بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
كان الكلام حول ما ذكره صاحب القوانين من ان التكاليف بحسب افهام المكلفين ففهم المكلفين إذن مضيق لدائرة الاحكام ذكرنا وجوها خمسة من الإشكال على هذا الكلام
الوجه السادس: مرتبة الحكم الرابعة منوطة بالعلم اما الوجه السادس فيتضمن تحليل المقام ويتضمن توجيها لكلام صاحب القوانين ويمكن ان نتفصى به عن الاشكال عليه وتحقيق المقام يتضح بملاحظة مراتب الحكم الاربعة التي ذكرها الاخوند: المرتبة الاولى مرتبة الاقتضاء التابعة لمصالح ومفاسد واقعية في المتعلقات،المرتبة الثانية مرتبة الانشاء حيث ان المولى عندما يرى ان المصلحة قائمة بهذا الموضوع كالصلاة فينشئ وجوبها، او حيث رأى المفسدة قائمة بالخمر فينشئ تحريمها, والمرتبة الثانية تتبع المرتبة الأولى سعة وضيقا لأن الحكيم افعاله معللة بالاغراض فاذا كان الغرض قائماً بالموضوع بسعة فلا بد ان يكون الانشاء على تلك السعة المرتبة الثالثة مرتبة الفعلية التي قد تفسر بلزوم القضاء فلو التفت المكلف خارج الوقت وان كان قاطعا بالخلاف داخل الوقت، فعليه القضاء. المرتبة الرابعة هي التنجز بمعنى استحقاق العقاب بالمخالفة
هذه المراتب الاربعة تنفعنا في تحقيق المقام وتشخيص وجه الخلل الظاهري في كلام القوانين ووجه الدفاع عنه لاحقا وان كان خلاف ظاهر كلامه فالقوانين قال (إن التكليف إنما يرد على مقتضى الفهم والإدراك) لكن نسأله ما المقصود بالتكليف؟ فهل المراد من التكليف التكليف في مرتبة الاقتضاء ام في مرتبة الانشاء ام بمرتبة الفعلية ام بمرتبة التنجز؟ نقول :اما المراتب الثلاثة الاولى فليست منوطة بالعلم والجهل، انما المرتبة الرابعة هي المنوطه بعلم وفهم المكلف ,توضيح ذلك: ان المرتبة الاولى تابعة للمصلحة الثبوتية علم المكلف ام لا فالخمر مضرة بالعقل علم المكلف ام لا والصلاة معراج المؤمن وقربان كل تقي وتنهى عن الفحشاء والمنكر، علمتَ بوجوبها ام لم تعلم ,اذن مرتبة الاقتضاء نابعة من الواقع الثبوتي للمصالح والمفاسد النفس الامرية, فاذا قصد صاحب القوانين هذه المرتبة فهو واضح البطلان. اما المرتبة الثانية وهي الانشاء فكذلك إذ ليس الانشاء منوطاً بالعلم به – أي بعلم المكلف به - فاذا اراد المولى تشريع وجوب الصلاة فهل يلاحظ ان المكلف يعلم به او لا؟ الجواب كلا, لان انشاء الشارع للايجاب او التحريم منوط بملاحظة العنوان الواقعي بما هو هو من غير مدخلية لعلمك او لجهلك في ترتيب المولى للحكم على الموضوع، والدليل ما تقدمت الاشارة اليه من ان افعال الشارع معللة بالاغراض فهي تتبع المصالح والمفاسد سعة وضيقا ولا ربط للمصلحة الثبوتية والمفسدة الثبوتية بعلم المكلف وجهله, اما الشيخ الانصاري فقد استدل على ذلك بالاجماع وتواتر الروايات, وهو مما لا شك فيه ويعبر عنه بمبحث (ضرورة اشتراك الاحكام بين العالم والجاهل) ومقصودهم هذه المرتبة الثانية (ولعل مقصودهم الثالثة أيضاً). اما المرتبة الثالثة (الفعلية) فهي من شؤون المرتبة الثانية بناءا على تعدد المطلوب والا فلا ,اي لو كان الوقت مقوِّما فلا قضاء ولو كانت الصلاة مطلوبة بنحو تعدد المطلوب في هذا الوقت فلو فات المطلوب الاسمى بقي المطلوب بحد ذاته فيجب القضاء وهذا بحث تفصيله في محله. ومما يوضح ذلك ملاحظة الحكم الوضعي كالارث ) لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ( او )لأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ( فان مرتبة الاقتضاء والانشاء غير مرتبطة بالعلم والجهل، إذ سواء أعلم الوارث أم لم يعلم فان له الثلث او السدس او غيره فان المصلحة تقتضي ذلك والانشاء جرى على طبقها علم او لم يعلم, ونظير (القضاء) ما لو قسموا ولم يعلموا فانه يجب عليهم ارجاع حصته اليه, فبملاحظة الحكم الوضعي يتبين لنا بشكل أوضح ان الحكم التكليفي بنفس وزانه نعم المرتبة الرابعة منوطة بالعلم والجهل بمعنى ان المكلف لو لم يعلم بالتكليف عن قصور فانه لا يعاقب ولا يستحق العقاب.
تحليل وتوجيه كلام صاحب القوانين عندما يقول ان التكاليف انما ترد على مقتضى فهم المكلف وادراكه ,ثم يقول وليس تكليفه ازيد من ذلك, فان هذه العبارة بظاهرها مردودة كما سبق الا ان نوجهها بما سيأتي, ونزيد الامر توضيحا: ان الخلط حصل من عدم التفرقة بين موضوع حكم المولى وبين مسقط التكليف عن العبد, فان موضوع حكم المولى شيء ومسقط تكليف العبد امر اخر, إذ موضوع حكم المولى هو الواقع اي العنوان بما هو هو علمت به ام لم تعلم، اما مسقط التكليف عن العبد فهو جهله بالواقع فموضوع حكم المولى اعم وعليه ترد التكاليف ثم بعد ذلك يكون مسقط هذا التكليف عن العبد هو جهله القصوري, لكنه لم يسقطه اقتضاءا ولا انشاءا ولا فعلية وانما يسقطه تنجزا اي لا عقابَ, فوجه الخلط هو هذا.
ولذا نقول بلحاظ علمنا بمباني صاحب القوانين وانه ليس من المصوبة فان عبارته لابد ان توجه وان مقصوده من ان التكاليف انما ترد على حسب فهم المكلف، مقصوده المرتبة الرابعة، نعم ذلك خلاف الظاهر لأن ظاهر التكليف عندما يطلق هو الانشاء، فإنه حتى المرتبة الاولى اطلاق الحكم عليها مجاز، بل التكليف والحكم يطلق على المرتبة الثانية وتلحقها الثالثة, والرابعة ايضا اطلاق الحكم عليها مجاز لأنها من ثمرات الحكم ومن لوازمه وتوابعه وليست هو هو، اذن المرتبة الاولى مقتضية للحكم والرابعة نتيجة له وانما يطلق الحكم على المرتبة الثانية والثالثة فقط وهذا نقاش بسيط مع الاخوند.
والحاصل أنه بلحاظ مختلف كلمات صاحب القوانين نوجه عبارته فنقول عندما يقول(ان التكاليف انما ترد على مقتضى الفهم) انما يريد التكاليف بمرتبتها الرابعة، وهذا يعني أن التكليف اعم ولم يرد على مقتضى التكليف إنشاؤه، لكن تنجزه منوط بالفهم ,هذا بلحاظ مبانيه في كل الكتاب والا لولا هذا التوجيه للزم التصويب
معاني التصويب اشارة:التصويب له مراتب اربعة المشهور منها نوعان، والأول بحسب ترتيبنا هو للاشاعرة والثالث للمعتزلة والثاني وسط بينهما ولا يذكر عادة لكنه محتمل اما الرابع فهو الذي يستظهر من كلام صاحب القوانين. اما التصويب بالمعنى الاول فهو ان لا يكون لله حكم في متن الواقع ابداً وانما متى قامت امارة للمجتهد على حكم فتصوَّره حكم الله فحينئذ ينشئ الله حكما على طبق رأي المجتهد,اي ان الامارة لها سببية لاحكام الله أي توجد المصلحة في الواقع فينشئ الله الحكم على طبقها، وعلى ذلك لو تناقضت انظار المجتهدين فاحكام الله ايضا تتناقض ,وهذا هو التصويب الاشعري الباطل بالضرورة
التصويب الثاني وهو وسط بين الاشعري والمعتزلي، هو ان لله احكاما واقعية الا انها تمحى وتزال بقيام امارة للمجتهد على خلافها ,وفي بحث ناقص لم اجد قائلاً به التصويب الثالث وهو التصويب المعتزلي هو ان لله احكاما في الواقع ولا تمحى بقيام امارة على الخلاف انما قيام الامارة على الخلاف يوجد مصلحة جديدة في الواقع فينشِئ الله حكما جديدا على طبقها مع الحفاظ على حكمه الاول، اي يكون أشبه بمجمع للاضداد، فحكم الله يحتفظ به (في مرتبة الانشاء) والحكم الاخر يوجد واقعا. هذه المعاني الثلاث لا يقول بها صاحب القوانين، وعبارته حتى بظاهرها لا تدل عليها,انما كلامه بعد توجيهه يكون معنى خامساً لكنه قبل توجيهه فان ظاهر كلامه ومحصلته هو ان لله احكاماً واقعية (عكس الرأي الأول) وهذه الاحكام لا تمحى بقيام امارة على الخلاف (عكس الرأي الثاني) ولا انها تبقى مع وجود حكم مضاد لها على طبق الامارة (عكس الرأي الثالث) وانما احكام الله ثابتة فان لم تعلم بها فلا حكم في حقك, وهذا ايضا غير صحيح وان كان مغايرا للثلاثة, إذ انه لا يقول يوجد حكم جديد بل يقول أن دائرة الحكم تضيقت اي ان لم تعلم بها فلا حكم، من دون أن يقول بجعل ضده ومخالفه.وقد تبين مما مضى ان هذا التصويب ايضا غير صحيح لأن مراتب الحكم اربعة والمراتب الثلاث الاولى غير منوطة بالفهم والعلم, فقولك فان لم تعلم فلا حكم (التصويب الرابع) ايضا غير صحيح إذ حتى لو لم تعلم هناك حكم اقتضاءا وانشاءا وفعلية، انما قل: لا تنجّز نعم يمكن ان نوجهه بالمعنى الخامس الذي ذكرناه وإن كان على خلاف ظاهره أي قوله (أن التكليف) أي بمرتبة تنجزه (إنما يرد...)
إلى الان اتضح التحقيق في المقام وان العلم والافهام دورها في مرحلة التنجز,اي اني اذ قطعت بخلاف الواقع فلا يحدث شيء الا عدم استحقاق العقاب ان كان عن قصور والا فالاحكام باقية على اشتراكها في مراتبها الثلاث وأما القائلون بنظرية نسبية المعرفة (شيعة وسنة) فقد ذهب كثير منهم إلى التصويب بأحد معانيه الثلاثة الأولى وإحدى كلماتهم (دين كل احد هو عين فهمه للدين أو للشريعة) فهي عبارة تصويبية وان ديني هو عين فهمي للدين فما افهمه هو الدين نحن نقول:ان هذا الكلام خطأ لأن هذا الكلام يستبطن ان لا دين في المرتبة الثبوتية السابقة وانما الدين يصنعه فهمي وليس (الدين موجوداً في مرتبة سابقة، والفهم كاشف عنه، فان طابق فصح وان لم يطابق فخطأ) بمعنى انهم يريدون ان يقولوا ان الصراط المستقيم ليس واحدا بل هناك صراطات, اي انه لا دين ثبوتي بل الاديان كلها اثباتية فما افهمه هو الدين وما تفهمه انت من الدين فهو الدين وما يفهمه ذاك فهو الدين وكلها حق ويستندون في ذلك فيما يستندون إلى قول بعض العرفاء (الطرق إلى الله بعدد انفاس الخلائق) هنا نشير إلى عدة نقاط بايجاز:المدعى والدليل كلاهما باطلان,اما الدليل(الطرق إلى الله بعدد انفاس الخلائق) فاولا هي ليست رواية معتبرة وثانيا ان هذا مناقض لصريح القران فان الله تعالى يقول: )وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي( إذن يوجد شيء ثبوتي )مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ( ويقول تعالى: )اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ( فاذا كانت هناك صراطات مستقيمة وإذا كان دين كل احد هو عين فهمه للشريعه فلا معنى لأهدنا الصراط المستقيم إذ كل صراط هو مستقيم فلا يحتاج إلى (اهدنا) إذ نفس فهمي حينئذٍ هو هداية وله موضوعية ,اذن هذا الراي واضح البطلان ومخالف للوجدان وضرورة الاديان ومخالف للعقل ايضا ومثله مثل شخص يقول (قانون كل احد هو عين فهمه للقانون) فقانوني هو ما افهمه وقانونك هو ما تفهمه وهكذا فان كانت الافهام متناقضة فالقوانين كلها صحيحة وهذا كلام غير عقلائي ويلزم منه الغاء كافة المرجعيات القانونية والشرعية والحقوقية والعقلية وغيرها ولا يصح عندئذٍ محاكمة أي شخص وجزاءه إذ له أن يتعلل بقانونه الخاص وأن (فهمي للقانون هو عين القانون).
بعبارة أخرى: قوله (دين كل احد هو عين فهمه للدين) ان اراد به الدين الثبوتي الواقعي الموجَد بفهمه فهو واضح البطلان وان اراد ان المنجز بحقه هو ذلك ففي مقابله إذن المعذر، اذن هناك خطأ وصح لكنهم لا يقبلون الخطأ والصح، بل يصرحون بان كلها صحيحة، فلا يعقل ان يريدوا المعنى الخامس وهذا بحث له تفصيل نكتفي منه بهذا المقدار اما تحليل قولهم (الطرق إلى الله بعدد انفاس الخلائق) فان ارادوا ما هو ظاهرها او ما استظهره منها البعض فهو باطل بمعنى ان الطرق إلى الله وان تخالفت وتناقضت وتضادت فكلها صحيحة مؤدية إلى الله تعالى وان كانت بعدد انفاس الخلائق فهذا واضح البطلان وهذا ظاهر مراد أصحاب مقولة (دين كل أحد هو عين فهمه للشريعة) المعنى الثاني المحتمل وهو صحيح لكنه خلاف ظاهر كلامهم وهم – أي الهرمنيوطيقيون - لا يقصدونه وهو ان كل نَفَسٍ لكل مخلوق فهو دليل على وجود الله وعلى عظمته وعلى وحدته وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين ... |