة فكيف الحال بالنسبة الى اللا متناهي المطلق وهو الله جل وعلى ,لأن اللا متناهي على قسمين متناهي اللا يقفي ومتناهي مطلق
(2) اشكال:ان الخلق لحكمة ولعلة غائية والا للزم العبث من الخلقة وهو لا يتحقق الا بمعرفة الصانع واطاعة اوامره
والجواب من الاستاذ دام ظله: وجود الغاية للخلقة لا تنفى ان للمولى ان يعفو فهناك غرض عرفنا الله عليه بالحجة الباطنة والظاهرة لكن مع ذلك له ان يعفو كما انه بالفعل عفا عن كثير ونقض الغرض يتحقق مع عدم وجود غاية من الخلقة او عدم وجود غاية من العفو اما مع وجود الغاية فلا نقض للغرض ويدل عليه انه تعالى شرع الشفاعة والتوبة والاستغفار للعفو عن العاصي(وما كان الله ليعذبهم وانت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) اذن لا مانعة جمع بان تكون هناك غاية من التكليف وبين ان يعفو الله تعالى ضمن شرائط وضوابط فليتأمل |