بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(498)
مضى: (أقول: يرد على قوله (الاستثناء دليل العموم) إضافة إلى ان الاستثناء كلما وجد فهو دليل العموم كما في رواية العبد، أما في المقام فانه لا يوجد استثناء إذ الرواية ((وَالْغُلَامُ لَا يَجُوزُ أَمْرُهُ فِي الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ وَلَا يَخْرُجُ مِنَ الْيُتْمِ حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً))([1]) فينبغي ان يستدل بصحة الاستثناء لا به، بان يقال: صحة الاستثناء من ((وَالْغُلَامُ لَا يَجُوزُ أَمْرُهُ)) بـ(إلا بإذن سيده) دليل على إطلاق الرواية حيث لم يرد فيها استثناء)([2]).
صحة الاستثناء دليل صحة الإطلاق لا فعليته
ونضيف: ان صحة الاستثناء دليل على صحة العموم وليست دليلاً على فعليته إذ التلازم إنما هو بين الفِعليّتين أو الصحّتين، وذلك كما ان صحة الإطلاق ليست دليلاً على فعليته بل ان الانتقال من الصحة إلى الفعلية بحاجة إلى دليل آخر فلو صلح اللفظ في حد ذاته لأن يكون مطلقاً احتاج لتحقق مقدمات الحكمة الثلاث ليكون بالفعل مطلقاً، نعم لو أقيم الدليل على صحة الاستثناء بلا تجوّز أو تأويل لكان دليل الفعلية حينئذٍ.
كما سبق: (ان للعقد إضافتين: إضافة إلى الولي وإضافة إلى الصبي، وذلك ككل علّتين طوليتين حيث تجوز إضافة المعلول إلى كل منهما كما قال تعالى: (وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ)([3]))([4]) وبعبارة أخرى: الأمر له إطلاقان: بما هو هو، وإطلاق آخر طولي بما هو مستند إلى شخص، فقد لا يكون صحيحاً نافذاً بالإطلاق الأول ويكون نافذاً بالإطلاق الثاني، ولكن الوارد في الرواية ((أَمْرُهُ)) فالأولى هو تعبير الاضافتين السابق وما ذكره السيد الحكيم فتدبر.
الفرق بين لا يجوز ولا يُجاز
وبوجه آخر: نص الرواية ((الْغُلَامُ لَا يَجُوزُ أَمْرُهُ)) وليست (لا يُجاز أمره) والرواية نفت الأول دون الثاني، وفرق واضح بين يجوز ويُجاز فان الأول من المصدر المجرد والثاني من باب الافعال والنسبة بينهما العموم من وجه فقد يجوز ولا يُجاز وقد يُجاز ولا يجوز وقد يجتمعان كما قد يرتفعان؛ ألا ترى الفرق بين (مرّ ومُرّ به، ولم يمرّ ولم يُمَرّ به) فإن مرّ ظاهر في مروره عن قصد واختيار وغيره تسامح، وأما مُرّ به فانه قد يكون بلا قصد أو إرادةٍ فيصدق حتى وهو نائم أو مسجون مكره أو مجبر، وكذا الفرق بين شَمَخَ وشُمِخ به أو استعلى واستُعلِي به، فقد يَستعلي الوزير أو العالم ولا يَستعلِي به من حوله وقد لا يستعلى الوزير أو العالم ولكن يستعلي به من حوله من معاون أو مساعد أو ابن أو حتى خادم، وقد يجتمعان، وقد يرتفعان، وقديماً قال ذلك البعيد ابن الزبير: ((إِنَّ لَهُ أَهْلَ بَيْتِ سَوْءٍ إِذَا ذَكَرَتْهُ اشْرَأَبَّتْ نُفُوسُهُمْ إِلَيْهِ وَفَرِحُوا بِذَلِكَ فَلَا أُحِبُّ أَنْ أُقِرَّ أَعْيُنَهُمْ بِذَلِكَ))([5]) يقصد انه لا يذكر اسم المصطفى محمد (صلى الله عليه وآله) كي لا يفتخر به أسباطه الأطهار.
وفي المقام: قوله (عليه السلام) ((لَا يَجُوزُ أَمْرُهُ)) ظاهر في إسناد الجواز إلى أمر الصبي وهو مغاير مع (لا يُجاز أمره) بإسناد جواز أمره إلى غيره، فقد يحسن هذا أو يصح دون ذاك وقد يكون العكس، والرواية تنفي جواز أمره لا إجازة أمره.
لا يقال: إذا أجيز أمره فقد جاز؟
إذ يقال: ذلك بالمعنى الاسم مصدري صحيح، لا بالمعنى المصدري، والمعنى الاسم مصدري بحاجة إلى قرينة.
صحيحة العيص مقيّدة لرواية ((لَا يَجُوزُ...))
خامساً: وقد يستدل على جواز أمر الصبي بصحيحة العيص بن القاسم وهي مقيّدة لرواية الكليني عن الإمام الباقر (عليه السلام) الوارد فيها ((الْغُلَامُ لَا يَجُوزُ أَمْرُهُ)) لأنها تفيد كفاية أحد الأمرين (الرشد والبلوغ) على سبيل البدل.
أما رواية الإمام الباقر (عليه السلام) فهي عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن ابن محبوب عن عبد العزيز العبدي عن حمزة بن حمران عن حمران قال: ((سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) قُلْتُ لَهُ: مَتَى يَجِبُ عَلَى الْغُلَامِ أَنْ يُؤْخَذَ بِالْحُدُودِ التَّامَّةِ وَتُقَامَ عَلَيْهِ وَيُؤْخَذَ بِهَا؟ فَقَالَ: إِذَا خَرَجَ عَنْهُ الْيُتْمُ وَأَدْرَكَ، قُلْتُ فَلِذَلِكَ حَدٌّ يُعْرَفُ بِهِ؟ فَقَالَ: إِذَا احْتَلَمَ أَوْ بَلَغَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً أَوْ أَشْعَرَ أَوْ أَنْبَتَ قَبْلَ ذَلِكَ أُقِيمَتْ عَلَيْهِ الْحُدُودُ التَّامَّةُ وَأُخِذَ بِهَا وَأُخِذَتْ لَهُ،
قُلْتُ: فَالْجَارِيَةُ مَتَى تَجِبُ عَلَيْهَا الْحُدُودُ التَّامَّةُ وَتُؤْخَذُ لَهَا وَيُؤْخَذُ بِهَا؟
قَالَ: إِنَّ الْجَارِيَةَ لَيْسَتْ مِثْلَ الْغُلَامِ إِنَّ الْجَارِيَةَ إِذَا تَزَوَّجَتْ وَدُخِلَ بِهَا وَلَهَا تِسْعُ سِنِينَ ذَهَبَ عَنْهَا الْيُتْمُ وَدُفِعَ إِلَيْهَا مَالُهَا وَجَازَ أَمْرُهَا فِي الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ وَأُقِيمَتْ عَلَيْهَا الْحُدُودُ التَّامَّةُ وَأُخِذَ لَهَا بِهَا قَالَ: وَالْغُلَامُ لَا يَجُوزُ أَمْرُهُ فِي الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ وَلَا يَخْرُجُ مِنَ الْيُتْمِ حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً أَوْ يَحْتَلِمَ أَوْ يُشْعِرَ أَوْ يُنْبِتَ قَبْلَ ذَلِكَ))([6]) ونظيرها رواية الإمام الصادق (عليه السلام) وهي: الصدوق في الخصال عن أبيه عن سعد عن أحمد بن محمد عن ابن أبي نصر عن أبي الحسين الخادم بيَّاع اللّؤلؤ عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ((سَأَلَهُ أَبِي وَأَنَا حَاضِرٌ عَنِ الْيَتِيمِ مَتَى يَجُوزُ أَمْرُهُ؟ قَالَ: حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ. قَالَ: وَمَا أَشُدُّهُ؟ قَالَ احْتِلَامُهُ، قَالَ: قُلْتُ: قَدْ يَكُونُ الْغُلَامُ ابْنَ ثَمَانَ عَشْرَةَ سَنَةً أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ وَلَمْ يَحْتَلِمْ، قَالَ: إِذَا بَلَغَ وَكُتِبَ عَلَيْهِ الشَّيْءُ جَازَ أَمْرُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً))([7])
وأما صحيحة العيص فهي: عن الحسن بن محمد بن سماعة عن علي بن رباط والحسين بن هاشم وصفوان بن يحيى عن عيص بن القاسم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ((سَأَلْتُهُ عَنِ الْيَتِيمَةِ مَتَى يُدْفَعُ إِلَيْهَا مَالُهَا؟ قَالَ: إِذَا عَلِمْتَ أَنَّهَا لَا تُفْسِدُ وَلَا تُضَيِّعُ، فَسَأَلْتُهُ: إِنْ كَانَتْ قَدْ تَزَوَّجَتْ؟ فَقَالَ إِذَا تَزَوَّجَتْ فَقَدِ انْقَطَعَ مِلْكُ الْوَصِيِّ عَنْهَا))([8]) وظاهرها كفاية أحد الأمرين: الرشد والزواج المكنى به عن البلوغ، وسيأتي بإذن الله تعالى بحث النسبة بينهما وبين الروايتين السابقتين.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأصحابه: ((إِنَّ النَّاسَ لَكُمْ تَبَعٌ وَإِنَّ رِجَالًا يَأْتُونَكُمْ مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ يَتَفَقَّهُونَ فِي الدِّينِ فَإِذَا أَتَوْكُمْ فَاسْتَوْصُوا بِهِمْ خَيْراً)) (عوالي اللآلئ: ج1 ص357).
----------------------
([1]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران، ج7 ص197.
([2]) الدرس (497).
([3]) سورة الإنسان: الآية 30.
([4]) الدرس (497).
([5]) العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مؤسسة الوفاء ـ بيروت، ج48 ص182.
([6]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامي ـ طهران، ج7 ص197.
([7]) الشيخ الصدوق، الخصال، مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم، ج2 ص495.
([8]) المصدر: ج7 ص68.
|