• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : الظن (1442-1443هـ) .
              • الموضوع : 034-بناء العقلاء وصدق (ليتفقهوا) وعمل الفقهاء بالظنون المطلقة .

034-بناء العقلاء وصدق (ليتفقهوا) وعمل الفقهاء بالظنون المطلقة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

(34)

شواهد على نفي الفقهاء للظهور، بالظن المطلق

ومن الشواهد الفقهية الواضحة على اختلاف الفقهاء في دعوى الانصراف وان المدعي لا يستند إلى ظن خاص بل إلى ظنون مطلقة غير منضبطة كمناسبات الحكم والموضوع أو مرتكزات أخرى بنظره، مما سبق بيانه في الدرس السابق، مما قد لا يوافقه غيره ومما لا ينضبط في حد ذاته ولم يدل دليل على حجيته بخصوصه، مسألة المسح على الرأس بفروعها المختلفة:

المسح منكوساً وبظاهر الكف وباليسرى وبكل اليد

ومنها: المسح على الرأس منكوساً فقد ذهب صاحب العروة انه: (يجزىء النكس، وإن كان الأحوط خلافه) وهو احتياط استحبابي، ولم يعلق عليه السيدان الوالد والعم مما يعني تأييده، بينما علّق السيد الجدّ بـ(فيه وفي المسح عرضاً تأمل) فيما ذهب الأكثر إلى ان الاحتياط وجوبي ومنهم  الذين عبّروا بـ(لا يُترك) وهم حسب العروة المحشاة بحواشي 41 من العلماء (السيد حسين القمي، الاصطهباناتي، الرفيعي، المرعشي، الخوئي، الآملي، حسن القمي).)([1]).

ومنها: المسح بباطن الكف وعلى لزومه المشهور ومنهم السيدان الوالد والعم، ولكن ذهب غير المشهور كالسيدين الفاني والسيستاني إلى كفاية المسح بظاهر الكف واحتاطا استحباباً.

ومنها: المسح باليد اليمنى على الرأس، إذ اختار المشهور لزومه، فتوى أو احتياطاً، بينما ارتأى السيدان مفتي الشيعة والسيستاني عدم لزومه.

ومنها: المسح بالأصابع، فقد ارتأه المشهور بينما ارتأى بعض كفاية المسح فمثلاً: (ولكن لا يعتبر كونه بالكفّ وبنداوته، فيكفي المسح بأيّ موضع من مواضع اليد التي يلزم غسلها في الوضوء حتى الذراع، وإن كان ذلك على خلاف الاحتياط. (السيستاني).)([2]).

والشاهد: ان المسح بمفرده لا شك انه يصدق على كافة المذكورات (المنكوس، وبظهر الكف وباليسرى وبأي مكان من الذراع) ولذا أجازه من أجازه ولكن المشهور تارة والعديد من أعاظم الفقهاء تارة أخرى التزموا بعدم كفاية ذلك استناداً إلى الانصراف ومناسبات الحكم والموضوع وشبه ذلك إذ لاحظوا قوله تعالى: (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ)([3]) وبمرتكزات ذهنية رفعوا اليد عن ظهوره (إن لم يكن نصه العرفي في الشمول لتلك الموارد) في الإطلاق، وذلك كله مما لا ينضبط ومما عهدته على مدعيه([4]).

وكذلك حال من يدعي انصراف ((يَجُوزُ)) في قوله (عليه السلام): ((وَالْغُلَامُ لَا يَجُوزُ أَمْرُهُ فِي الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ وَلَا يَخْرُجُ مِنَ الْيُتْمِ حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً))([5]) حيث ارتأى العديد من الفقهاء انصرافه إلى الجواز الاستقلالي فيكون مفاد الحديث جواز معاملات الصبي الراشد بإذن الولي خلافاً للمشهور، كما فصّلناه في بحث البيع أخذاً ورّداً فراجع.

2- استنباط الفقيه المستند إلى الاستظهار الظني

وأما الأول، وهو استناد الفقيه في استنباط الحكم الشرعي إلى الظهور والذي لا محالة يعود إلى الاستظهار، فبيانه يتوقف على تمهيد مقدمة وهي الفرق بين (الظهور) و(الاستظهار)، فان الظهور قائم باللفظ والاستظهار قائم بالفقيه، والظهور ثبوتي والاستظهار إثباتي، والظهور حجة على الجميع، أما الاستظهار فهو حجة على المستظهر وعلى مقلديه دون سائر المجتهدين، وذلك كالإجماع الذي عدّ الدليل الرابع والإجماع المنقول فانه قد يقال بحجية الإجماع، للحدس أو للّطف أو غيرهما ولا يقال بحجية الإجماع المنقول ككاشفٍ عن الإجماع الثبوتي، والكلام هنا عن استظهار الفقيه وليس عن الظهور فلا يقال ان الظهور حجة دون شك كما ان الكلام قد يكون عن الإجماع المنقول فلا يقال ان الإجماع حجة دون شك.

إذا عرفت ذلك فنقول: استظهار الفقيه الإطلاق كثيراً ما يكون مستنداً إلى ظنون مطلقة لا خاصة، ومن أوضح الأمثلة على ذلك ان الفقيه لو أفتى بالشمول مستنداً إلى الإطلاق في المفرد المحلى باللام مثلاً فانه وإن بدأ ان الإطلاق ضابط نوعي منهجي وظن خاص، لكن المشكلة تكمن في انه لا ينعقد إلا بمقدمات الحكمة ومنها ان يكون المولى في مقام البيان من هذه الجهة، وكونه في مقام البيان من هذه الجهة وعدمه هو الذي كثيراً ما يستند فيه الفقيه (وجوداً أو عدماً) إلى ظنونه المطلقة ومرتكزاته وحدسياته وما يراه من القرائن العامة، أما الاستناد إلى ظن خاص، كإخبار زرارة مثلاً ان الإمام (عليه السلام) كان في مقام البيان من هذه الجهة، وأمثاله فقليل أو نادر.

الظن المطلق للمجتهد حجة ولكن بشرطين

لا يقال: على هذا فكل ظن حصل للمجتهد بالحكم الشرعي فهو حجة لأنه ظن المجتهد كما تقولون فيصح استناده إلى القياس والأحلام مثلاً في إحراز الإطلاق وكون المولى في مقام البيان من هذه الجهة مثلاً كما لو رأى في المنام ذلك فحصل له بذلك الظن الشخصي؟

إذ يقال: كلا، بل ان الحجة هو كل ظن غير مردوع عنه شرعاً أو مُعرَض عنه لدى العقلاء، فهو حجة مادام قد حصل للخبير فيخرج القياس لأنه مردوع عنه شرعاً بالضرورة كما تخرج الأحلام لأنها معرض عنها بالضرورة في التقنين العقلائي، والشارع سيدهم.

وبوجه آخر انه سبق: (الوجه الأول: قوله تعالى: (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ)([6]) فان التفقه صادق عرفاً وبالحمل الشائع الصناعي، على كلا النوعين السابقين من الاجتهاد أي سواء أكان مستنداً إلى الظنون الخاصة أم المطلقة؛ ألا ترى ان صاحب القوانين مجتهد يصدق عليه انه متفقه في الدين قطعاً رغم انه يستند في اجتهاده إلى الظنون المطلقة بعد انسداد باب العلم حسبما يراه؟ فتأمل)([7]) لكن التفقه مشروط بشرطين: ان لا يكون مستنداً إلى ظن مردوع عنه شرعاً وان لا يكون مستنداً إلى ظن معرض عنه عقلائياً؛ ولذا لو استنبط الفقيه الحكم الشرعي من الشهرة، وكان قائلاً بعدم حجيتها، لكنه اعتمد عليها في المقام لحصول الظن الشخصي له منها، صحّ لمقلده العالم بذلك تقليده فيه لصدق (يتفقهوا) على هذا الفقيه وإن كان مستنداً إلى الشهرة مادامت مختلفاً فيها ولا ردع شرعاً عنها كما لا إعراض للعقلاء عنها، ولذا نجد ان الشيخ مثلاً رغم انه ارتأى ان ظاهر ((وَالْغُلَامُ لَا يَجُوزُ أَمْرُهُ)) هو الجواز استقلالاً فهو المنفي وانه يصح عقده مع إذن وليه تبعاً لظاهر الرواية (أو منصرفها) إلا انه بنى على رأي المشهور فقال لا يصح عقده ولو بالإذن، مع انه لا يرى حجية الشهرة وللبحث صلة بإذن الله تعالى.

وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ((تَنَاصَحُوا فِي الْعِلْمِ، فَإِنَّ خِيَانَةَ أَحَدِكُمْ فِي عِلْمِهِ أَشَدُّ مِنْ خِيَانَتِهِ فِي مَالِهِ، وَإِنَّ اللَّهَ مُسَائِلُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏‏‏)) (الأمالي للطوسي: ص126)


--------------
([1]) السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي، العروة الوثقى والتعليقات عليها، مؤسسة السبطين (عليهما السلام) العالمية ـ قم، ج3 ص222-223.

([2]) المصدر: ج3 ص231.

([3]) سورة المائدة: الآية 6.

([4]) قال السيد الوالد في موسوعة الفقه حول المسح على الرأس منكوساً (واستدل للقول الأول: وهو الأقوى ـ كما ذكره المصنف لإطلاق الآية الكريمة، وجملة من الروايات المطلقة، ولصحيح حماد بن عثمان عن الصادق (عليه السلام): ((لَا بَأْسَ بِمَسْحِ الْوُضُوءِ مُقْبِلًا وَمُدْبِراً))*، ولجواز النكس في مسح الرِجل كما سيأتي، فيجوز في مسح الرأس أيضاً، للإجماع المركب.

واستدل للقول الثاني: بقاعدة الاشتغال بعد المنع عن الأدلة المذكورة للقول الأول: أما الإطلاقات فبأنها منصرفة** إلى المتعارف الذي هو من الأعلى إلى الأسفل، وأما الصحيحة فلأن الشيخ رواها في مكان آخر بنفس السند هكذا: ((لَا بَأْسَ بِمَسْحِ الْقَدَمَيْنِ مُقْبِلًا وَمُدْبِراً))***، فجواز النكس خاص بمسح القدمين، واحتمال تعدد الرواية بعيد، والإجماع المركب ممنوع، لوجود جملة من المفصلّين بين الرأس والرجلين، ومنهم التهذيب والنهاية وغيرهما، هذا بالإضافة إلى ما يُحكى من أن العامة يجوّزون النكس، ومقتضى كون الرشد في خلافهم عدم جوازه). (السيد محمد الحسيني الشيرازي، موسوعة الفقه / كتاب الطهارة، دار العلوم ـ بيروت، ج8 ص255-256).

وقال عن المسح بباطن الكف دون ظاهرها: (وأما لزوم أن يكون بباطن الكف دون ظاهرها، فلأنه المنصرف من الكف****، فإذا قيل أخذه بكفيه انصرف إلى باطن الكف، وكذلك إذا قيل رفع كفه إلى السماء، أو قيل كف خضيب أو غير ذلك. نعم المحكي عن الغنية والشهيد أفضلية باطن الكف، لكن الدليل لا يساعدهما) (السيد محمد الحسيني الشيرازي، موسوعة الفقه / كتاب الطهارة، دار العلوم ـ بيروت، ج8 ص265-266).

وقال في المسح باليمنى: ({والأحوط أن يكون باليمنى}، اختار الإسكافي وبعض المتأخرين وجوب ذلك، (أقول: ووجهه دعوى الانصراف والرواية الآتية) لكن عن المشهور استحبابه، بل عن الحدائق: ظاهر الفقهاء الإتفاق على استحبابه، وذلك لإطلاق الآية والروايات التي لا مقيّد لها إلاّ صحيح زرارة: ((وَتَمْسَحُ بِبِلَّةِ يُمْنَاكَ نَاصِيَتَكَ))*****.

والمشهور حملوها على الاستحباب لأنها لا تصلح لتقييد المطلقات الكثيرة، فإن ظهورها في الإطلاق أقوى من ظهور الصحيحة في الوجوب******، وهذا غير بعيد بعد كثرة الروايات البيانية من دون إشارة إلى ذلك) (السيد محمد الحسيني الشيرازي، موسوعة الفقه / كتاب الطهارة، دار العلوم ـ بيروت، ج8 ص266).

* تهذيب الأحكام: ج1 ص58.

** (أقول: هنا موطن الشاهد).

*** تهذيب الأحكام: ج1 ص83.

**** (أقول: وهذا موطن الشاهد).

***** الكافي: ج3 ص25، وتهذيب الأحكام: ج1 ص360.

****** (أقول: ولأن المثبتين لا يقيد أحدهما الآخر).

([5]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران، ج7 ص197.

([6]) سورة التوبة: الآية 122.

([7]) الدرس (32).

 


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=3976
  • تاريخ إضافة الموضوع : الأحد 29 ربيع الثاني 1443هـ
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 03 / 15