بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
كان الكلام حول الطائفة الثانية التي استُدل او يمكن الاستدلال بها على وجوب النظر والاجتهاد في اصول الدين وحرمة التقليد وهي الطائفة التي تذم الكفار على اتباعهم اباءهم,واجبنا باجوبة ثلاثة عن هذا الاستدلال وكان الجواب الثالث ما ذكره الفقه واشكل عليه
اما تقرير الجواب الثالث فهو:ان ذم القران الكريم للكفار ليس على مطلق الاتباع وعلى التقليد بما هو هو بل انما هو على تقليد خاصٍ اي على صنف من اصناف التقليد وهو التقليد بالباطل او التقليد على الباطل ,اي مجموع المتعلِّق والمتعلَّق أي بشرط كون متعلَّقا التقليد هو الباطل ,فهذا هو المذموم وليس مطلق التقليد او التقليد بالحق , توضيح ذلك: ان الصور المحتملة في المقام ثلاثة:
الاولى:ان يكون ذم القران للكفار على التقليد في اصول الدين، ذمّاً على او التقليد مطلقا بما هو هو ,اي هذا العنوان بذاته مذموم كما ان القياس بحد ذاته مذموم ولو تم هذا الاحتمال لكان دليلا للخصم الثانية: ان تكون الايات تذم التقليد للاباء في باطلهم( فلا تدل على ذم تقليد عوامنا لمجتهدينا العدول جامعي الشرائط في حقهم او مطلقا اي بما هو هو) الثالثة:ان الذم هو على التقليد بالحق ولا يستغرب من ذلك إذ هذه الصورة ايضا محتملة بان يذم المقلد للحق نظير القاضي (ورجل قضى بالحق وهو لا يعلم فهو في النار) وظاهر الايات هو ان الذم للكفار على الصورة الثانية اي ان الذم ليس لاصل التقليد باعتبار انه ليس طريقا عقلائيا , وليس الذم لتقليدهم في الحق، بل الذم لاتباعهم غيرهم في الباطل,وذلك لأن القران حين يذم الكفار يشفعه بـ) أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ( ونظائره والظاهر منه ان وجه الذم ليس التلقيد بما هو هو وانما لأن الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير باتباع الاباء, وكذا الاية الاخرى ) أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ( اي لم تتبع الضال غير المهتدي؟ لا لم تتبع غيرك بما هو إتباع للغير وكذلك الاية )لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ( اذن الايات الشريفة ظاهرة في ذم التقليد بالصورة الثانية.
وبعض الايات وان لم يكن فيها ظاهراً بيان وجه المذمة لكن هذه الايات توضح تلك اي أن الايات التي بينت الوجه تكون بمنزلة الشارح للايات التي لم يبين فيها الوجه ,اذن فهذا المدعى دليله ظاهر الايات
(الفقه) يستشكل على هذا الكلام ويقول بانه لو قلنا ان الايات تذم خصوص تقليد الاباء بالباطل لا التقليد بما هو هو للزم تالي باطل وهو افحام المسلمين من قبل الكفار لأن أياً من مقلدة المسلمين وهم الاكثر اذا قال للكافر لم تقلد الاباء ؟ فله أن ينقض عليه ويقول انت لم تقلد ابائك وعلماءك؟ فإذا قال له: انني على حق, فيقول الآخر: انني أنا على حق، فقد تساوت الدعويان فكلانا يدعي انه على حق.
وببيان اخر لكلام الفقه: لو شرّع الله جواز التقليد لنا دونهم لافحمنا الكافر بما سبق بيانه ولانسد علينا باب الاحتجاج
ونقول في الجواب: هذا الاشكال الظاهر انه غير تام للوجوه الاتية:الوجه الاول:هو ان للعالم وهو الله تعالى المحيط بحال الفريقين والتمايز الثبوتي الحقيقي بينهما(المسلمين والكفار) ان يشرع لنا التقليد ويحرم عليهم أي يجوز للعالم ان يشرع التقليد لهذا لأنه على حق ويشرع التحريم على ذلك لأنه على باطل، من غير ان يمنعه عدم فهم الفريق الثاني لوجه الفرق، من التشريع, اي ان المولى لا يمنعه من التشريع عدم فهم المكلف وجه الحكمة فإن له مثلاً أن يشرع حرمة الخمر والغناء وان لم يعلم المكلف بوجهة بل ولو كانوا قاطعين بعكسه، فهل قطع الكثير من المكلفين بخطأ هذا التشريع يمنع المشرع من التشريع؟ كلا، بل أن المشرع حيث أنه مطلع على ان تقليد هؤلاء يوصلهم إلى الجنة وتقليد أولئك يوصلهم إلى النار فله ان يجوز لهؤلاء التقليد بل يوجبه عليهم تخييرا ويحرم على أولئك وان لم يفهم اولئك وجه الحكمة ووجه التفريق.
وبتعبير مكمل: فان الاحكام تابعة لمصالح ومفاسد في المتعلقات ولا يضر بها عدم فهم المكلف وجوه المصلحة أو المفسدة هنا أو هناك او انكاره لها.
نعم: غاية الامر انسداد باب الاحتجاج على مكلفينا, لكن هل انسداد باب الاحتجاج مسوِّغ لعدم التشريع؟, مثلا اذا كان بعض المكلفين غير قادر على الاحتجاج على ان على عوامنا الخمر محرمة فهل هذا يسوغ ان لا يشرع الشارع تحريم الخمر؟ ,اذن انسداد باب الاحتجاج فرضاً لا يسوغ عدم التشريع التابع لمصالح ومفاسد ثبوتية في المتعلقات
وثانيا:ان الباب لا ينسد حتى على عوامنا لأن عوامنا لا يحتجون على عوامهم بـ(التقليد) أي لا يحتج عوامنا عليهم باننا نقلد اباءنا او علمائنا فافعلوا مثلنا (لينقضوا عليهم بمطالبتهم بالعكس) بل يحتجون عليهم بـ(الدليل) إذ يستدل عامينا على عاميهم بادلة فهمها او سمعها من العلماء في التوحيد وغيره، والحاصل: أن العامي لا يستدل على المخالف باني اقلد ابي او العلماء فالحق معي أو فقلدهم مثلي بل يقول الحق معي بدليل حديث الغدير المتواتر مثلا ,إذا فباب الاحتجاج لا ينسد حتى على عوامنا لو شرع الله لعوامنا جواز تقليد مجتهدينا العدول في أصول الدين نعم لو اراد ان يحتج عليه باني اقلد ابي وهو حق فله ان يقول له انا ايضا اقلد ابي وهو حق فيفحمه وينسد عليه باب الاحتجاج، لكن الواقع يشهد بأن عوامنا لا يحتجون على عوامهم بالتقليد بل بالحجج والادلة فلا يلزم الافحام من تشريع جواز التقليد لنا دونهم. وثالثا:ان انسد فرضا باب الاحتجاج على عوامنا فان مجتهدينا لا ينسد عليهم الباب و لا يفحمون فلمجتهدنا مخاطبة عوام الفرق الاخرى بأن يقول لهم لا يجوز لكم تقليد الاباء فإنهم على باطل أو فإن التقليد في أصول الدين غير مبرء للذمة عقلاً فلا يستطيعون أن ينقضوا عليه بأنك انت ايضا تقلد الاباء لأنه يقول إنني مجتهد توصلت بالاستدلال والنظر لما اعتقدت به لا بالتقليد, اذن لو تم نقض عاميهم على عامينا فلا يتم نقضه على مجتهدينا, نعم لعامهم ان ينقض على مجتهدينا بعوامنا وانهم ايضا يقلدون فهم على باطل, فللمجتهد أن يقول: بطلان تقليدهم لا يصحح تقليدكم فهلموا إلى الادلة
وهذه الاجوبة كانت لتحليل الموضوع وتوضيح واقع الامر ويكفينا ظهور الايات في ان المذمة على التقليد، وأما الاشكال عليها فحتى لو لم نعرف الجواب عنه فلا يشكل خدشة في ظهور الايات.
الجواب الرابع:وهو ما خطر بالبال فنقول الرد على أقسام، فإنه: أ) تارة يردع عن اتباع شيء (طريق او متوهم الطريقية) لأنه ليس بطريق ولأنه ليس بموصل او لا اقتضاء له للحجية. ب) وتارة يردع عنه الحكيم او العقلاء لا لأنه ليس حجة بذاته بل يردع عنه لمعارضته بحجة اقوى ظنية, مثال ذلك الخبران لو تعارضا فانه يرجع للمرجحات كالشهرة وغيرها من المرجحات كما أن خبر الثقة لو تعارض مع الخبر المستفيض، تقدم عليه الأخير فتقدم احدهما على الاخر ليس لأن الاخر ليس بحجة بذاته بل لأقوائية الاخر. ج) وتارة يردع عن الحجة لمعارضتها بحجة قطعية,فلو ردع الشارع او المولى في الصورتين الاخيرتين فانه لا يعني اسقاط الطريق عن الحجية في حد ذاته لو خلي وطبعه, وما نحن فيه من هذا القبيل فإن الايات الشريفة الذامة لإتباع الكفار إنما ذمتهم لمعارضة اتباعهم لاباءهم بالدليل القطعي البرهاني الذي هو اعجاز القران وسائر معاجز النبي (ص) وليس الذم للتقليد بما هو هو وبعنوان أنه ليس بطريق عقلائي وهو النافع للخصم, قال تعالى: )وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ( لكن من القائل؟ أنه شخص يدعي النبوة واراهم المعاجز العينية البينة فان النبي صلى الله عليه وآله بحسب بعض التواريخ آراهم اربعة الاف معجزة,اذن وجه الإشكال عليهم أنه مع وجود الحجة القطعية كيف تتمسكون بالاباء وتقلدونهم؟ وهذا ليس مورد كلامنا ولا محل نزاع فان العامي المقلد للمجتهد لو قامت لديه الحجة القطعية على خطئه او خطأ مستنده فلا يجوز له التقليد حينئذ.
وكذلك حال الايات الاخرى نحو )إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ( مع ضميمة استدلال ابراهيم عليه السلام حيث قال لهم ) بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ( مع إدراكهم القطعي بأنهم لا ينطقون وأن كبير الأصنام لا يمكنه التحرك وكسر سائر الأصنام فكيف يكون إلهاً؟ فهي تورية اي ان كانوا ينطقون فقد فعله كبيرهم لكنهم لا ينطقون
وخلاصة الجواب الرابع ان هذه الايات رادعة عن اتباع الحجة الاضعف المعارضة بالحجة القطعية وذلك غير ما نحن فيه الجواب الخامس والاخير وقد ذكره الفقه ورده: وهو تنقيح صغروي لحال الكفار والتمسك بهذا التنقيح فان الايات ذمت اتباع الكفار لابائهم ولكن لماذا؟ الوجه الخامس يقول لأن الكفار كانوا باجمعهم عالمين عامدين منكرين متعنتين مستكبرين، واذا تمت هذه الصغرى فالاية تكون اجنبية عما نحن فيه وهو هل يجوز تقليد المجتهد الجامع للشرائط في اصول الدين من غير ان تعلم انه كاذب معاند بل كان ثقة كما هو مورد الكلام؟ والحاصل أن الآيات هي خطاب للكفار المعاندين لردعهم عن اتباع ابائهم في الباطل الذي يعلمون بانه باطل وان كل الكفار كانوا كذلك ودليل ذلك (لم يذكره الفقه ) ان الانبياء كانوا مسلحين بالمعاجز والبراهين القطعية والتي هي على مستوى عقول الناس في زمنهم فموسى عليه السلام جاء بالعصا التي هزمت السحرة بمرأى الكل وعيسى عليه السلام أحيى الموتى وأبرئ الأكمه وهم جميعاً كانوا يرون ذلك والنبي الاكرم صلى الله عليه واله جاء بالقران في زمن راحت فيه سوق البلاغة وتحداهم بان يأتوا بمثله ولا اقل بسورة واحدة وهذه أدلة وبراهين ومعاجز تامة على العالم والجاهل اذن كلهم كانوا معاندين
كان هذا توضيحا لكلام الفقه واذا تم هذا الجواب في التنقيح الصغروي فيكون جوابا اخر,لكن الظاهر (كما يقول الفقه ايضا لكن بإضافة وتوضيح منا) ان هذا الجواب والتنقيح الصغروي غير تام لأن من المقطوع به في كثير منهم ان المشكلة كانت في قابلية القابل رغم أن الأدلة والمعاجز في حد ذاتها كانت تامة غير قاصرة لكن الكثير منهم كانوا شاكين حقيقة والكثير منهم بالفعل لم يكونوا يعرفون الحقيقة فهؤلاء مرجون لأمر الله، والواقع الخارجي يشهد بذلك فإن كثيراً من الادلة والقضايا عقلية قطعية مثل استحالة الدور والتسلسل واجتماع النقيضين وارتفاعهما لكن الشيوعيين مثلاً بنوا آيديولوجيتهم على التناقض وقسم كبير منهم كان مقتنعاً بذلك وبالفعل يرى ان التناقض واقع بل يرى الكون مبنياً على هذا التناقض بين السالب والموجب ويمثل لذلك بامثلة من الذرة إلى المجرة. اذن ليس كلما كان الحق واضحا أو عقلياً قطعياً لكان المستمع او الناظر معاندا بالرفض بل كثيرا ما يكون لقصور في فهمه
اذن الايات لم تكن تخاطب المعاندين فقط بدعوى أن كل الكفار كانوا معاندين بل كانت تخاطب المعاندين وغير المعاندين اي المقصرين ثانيا والقاصرين ايضا بالايات التي تقدم توضيحها )كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ( لا بالايات التي تتحدث عن العقاب )فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ(
وسيأتي الكلام عن الطائفة الاخرى من الايات ان شاء الله تعالى وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين... |