بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(73)
العلم في غير المضطر إليه إما منجِّز أو لا
المطلب السادس: إن العلم المتعلِّق بالطرف غير المضطر إليه، إما أن نقول بأنه منجِّز كما قاله المحقق النائيني أو لا ، كما ذهب إليه المحقق الخراساني، وعلى كلا المبنيين فإن الظن المطلق يكون هو الحجة:
فإن كان منجزاً فيجب التبعيض في الإحتياط فهو امتثال احتمالي
أما إذا قلنا بأنه منجِّز (في البعض الباقي غير المضطر إليه) فلأنه يندرج حينئذٍ في دائرة التبعيض في الإحتياط، والتبعيض في الإحتياط لا يتجاوز الإمتثال الإحتمالي، فإن الإمتثال العلمي الإجمالي لا يكون إلا بالإتيان بكافة المحتملات أو تجنبها بأكملها وهو المسمى بالإحتياط التام، فإذا كان امتثالاً احتمالياً ترتّبت عليه أمور:
فالظن متقدم عليه
الأول: تأخره رتبة عن الإمتثال الظني، مما يعني قلب المراتب التي ذكرها الشيخ إذ تتحول المرتبة الثانية من مراتبه لتكون في الرابعة، فيكون الإمتثال الظني الذي كان هو المرتبة الثالثة متقدماً عليه بعد أن كان متأخراً عنه([1]) والسر هو انقلاب المرتبة الثانية بنفسها إلى الرابعة إذ لم يعد امتثالاً علمياً إجمالياً بل أصبح إمتثالاً إحتمالياً لأن هذا معنى التبعيض في الإحتياط الذي يعني الإحتياط الناقص.
والمظنونات تكون هي الحجة
الثاني: أنه حيث كان منجزاً في الطرف غير المضطر إليه، فإنه يتحدد في دائرة المظنونات دون الموهومات والمشكوكات، كما سيأتي نقله عن المحقق النائيني.
الثالث: أنه حيث كان منجزاً في المظنونات، فيكون الظن المطلق هو لازم الإتباع، فتكون له الحجية بهذا المعنى، ثم إننا نجد أنه لا وجه لتعيّن لزوم إتباعه إلا كاشفيته وكونه أقرب للإصابة من غيره([2])، فتكون له الحجية بهذا المعنى أيضاً.
وإن كان غير منجز فالعقل يستقل بكون الظن هو الحجة
وأما إذا قلنا بأنه غير منجز، فإن العقل يستقل حينئذٍ بوجود طريق آخر إلى أحكام الشارع، إما مجعول من قبله أو ممضى، وقد صرح باستقلال العقل بذلك، عدد من الأعلام ولو بمناسبة أخرى قال المحقق النائيني: (والغرض في المقام مجرد بيان أنّ قيام الإجماع على الوجه الثاني، وهو وجوب امتثال التكاليف بعناوينها الخاصة يكشف كشفاً قطعياً عن أنّ الشارع نصب الظن طريقاً محرزاً للتكاليف موصلاً إليه عند انسداد باب العلم بها، سواء كان عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة لأجل الإجماع، أو الخروج عن الدين، أو العلم الإجمالي)([3]).
وقال المحقق العراقي: (فلا محيص من انتهاء الأمر إلى حكم العقل واستقلاله بكون الموصل للوسط المجعول هو الظن؛ فانتهى الأمر بالآخرة إلى لزوم الأخذ بالظن والإحتمال الراجح في تعيين ما هو وسط)([4]).
السر في استقلال العقل بحجية الظن
والسرّ في استقلال العقل بذلك هو:
أولاً: الضرورة، فإن من ضروريات الدين أننا لم نترك سُدى كالبهائم وأن الشارع لم ولا يهمل أحكامه لمجرد عدم منجزية علمنا الإجمالي بها، ولا يوجد أرجح من الظن ليجعل حجة أو لتمضى حجيته.
ثانياً: قيام الإجماع القطعي من الفريقين على ذلك.
ثالثاً: علمنا بوجود ملاكات ملزمة وجوبية وتحريمية وأنه لا يعقل أن يكون الشارع قد تخلى عنها بأكملها لمجرد أننا لم نعلم بالأحكام الحاملة لها بعلمٍ أو علمي، فمن ذلك نحرز استقلال العقل بجعل الشارع حجية الظن المطلق، الناشئ من الأخبار وشبهها على الإنسداد، أو إمضائه لها، كطريقٍ إلى أحكامه، كاشفٍ عنها أكثر من غيره([5])، لازم الإتباع.
ومن الواضح حينئذٍ أن الإحتياط لا يتقدم على الظن المطلق حينئذٍ من باب السالبة بانتفاء الموضوع إذ فرضنا أن العلم الإجمالي غير منجز، فلا يجب الإحتياط فكيف يتقدم الإمتثال الإجمالي الإحتياطي (مع قطع النظر عن كونه امتثالاً احتمالياً لأنه من التبعيض في الإحتياط كما سبق) على الظن، بعد القول بعدم وجوبه؟ هذا خلف.
الدليل الرابع: أ- حرمة الإحتياط تستلزم القول بحجية الظن
الدليل الرابع، على حجية الظن المطلق، كأصل عام، ما يستفاد من كلمات السيد الأخ الأكبر (قدس سره)، بعد تطويرها لتنتج في المقام. قال: (هذا ولكن صاحب الكفاية لم يرتض ما ذهب إليه الشيخ الأعظم واختار التفصيل في المقام([6]).
تقريره: بأنّ مبنى الإنسداد:
1- تارةً يكون من مقدماته عدم جواز الإحتياط – لإستلزام العسر المخل بالنظام أو غير ذلك -.
2- وتارةً يكون من مقدماته: عدم وجوب الإحتياط.
فإن بُني على الأول فالمتعيّن هو الأخذ بالإمتثال الظني التفصيلي؛ لبطلان الإحتياط حسب الفرض. وعليه فلا مناصّ من الذهاب إلى بطلان عبادة تارك طريقي الإجتهاد والتقليد وإن احتاط في العبادات.
وإن بُني على الثاني: فلا إشكال في الإجتزاء بالإمتثال التفصيلي الظني، كما لا إشكال في الاجتزاء بالإمتثال الإجمالي العلمي.
أمّا الأول فللدليل الدالّ على حجيته – كما تقتضيه مقدمات الإنسداد على فرض تسليمها -. وأمّا الثاني؛ فلأنه إحراز للواقع، فيكون وِزان الظنّ المطلق وِزان الظن الخاص)([7]).
أقول: وجه الإستدلال على حجية الظن المطلق على المبنى الأول (عدم جواز الإحتياط) هو أن الظن التفصيلي يكون حينئذٍ هو اللازم إتباعه، وهو أحد معاني الحجية، ولذا لزم الإمتثال للدليل الظني (المعبّر عنه بالإمتثال الظني التفصيلي)، ولكن كونه لازم الإتباع ليس لجهة تعبدية، بل لجهة تعقلية ارتكازية وليست إلا رجحانه، أي الظن، الذاتي على قسيميه، أي الوهم والشك، وكونه كاشفاً ولو ناقصاً عن الواقع، دونهما، وهذا هو المعنى الأساس والأول للحجية حسبما فصّلناه في كتاب (الحجة معانيها ومصاديقها).
والحاصل: أنه مع حرمة الإحتياط فإنه لا مجال لأن يقال بتقدمه عقلاً على الإمتثال الظني التفصيلي، فيندرج الإمتثال العلمي الإجمالي حينئذٍ فيما عبّر عنه الشيخ بـ(إلا مع تعذرها) فتدبّر. وللبحث تتمة بإذن الله تعالى.
وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين
عن بُرَيد بن معاوية العِجليِّ قال: ((كُنْتُ عِنْدَ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) إِذْ دَخَلَ عَلَيْهِ قَادِمٌ مِنْ خُرَاسَانَ مَاشِياً فَأَخْرَجَ رِجْلَيْهِ وَقَدْ تَغَلَّفَتَا([8]). وَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ مَا جَاءَ بِي مِنْ حَيْثُ جِئْتُ إِلَّا حُبُّكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ، فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): وَاللَّهِ لَوْ أَحَبَّنَا حَجَرٌ حَشَرَهُ اللَّهُ مَعَنَا وَهَلِ الدِّينُ إِلَّا الْحُبُّ؟))
(تفسير العياشي: ج1 ص167).
-------------------
([1]) لاحظ كلام الشيخ ((أنه إذا وجب عقلا أو شرعا التعرض لامتثال الحكم الشرعي، فله مراتب أربع: الأولى:
الإمتثال العلمي التفصيلي...
الثانية: الإمتثال العلمي الإجمالي، وهو يحصل بالإحتياط.
الثالثة: الإمتثال الظني، وهو أن يأتي بما يظن أنه المكلف به.
الرابعة: الإمتثال الإحتمالي، كالتعبد بأحد طرفي المسألة من الوجوب والتحريم، أو التعبد ببعض محتملات المكلف به عند عدم وجوب الإحتياط أو عدم إمكانه.
وهذه المراتب مترتبة لا يجوز بحكم العقل العدول عن سابقتها إلى لاحقتها إلا مع تعذرها، على إشكال في الأولين تقدم في أول الكتاب، وحينئذ فإذا تعذرت المرتبة الأولى ولم يجب الثانية تعينت الثالثة، ولا يجوز الإكتفاء بالرابعة) (فرائد الأصول: ج1 ص431-432).
([2]) وهو قسيمه كالوهم والشك.
([3]) الشيخ محمد علي الكاظمي الخراساني، فوائد الأصول، مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم: ج3 ص247-248.
([4]) المصدر.
([5]) أو دون غيره.
([6]) كفاية الأصول: 276.
([7]) السيد محمد رضا الحسيني الشيرازي، تبيين الأصول، دار العلم ـ قم: ص286-287.
([8]) ولعل الصواب (تفلقتا) والفلق: الشق، وتفلق اللبن: تقطع وتشقق، وفلق الله الحب بالنبات شقه. (لسان العرب ج ١٠ ص ٣١٠).
|