بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(29)
هـ- إلغاء احتمال الخلاف
و- تنزيل مؤداه، مؤدى الظن، منزلة الواقع
والبحث في حجية الظن وعدمه، بهذين المعنيين، يقع تارة في ان مقتضى الأصل جوازهما وعدمه، وأخرى في انه هل الأصل([1]) تنزيل الظن في مؤداه منزلة الواقع أو إلغاء احتمال خلافه أو هل الأصل في الشارع([2]) انه نزّله (أو: ينزّله) منزلة الواقع أو ألغى احتمال خلافه أو الأصل العكس؟
ز- الكاشفية، ولكن لا معنى للقول بان الأصل كاشفية الظن أو عدمه، لأنه إما كاشف أو لا فأمره دائر بين الوجود والعدم، بعبارة أخرى: الكاشفية وعدمها أمران تكوينيان ملازمان للظن([3]) فلا مجال للأصل فيهما إلا إذا أريد الاستصحاب([4]) ولكنه ليس المقصود بالبحث إذ المراد بالأصل هنا الامارة والقاعدة لا الأصل العملي.
ح- صحة الاحتجاج به من المولى على العبد أو العبد على المولى، لكن صحة الاحتجاج هي فرع الكاشفية، وأما إلغاء احتمال الخلاف وصحة الاحتجاج فان الأول عِلّة للثاني وكذا حال التنزيلي، ولكن صحة الاحتجاج أعم منهما إذ تكشف عن احدهما وعن بعض القسائم الأخرى على سبيل البدل.
ط- الكفاية، أي كفاية الظن في الخروج عن عهدة التكليف([5])، وهو ما عبّر به صاحبا الضوابط ونفائس الأصول، قال الأول: (المقام الأول: في تأسيس الأصل في مطلق الظنون المشكوكة.
إنّ خبر الواحد فرد من أفرادها، فهل مقتضى الأصل الأولي من حيث الحكم الوضعي ماذا؟ بمعنى أنّ مقتضى الأصل الأولي بعد ثبوت التكليف هل هو الكفاية بالظن أو العدم وبعبارة أخرى هل العمل بالظن يوجب الخروج عن عهدة التكليف أم لا؟ والتحقيق عدم الكفاية للأصل)([6]) وقال الثاني: (أمَّا الكلامُ الأوّل، فهو أنّ مقتضى الأصل الأولى عدمُ الكفاية وعدمُ كونه مُبرِءٌ للذّمة وذلك انّه ممّا لا شك ولا شبهة [فيه هو:]، انّا بعد ورود الشَّرع مكلَّفون بشيءٍ لا محالة ولكن لا نعلَم أنَّ المكلَّفَ به ماذا؟)([7]).
وقد عبّر المحقق الخراساني بالمنجزية والمعذرية، لكن التعبير بكفاية الخروج بالظن عن عهدة التكليف أولى، لأنهما أجنبيان عن الأصول مندرجان في دائرة علم الكلام، عكس الكفاية فانه بحث أصولي وليس من القواعد الفقهية ولا من الفقه فان إبراء الذمة متفرع عنها. فتأمل.
ي- التعبّد بالظن، بمعنى الاحتياط بالعمل على طبق مؤداه، لكن التعبّد مغاير للاحتياط ولا يصح تفسيره به، قال الشيخ: (ومن العقل: تقبيح العقلاء من يتكلف من قبل مولاه بما لا يعلم بوروده عن المولى ولو كان جاهلاً مع التقصير. نعم، قد يتوهّم متوهّمٌ: أنّ الاحتياط من هذا القبيل. وهو غلطٌ واضح؛ إذ فرقٌ بين الالتزام بشيءٍ من قِبل المولى على أنّه منه مع عدم العلم بأنّه منه، وبين الالتزام بإتيانه لاحتمال كونه منه أو رجاء كونه منه، وشتّان ما بينهما؛ لأن العقل يستقلّ بقبح الأول وحسن الثاني)([8]).
الأقوال الخمسة في الأصل في حجية الظن
الثالثة: اختلف العلماء في حجية الظن وعدمها إلى خمسة أقوال:
عدم الحجية مطلقاً
الأول: عدم حجية الظن مطلقاً، من غير استثناء حتى لخبر الثقة، وهذا ما ذهب إليه الاخباريون، وادعوا ان اخبارنا قطعية سنداً ودلالةً ولكن حيث كان من البديهي بطلان قطعيتها، إذ لو سلّمنا جدلاً بقطعية سندها، وليس، فلا شك في عدم قطعية دلالتها وإلا لما اختلف الاخباريون ولا المجتهدون، كما لا قطعية لجهة بعضها من حيث التقية أو التورية أو مقامي التعليم والإفتاء([9]).
وقد تراجع عن هذه الدعوى بعض الاخباريين فانه (لـمّا رأى جمع آخر من متأخري الأخباريين ظهور فساد هذه الدعوى، قالوا: إنّ المراد من قطعية الأخبار قطعية حجيتها([10]). وذلك عين القول بحجية الظن الخبري بواسطة الدليل القطعي)([11]).
وقد ذهب من المجتهدين الشريف المرتضى في الذريعة إلى أصول الشريعة والمحقق الحلي في معارج الأصول، إلى عدم حجية الظن مطلقاً من غير استثناء.
الحجية مطلقاً
الثاني: حجيته مطلقاً، وهو رأي العامة، ولذا رأوا حجية القياس والاستحسان وسدّ الذرائع، بل الإفتاء تارة والترجيح أخرى حتى بالظنون الضعيفة غير المتعارفة، ولذا نجد كثيراً من فتاوى أبي حنيفة وأضرابه غريبة بل مضحكة مبكية لأنه اعتمد على حجية مطلق الظن من أي منشأ نشأ وبأية مرتبة كان وبأي شيء تعلّق.
عدم الحجية إلا ما خرج
الثالث: الأصل عدم حجيته مع خروج أنواع متعددة كالظن الناشئ من خبر الثقة والظواهر وما أشبههما، وهو لغالب المجتهدين، قال النراقي: (لا خلاف بين علماء الفرقة المحقة في أنّ الأصل الابتدائي: عدم حجية الظن مطلقاً، ولا يجوز التمسك بظن ما لم يكن برهان قطعي ودليل علمي على حجيته. إنما الخلاف في أنه هل يوجد مزيل لذلك الأصل أم لا؟ وعلى فرض الوجود هل يخرج بعض الظنون أو مطلقه إلا ما منع منه الدليل؟ أي صارت حجيته أصلاً ثانوياً)([12]). و(نعم الكلام الذي بينهم هو أن الخارج هل هو الظن في الجملة – وبعبارة أخرى بعض الظنون، وبثالثة ظنون مخصوصة – أو مطلق الظن إلّا ما منع منه الدليل؟ حتى يكون الأصل الثانوي حجية الظن.
فمعظم المجتهدين من الشيعة، بل قاطبتهم، بل إجماع الفرقة المحقة على أنه لم يخرج مطلق الظن، بل الخارج ظنون مخصوصة([13]))([14]).
عدم الحجية، مع الاقتضاء، وما خرج كثير
الرابع: ما ذهبنا إليه تبعاً للسيد الوالد([15]) من ان الأصل عدم حجية الظن، لكن الذي خرج منه دائرة أوسع مما خرج لدى غالب المجتهدين، إذ نرى خروج الشهرة والإجماع المنقول والاستبيان والاستطلاع وغيرها مما سيأتي، إضافة إلى الفارق المذكور سابقاً بيننا وبينهم وهو اننا نرى الظن مقتضياً للحجية دونهم. وللبحث والفوارق تتمة بإذن الله تعالى.وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
عن أبي بصير قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: ((مَنْ عَلَّمَ خَيْراً فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهِ، قُلْتُ: فَإِنْ عَلَّمَهُ غَيْرَهُ يَجْرِي ذَلِكَ لَهُ؟ قَالَ: إِنْ عَلَّمَهُ النَّاسَ كُلَّهُمْ جَرَى لَهُ قُلْتُ: فَإِنْ مَاتَ؟ قَالَ: وَإِنْ مَاتَ)) (الكافي: ج1 ص35).
-------------
([1]) أي الأصل العقلائي.
([2]) فهو أصل شارعي أي مستند إليه.
([3]) (أي أحدهما ملازم على سبيل البدلَ على القولين).
([4]) استصحاب العدم الأزلي لا النعتي إذ لا حالة سابقة له لأنه منذ كان فاما هكذا أو لا هكذا.
([5]) فهذا هو ما قد يفسر به التعبّد بالظن.
([6]) السيد إبراهيم القزويني، ضوابط الأصول، العتبة الحسينية المقدسة ـ شعبة إحياء التراث الثقافي والديني ـ كربلاء، ج2 ق1 ص118.
([7]) محمد سعيد البار فروشي، نفائس الأصول، ذوي القربى ـ قم، ج2 ص168.
([8]) الشيخ مرتضى الانصاري، فرائد الأصول، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم، ج1 ص126.
([9]) راجع فقه المعاريض والتورية.
([10]) الفوائد المدنيّة للمحدّث الاسترآبادي: 63.
([11]) المحقق أحمد النراقي، عوائد الأيام، مركز الأبحاث والدراسات الإسلامية، ص356.
([12]) المصدر.
([13]) كما في معالم الأصول: 192، والفصول الغروية: 389.
([14]) المحقق أحمد النراقي، عوائد الأيام، مركز الأبحاث والدراسات الإسلامية، ص357.
([15]) وقد نختلف في بعض الصغريات عنه قدس سره.
|