بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(30)
سبق: (عدم الحجية، مع الاقتضاء، وما خرج كثير
الرابع: ما ذهبنا إليه تبعاً للسيد الوالد([1]) من ان الأصل عدم حجية الظن، لكن الذي خرج منه دائرة أوسع مما خرج لدى غالب المجتهدين، إذ نرى خروج الشهرة والإجماع المنقول والاستبيان والاستطلاع وغيرها مما سيأتي، إضافة إلى الفارق المذكور سابقاً بيننا وبينهم وهو اننا نرى الظن مقتضياً للحجية دونهم. وللبحث والفوارق تتمة بإذن الله تعالى)([2]).
وبعبارة أخرى أشمل وأكمل: ان المختار هو:
1- ان الأصل الأولي في الظن عدم حجيته، بمعنى عدم لزوم إتباعه، وعدم صحة الاحتجاج به وعدم منجزيته ومعذريته.
2- انه رغم عدم حجيته كأصل أولي، إلا ان فيه اقتضاء الحجية، وقد سبقت ثمرة الاقتضاء وستأتي أيضاً.
الأصل الثانوي حجية الظن إما لبناء العقلاء أو للإمضاء
3- ان الأصل الثانوي في الظن حجيته مطلقاً، إلا ما خرج بالدليل كالقياس، وذلك استناداً إلى أحد وجهين:
اما دعوى بناء العقلاء على حجية الظن مطلقاً، وقد خرج ما خرج بالدليل، وقد سبق بيان وجه هذه الدعوى وان العقلاء في كافة أمورهم يمشون على الظن إلا لو وجد ظن آخر حاكم عليه([3]) أو لو عارضه ظن أقوى أو منع مانع كنص الشارع مثلاً.
وإما القول: بان الظن مادامت فيه جهة الكشف الناقصة، وهو ما عبرنا عنه بالاقتضاء الذاتي، فان عدم الردع عنه شرعاً مع احتمال ان تسلكه جماعة معتد بها([4]) كافٍ في حجيته لكشف الإمضاء منه.
والفرق بين الوجهين: انه على الوجه الأول والإذعان ببناء العقلاء فلا حاجة إلى إمضاء الشارع وذلك لما سبق مفصلاً من ان بناء العقلاء بما هم عقلاء حجة بذاته من غير حاجة إلى إمضاء الشرع، وذلك لأن العقل حجة من داخل، كما ان الشرع عقل من خارج، وكلاهما (العقل والوحي) حجة من قبل المولى جل وعلا من غير ان يحتاج العقل في حجيته في مستقلاته إلى إمضاء الشرع، نعم هو مؤكد أو مرشد أو مفسر ومبيّن، وذلك كما لا يحتاج أحد المعصومين في حجية أقواله إلى إمضاء معصوم آخر له، ومرجع بناء العقلاء بما هم عقلاء إلى حكم العقل فهو حجة بذاته، فلا حاجة إلى إمضاء الشرع.
أما على الوجه الثاني فان حجية الظن موقوفة على الإمضاء المنكشف ولو بعدم الردع، إذ مجرد اقتضاء الحجية فيه لا يستلزمها إذ المعلول لا يوجد إلا بوجود المقتضي والشروط وانتفاء المانع، والإمضاء شرط، والمعرضية([5]) غير كافية أيضاً إلا مع ضم سكوت الشرع حيث لا ينبغي ان يسكت وإلا للزم تفويت الغرض.
ويبقى الفرق بين قولنا بحجية الظن مطلقاً من باب بناء العقلاء وقول المجتهدين بحجية ظنون خاصة من باب بناء العقلاء، فإن الفرق جلي إذ هم يقولون باستثناء عناوين خاصة (خبر الثقة، الظواهر و...) من عموم أصالة عدم حجية الظن فعليهم ان يثبتوا تحقق بناء العقلاء على كلِّ عنوانٍ عنوانٍ، أما نحن فنقول بان بناء العقلاء عام وشامل لمطلق الظن فلا حاجة لأن نثبت تحققه في كل نوعٍ نوعٍ من أنواع الظن ومن ذلك يتفرع:
4- انه مادام الأصل الثانوي حجية الظن مطلقاً، فانه ستكون كافة أنواع الظنون حجة إلا ما خرج، فتكون دائرة الظنون التي هي حجة لدينا أوسع بكثير من دائرة الظنون التي هي حجة لدى مشهور الأصوليين.
5- وعليه: فان خروج ظن من دائرة الحجية (الثانوية) هو المحتاج للدليل، عكس قول مشهور الأصوليين، حيث لم يرتأوا الأصل الثانوي في الظن فيكون دخول ظن ما في دائرة الحجية هو المحتاج للدليل.
الحجية، لانسداد باب العلم
القول الخامس: حجية الظن مطلقاً، من باب الانسداد، وهو ما ذهب إليه صاحب القوانين، فيختلف قوله عن مشهور الأصوليين كما يختلف عن قولنا، أما اختلافه عن الأصوليين فلأنهم يرون الأصل عدم حجية الظن مطلقاً ولا يرون وجود أصل ثانوي بحجيته مطلقاً، إلا انه وإن قَبِل ان الأصل الأولي في الظن عدم الحجية لكنه يرى ان الأصل الثانوي فيه الحجية.
وهو يتفق معنا في ان الاصل الثانوي الحجية لكنه يختلف في انه يراها من باب الانسداد ونراها من باب الانفتاح والفرق كبير فان باب الانسداد اضطراري كأكل الميتة، وهو مبني على انسداد باب العلم والعلمي، وأما نحن فنرى الحجية مع انفتاح باب العلم فليس اضطرارياً، كما انه لا يرى، ظاهراً، الاقتضاء في الظن([6]) بينما نراه كما سبق.
الظنون حجج لكن بعضها مقدم على بعض
لا يقال: لو قيل بحجية الظن مع انفتاح باب العلم، لزم ان يكون مطلق الظن بمختلف مناشئه، ومراتبه، وما تعلق به في عرض الظنون الخاصة، أي التي ثبت اعتبارها بدليل خاص كخبر الثقة فتعارضها، وهو بديهي البطلان.
إذ يقال: كلا، لأن التعارض فرع التكافؤ ولا تكافؤ بين أنواع الظنون بمراتبها ومناشئها، ألا ترى ان الأصوليين الذين قالوا بحجية ظنون خاصة يرجّحون بعضها على بعض بالأظهرية أو الحكومة أو غيرهما؟ فالخاص مقدم على العام بالأظهرية (على رأي) والامارة مقدمة على الاستصحاب بالحكومة (على رأي) وقد يتقدم بعضها على بعضها بالورود، أو بالجمع العرفي بغير ما سبق، كما ان المستفيض متقدم على خبر الواحد وهكذا. كما ان الامارات في باب الموضوعات مقدم بعضها على بعض كتقدم البيّنة على اليد والسوق، وتقدم الإقرار على اليد وعلى البينة([7]) أيضاً.
فكذلك لو قلنا بحجية الظنون المطلقة فان مراتبها تكون محفوظة بحسب درجات الاظهرية والناظرية وغيرهما. فتدبر جيداً. وللبحث صلة بإذن الله تعالى. وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ((وَلَا يَسْتَحِيَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِذَا سُئِلَ عَمَّا لَا يَعْلَمُ أَنْ يَقُولَ لَا أَعْلَمُ وَلَا يَسْتَحِيَنَّ أَحَدٌ إِذَا لَمْ يَعْلَمِ الشَّيْءَ أَنْ يَتَعَلَّمَهُ)) (نهج البلاغة: الحكمة 82).
-------------
([1]) وقد نختلف في بعض الصغريات عنه (قدس سره).
([2]) الدرس (29).
([3]) ولذا لا يعملون، حتى على الانفتاح، بالظن الاستصحابي (رغم وجود صحاح عليه) مع وجود خبر ثقة على الخلاف.
([4]) أي وإن لم يثبت بناء العقلاء عليه.
([5]) ان تكون الظنون في معرض ان يعمل جمع معتد بها.
([6]) لكن هذا يحتاج إلى مراجعة كلماته (قدس سره).
([7]) فيما لا يعلم إلا من قبله أو مطلقاً.
|