بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
كان الكلام حول طوائف الآيات القحرآنية التي استُدل أو يمكن الاستدلال بها على وجوب النظر والاجتهاد في أصول الدين، وحرمة التقليد.
ووصل الكلام الى الطائفة الثانية التي ذكرها صاحب القوانين وعدد آخر من الاعلام وهي الآيات الدالة على ذم الكفار على اتباعهم آبائهم في أصول الدين من غير فكر ونظر كقوله تعالى: )قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ(
وتقدم ذكر الجواب الأول عن هذا الاستدلال، أما الجواب الثاني: فهو ما ذكره المحقق صاحب القوانين، وهذا الجواب حري بالتدبر لأنه يتضمن تحليلاً للمخاطب بهذه الآيات الكريمة وبيان مَن هو المخاطب، حيث قسم المخاطبين بالآيات الى أربعة أقسام، لكن بتصرف بسيط في كلامه سنجعلها خمسة كما هو الحق، ثم سنضيف لها قسماً سادساً، وهذا البحث بهذا الشكل لعله لم يطرح سابقاً، لذا التوقف عنده مطلوب.
أما كلامه مع التحليل والتوضيح فهو: أن المخاطبين بهذه الآيات هم فريقان، وهناك ثلاث فرق غير مخاطبة بهذه الآيات:
الفريق الأول هم المعاندون الذين ظهر لهم الحق )يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا(
الفريق الثاني هم الذين لم يظهر لهم الحق ولكن أُقيمت عليهم الحجة فقصّروا في الطلب، فهم – مثلاً – لم يظهر لهم أن رسول الله (ص) هو نبي حقاً، خلاف الفريق الأول الذي عرف ذلك لكن )وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ( لكنهم أي الفريق الثاني كان طريق الحق لهم مفتوحاً لكنهم لم يحققوا فهم مستحقون للذم.
صاحب القوانين يقول أكثر الآيات واردة في هذين الفريقين، إذن لا يتم الاستدلال بهذه الآيات على ذم عوامنا في تقليدهم المجتهدين العدول جامعي الشرائط؛ لأن الآيات تذم من ظهر له الحق وعاند وتذم من ظهرت له الحجة فقصر في الطلب، وليس عوامنا كذلك، فإنهم لم تظهر لهم الحجة على خلاف رأي المجتهدين فعاندوا.
القسم الثالث الذي يقول صاحب القوانين أن الآيات لا تشمله هو الجاهل الغافل، فإنه قاصر والقاصر ليس معاقباً وقد قال تعالى: )فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ(.
القسم الرابع وهو الذي حصل له اطمئنان بخلاف قول الرسل عليهم السلام، فهو قاصر أيضاً إذ له اطمئنان شخصي والاطمئنان بمنزلة العلم، وهذا الكلام يحتاج الى تحليل فهل بالفعل أن المطمئن قاصر أو لا؟ ظاهر كلام القوانين أنه قاصر يلغي احتمال الخلاف، وهذا يحتاج إلى بحث، فإن من اطمئن إلى كذب مدّعي الرسالة فهل يسوغ له ترك النظر أم أن عقله يلزمه ولو كان الاحتمال بنسبة الواحد في المائة أن ينظر؟ وقد حققناه سابقاً.
القسم الخامس هو ذلك الذي حقق عن كلام الرسول صلى الله عليه وآله واجتمعت عنده ظنون لكن انسد عليه باب العلم فكيف يطالب بالعلم أو يعاقب على عدم الاجتهاد الموصل له؟ فهذا أيضاً قاصر.
وهذه الأقسام الثلاث الأخيرة لا يشملها العقاب حسب كلام القوانين.
وسيأتي بيان معنى عدم كونهم معاقبين بعد ذكر نص عبارته، أما نص عبارته فهو: (اكثرها وارد في المتعنتين المعاندين الذين ظهر عليهم الحق وتركوه تعنتاً وأقيمت عليهم الحجة من الإرشاد والهداية وكانوا يقصرون في النظر) ، هذان القسمان يشملهما الذم والعقاب بحسب عبارته ولا تدل الآيات على عقاب أقسام ثلاثة أخرى، القسم الأول ما ذكره بقوله: (ولا تدل على أن الجاهل الغافل) والقسم الثاني (والذي حصل له الاطمئنان ولو بتقليد غيره من جهة حسن ظنه به) مستحق للعقاب، والمستظهر أن المراد من الاطمئنان هو الاطمئنان الشخصي المكافئ للعلم وهذا القسم ألحقه صاحب القوانين بالقاصر ظاهراً. أ) بقرينة المقابلة (ويقصرون في النظر) ب) وبقرينة قوله: والذي حصل له اطمئنان ولو بتقليد غيره من جهة حسن ظنه به، فبقرينة هذا الذيل (ولو من جهة حسن ظنه) الظاهر في حسن الظن الشخصي وستأتي قرينة ثالثة أقوى بإذن الله.
القسم الآخر (الخامس) هو الانسدادي (والذي حصل له الظن بطرق ولا يمكنه تحصيل أزيد منها معاقبون على ذلك) هذه هي الأقسام الخمسة التي ذكرها أو ينبغي أن يذكرها صاحب القوانين.
هنا تعليقات عديدة على كلامه بين إضافة ونقد:
التعقيب الأول: أن هناك قسماً سادساً وهو موضع الابتلاء ولم يشر له صاحب القوانين وهو مورد بحثنا، وهو الجاهل البسيط بالحقيقة الملتفت إلى احتمال الخلاف غير الظان ظناً شخصياً بل المتوهم أن هذا الطريق من مصاديق الطرق العقلائية، أي يتوهم كون إتباع الآباء طريقاً عقلائياً أي يتصوره ظناً نوعياً، مثاله شخص من العوام يتصور كون الشعبذة أو قراءة الكف ونحوها طريقاً عقلائياً لإصابة الحقيقة من دون أن يحصل له الظن الشخصي المتاخم للعلم، فهذا قسم سادس ولا يندرج في أقسامه، وليس هذا بقاصر وكلامنا في المقام في هذا القسم، وهو هل أن إتباع المجتهد الجامع للشرائط طريق عقلائي و(ظن نوعي) مبرء للذمة حتى لو لم يحصل لي منه العلم والظن الشخصي المتاخم للعلم، فهل قول المجتهد الجامع للشرائط ظن نوعي معذر ومنجز أم لا؟
وكان ينبغي لصاحب القوانين إضافة هذا القسم، وهذا القسم تشمله الآيات، فقد يقال أن الآيات حتى مع رأسها )فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ( تشمل هذا القسم فإن الآيات تعم فريقين، الأول هم الذين يرون لاتباع آبائهم الموضوعية وإن خالف الآباءُ الحقَّ والفريق الثاني هو هذا القسم السادس مورد الابتلاء، وهو الذي لا يرى للآباء موضوعية بل يرون لهم الطريقية العقلائية، أي يرون أن رأي الآباء طريق عقلائي للحقيقة وإن لم نطمئن بكلامهم ولم يحصل لنا ظن متاخم للعلم، فإن هؤلاء يصح أن يقال لهم هذا ضلال وأنتم تستحقون العقاب لو أتبعتم هذا الطريق لأنه ليس طريقاً عقلائياً وإنما هو طريق جهل. قال تعالى: )أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ(.
اللهم إلا أن يريد صاحب القوانين إدراج هذا القسم في القسم الرابع لكنه خلاف الظاهر جداً لأن القسم الرابع هو المطمئن فإذا قصد من الأقسام الأخيرة خصوص القاصر كي لا يشملهم العقاب فلا بد أن يقتصر على المطمئن بالاطمئنان الشخصي، وإلا فلو أراد تعميمه للسادس فحينئذ لا يدخل في القاصر فيستحق العقاب، وهو مخالف لكلامه.
التعقيب الثاني: وهو تعقيب واضح وبسيط فنقول: إن صاحب القوانين لم يصنع شيئاً على جلالة شأنه لأن غاية ما قاله أن أكثر الآيات واردة في خصوص الفريقين الأولين (المتعنت والمقصر)، إذن هو يعترف بأن هناك آيات عامة، والمحتج لا يستدل بذلك الأكثر بل يكفيه وجود آية واحدة عامة لغير الفريقين الأوليين أي تذم من يتبع الغير من دون أن يكون قد حصل له علم بذلك، وسيأتي تخريج كلام صاحب القوانين لأنه من المستبعد أن يقع صاحب القوانين في ذلك.أما الآيات العامة فمنها قوله تعالى: )قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ( فهذه الآية عامة للقسم السادس أيضاً، ومنها قوله تعالى: )وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ( والخطاب عام لا لعلّية القوم فقط )قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا( فإن هذا كان جواب جميعهم وليس المتعنتون أو المقصرون فقط فإن الكثير ممن أقيمت عليه الحجة حتى في الوقت الحاضر يحتمل صحة كلام الخصم ويعاني من صراع مع نفسه لكنه يقول لأغض الطرف ولأبق على رأي آبائنا والسلف الصالح فيبقى على طريقة الآباء، ففي فترة الصراع نجده باقياً على ذلك الذي قد شك في حجيته وكان ينبغي ان لا يبقى لأن أمامه طريقان لا بد من إحراز أيهما الحجة واقعاً.
ومنها: )إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ( فكلهم قال وليس فريق خاص منهم )قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ( فإن خطاب إبراهيم عليه السلام كان للجميع لا لطائفة منهم، وكذا الآيات 20 و21 من سورة لقمان والآية 40 من سورة يوسف والآية 62 من سورة هود كلها عامة ظاهراً.
وحسب قراءة أوليّةسريعة وتتبع للآيات فإن الظاهر مبدئياً أن قول صاحب القوانين (أكثرها) غير صحيح بل الصحيح (أقلها) أي بحسب التتبع فأن أقلها خاص بـ(المتعنتين المعاندين) وأكثرها هو العام الشامل. وهذه الآيات التي ذكرناها هي بعض الآيات العامة الشاملة، لكن هذا لا يؤثر في البحث كثيراً إذ يكفي وجود آية واحدة شاملة تكفي دليلاً للمحتج، فلا حاجة لتنقيح ذلك أكثر، نعم يمكن أن يقال ان صاحب القوانين لم يقصد ما ذُكِر من أن أكثر الآيات وارد في الفريقين الأوليين فقط حتى يقال له: بأنه ليكن أكثرها كذلك لأن أقلها لو كان عاماً لكفى، توضيحه: أنه قد يقال دفاعاً عن صاحب القوانين أنه استند إلى العقل في رد الشمول للفرق الثلاثة الأخيرة بأن يقال: أن صاحب القوانين قال: أكثرها ورد في الفريقين الأولين أما الفرق الثلاثة الأخيرة فلا يعقل أن تكون هذه الآيات وغيرها شاملة لها، أي أن الأكثر ورد في المتعنت والأقل وإن لم يرد في المتعنت لكن عقلاً (قرينة مقامية) لا يمكن أن يشمل الأقسام الثلاثة لأنهم قاصرون فلا يعقل أن يخاطبهم الله تعالى بأنهم معاقبون )فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ(.
فإذا فسرنا كلام صاحب القوانين بذلك، كان صحيحاً دقيقاً فإن (الجاهل الغافل و... و...) قاصرون ولا يعقل أن يكون القاصر معاقباً فما الجواب عن هذا الوجه التخريجي دفاعاً عن صاحب القوانين؟
يأتي الجواب عنه إن شاء الله تعالى وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين... |