بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآلة الطاهرين واللعنة الدائمة على اعدائهم اجمعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
كان الحديث حول الاستدلال بقوله تعالى: (واجتنبوا قول الزور)على حرمة حفظ كتب الضلال وعلى حرمة مختلف التقلبات في مسببات الفساد أيضا,
وذكرنا كلام صاحب مصباح الفقاهة حيث قال بان الزور المراد منه الكذب ويلحق به الغناء للروايات الخاصة
ثم وصلنا الى المبحث الآخر وهو ان (اجتنبوا قول الزور) والذي خصصه السيد الخوئي بالكذب، يدل – حسب ما ارتأه - على حرمة إيجاد الكذب فقط , ومورد نقاشنا معه في هذه النقطة
رأي صاحب مصباح الفقاهة : (حرمة الكذب ايجادا فقط )
والسيد الخوئي يقول : ان الآية تدل على حرمة إيجاد الكذب فقط , ولا تدل على وجوب إعدامه – وتوضيحا لكلامه – :
وعلى هذا فالآية لا تدل على حرمة حفظ كتب الضلال؛ (رغم وجود ضلال فيها وكونه كذباً)، لأنها لا تتكلم عن وجوب الاعدام وانما عن حرمة الايجاد فقط.
وأما دليله على ذلك (وقد ذكره من قبله المحقق الميرزا علي الايرواني)فهو : انه لو التزم بوجوب إعدام الكذب لكان لازم ذلك وجوب إعدام اغلب كتب التواريخ وشبهها لاشتمالها على الكذب، والتالي باطل – إذ لم يقل بذلك احد من المحصلين فكيف بالفقهاء العاملين – فالمقدم مثله.
جواب ذلك :وقد سبقت مناقشة هذا الدليل بجوابين :
الجواب الاول : وهو جواب فني وقد سبق ذكره فيما مضى .
الجواب الثاني :
واما الجواب الثاني فنعيد ذكره مع مزيد اضافة وفائدة وتدقيق:
انه كلما كان هناك لفظ مطلق وخرج منه فرد او صنف او نوع بدليل، كالإجماع – كما ادعاه السيد في المقام – , فان ذلك لا يخل بالإطلاق ,
بل ان كل المطلقات هي من هذا القبيل حيث انها كافة - تقريبا - لها مخصصات .
تطبيق الجواب الثاني :انه لا يخلو الأمر: إما أن نلتزم بان قول الزور يراد به الباطل وكما استدلالنا عليه سابقا , او يراد به خصوص الكذب كما ذكر صاحب المصباح ,
وسنناقش دليله السابق على كلا الاحتمالين :
الاحتمال الاول : وهو ان نقول ان الآية (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ)المراد منها مطلق (الباطل)سواءاً كان كذبا او نميمة او سبابا او تخذيلا او ما اشبه ذلك, او الأعم من ذلك كما ذكره ابن فارس من أن المراد من الزور وهو مطلق القول المائل عن جادة الحق , فان هذه اللفظة أي (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ)مطلقة وعامة لمورد الإيجاد وسائر التقلبات , فان التخذيل مثلا هو مصداق لقول الزور وعندما يعطى هذا اللفظ للعرف ويلقى إليه فان العرف يستفيد منه وجوب اجتناب إيجاد التخذيل وحفظه، ورعايته، أي اجتناب حفظ ما يوجب التخذيل أيضاً فإنها جميعاً مصداق لقول الزور لعدم اختصاص (الباطل) بالإيجاد بل يشمل الحفظ أيضاً.
وعليه : فالتخذيل سواء أكان بقول إيجادا او حفظا او بسائر أنواع التقلبات الأخرى كالتخذيل الموجود في المجلات مثلا او الكتب او الفضائيات او غيرها , فان من لم يجتنب كل ذلك يصدق عليه انه لم يجتنب قول الزور .
وببيان اخر : لو إن شخصا حفظ هذه الكتب والجرائد المخذلة في المكتبات العامة أو الخاصة بقصد أن توقع المراجعين في الضلال وكانوا ممن يحتمل فيهم ذلك، فهو مشمول بالآية الكريمة, كما أن فتوى بعض الأعاظم عليه.
والمتحصل : انه إذا كان قول الزور المراد منه الباطل الشامل للتخذيلمثلاً ولمطلق أنواع الإضلال و الكذب, فإن الخارج منه هو خصوص إعدام الكذب غير الضلالي، للإجماع، فيبقى الباقي تحت الإطلاق وعلى هذا فخروج كتب التواريخ، لكون كذبها غالباً غير ضلالي، لا يستلزم القول بعدم شمول (اجتنبوا) لإعدام الكذب بقول مطلقاً.
وأما لو أريد من قول الزور خصوص الكذب، فإن (الكذب) عام لما سيأتي من الصور خرج منه الكذب غير المفسد والمستهلك والمزاحم بالأهم ، فبقي الباقي تحت عموم وجوب إعدامه ولزوم اجتنابه، لعل الفقهاء لم يفتوا بوجوب إعدام كتب التواريخ المشتملة على الأكاذيب لوجود مزاحم أهم في المقام , فان هذه الكتب تشتمل على الكثير من الأخبار الصحيحة والحقائق ولو كانت هناك فتوى عامة منهم بإعدامها فان هذه الحقائق كانت ستضيع وكان الطريق مغلقا على المحققين؛ فحيث وجدوا هذه الفوائد والحقائق ترجح على وجود مفسدة بعض الأكاذيب فيها, لم يفتوا بوجوب إعدامها.
وبعبارة أخرى: إن الأعم لا يكون دليلا على الأخص , والاعم هو عدم فتوى الفقهاء بلزوم إعدام كتب التواريخ المشتملة على الكذب فلا تدل الآية على لزوم إعدام الكذب.
وفي جوابه نقول :كلا إذ الأعم لا يكون دليلاً على الأخص، إذ لعل عدم فتواهم كان لا لأجل عدم شمول الآية لإعدام الأكاذيب,بل لعل ذلك لوجود مزاحم أهم وهو وجود الفائدة الأكبر فيها , وهذا مزاحم عقلائي .
والنتيجة : لو لم تترتب ثمرة أهم على حفظ هذه الكتب فلا يعلم فتوى الفقهاء بعدم وجوب إعدامها إذ ان الكتب المشتملة على الكذب لو لم يكن فيها منفعة متوخاة هي اهم من مفسدة هذه الأكاذيب فإن من الممكن أن يفتي البعض من الفقهاء بلزوم الإتلاف او الإعدام، او إتلاف خصوص الكذب منها .
الجواب الرابع : الطريقية والموضوعية في قول الزور :
هل ان الملاحظ في الآية الكريمة ( اجتنبوا قول الزور ) هو الجانب الطريقي للكذب أي فيما إذا أثّر في الطرف الآخر، او ان قول الزور قد حرم على نحو الموضوعية – ؟ سواء أثّر او لم يؤثر في طرف آخر – وسواء أوجد الفساد أو لا؟
فلو ان شخصا جلس في بيته ومارس الكذب من دون استماع الغير له، فانه قد يقال بانه ليس بمحرم حيث يشير البعض الى ان ادلة الكذب منصرفة عن هذا الفرد وان الكذب قد لوحظ فيه الجانب الطريقي أي لوحظ الكذب الذي يؤدي الى الإفساد, فلو لم يؤد الى ذلك ولا إلى أي نوع من التأثير مطلقاً فليس محرم.
ان قلت : ان الفقهاء يفتون بان الكاذب وان قطع بعدم تأثر الطرف الآخر السامع بكذبه فانه مع ذلك فكذبه حرام، وعليه فلا طريقية وانما لوحظ الكذب بلحاظ موضوعي فهو حرام مطلقاً.
قلنا: الظاهر إن تحريم الكذب إنما هو بلحاظ طريقيته للإفساد أو التأثير ولا يرد علينا ما ذكرتموه من إيراد؛ إذ لعل الشارع قد حرم الكذب بقول مطلق , أي حتى لو لم نحتمل فساده من باب ضرب القانون وهو امر عقلائي, وقد لوحظ في ضرب القانون الطريقية النوعية أي الطريقية من حيث المجموع.
او من باب الحائطة , أي أن الشارع لعله حرمه من هذا الباب؛ لأنه لاحظ أن كثيرا من الناس قد يكون قاطعا بان الطرف الآخر لا يتاثر بكذبه لو كذب إلا ان الواقع ان كثيراً من القاطعين، خاطئون، فإن كثيراً من المستمعين في نهاية الأمر سيتأثر بشكل أو بآخر. فتأمل
والمتحصل من ذلك : انه بشكل عام فان الملاحظ في اجتناب قول الزور والكذب هو الطريقية وهي اما الطريقية الكاملة او في الجملة كما في باب ضرب القانون,والحائطة، فلا تشمل من كذب بانفراده مثلاً.
وهنا نقول:لو صحّ ما ذكرناه في الجواب الرابع من الموضوعية والطريقية فنأتي الى كلام صاجب مصباح الفقاهة ونقول :
ان القدر المتيقن مما لم يفت الفقهاء بحرمة حفظه هو الكذب الذي لا يؤدي الى الإفساد , حيث لم يفتوا بوجوب إعدامه وهذا هو احد شقي المسألة ,
ولكن وفي الشق الآخر: وهو ما لو كان ذلك الكذب مؤديا الى الإفساد فما هو رأي الفقهاء هنا ؟لا يعلم ان الفقهاء لا يقولون حينئذٍ بوجوب إتلاف هذا الكتاب او خصوص موضع الكذب منه، ومدعي ذلك هو من عليه الإثبات, ولا يستطيع ان يثبت ؛ لان الفقهاء لم يتطرقوا الى هذه المسألة بالمرة, ومعه لا يصح أن ينسب اليهم انه لا يقول ذلك محصل فكيف بفقيه؟ بل نقول – وتأكيدا لما مضى – : ان خصوص ما نحن فيه وهو مصداق من مصاديق الكذب حيث كان الكذب اضلالا , إن هذا ليس فقط (لا نعلم ما يقول الفقهاء فيه)بل إننا نعلم إن بعضهم قد أفتى بالحرمة، كصاحبي الجواهر والمسالك.
جواب خامس :
ونضيف جوابا خامسا في المقام حيث نقول :
لعل وجه عدم فتوى الفقهاء بإتلاف كتب التاريخ رغم اشتمالها على الكذب هو ان هذا الكذب القليل مستهلك فيها , وهذه المسألة مطروحة في أبواب شتى من الفقه , حيث ان الاستهلاك يغير الحكم كما هو واضح – ولو في الجملة – ,
اذن :لعل الفقهاء لم يفتوا بذلك لان الكذب الذي في تلك الكتب هو بالحمل الشايع الصناعي مستهلك والطابع العام في الكتاب ليس كذبا
وعليه : لو وجد كتاب لا يشتمل إلا على الكذب, هذا اولا، وكان في معرض الإفساد ثانيا , ولم يزاحم بالاهم ثالثا، فالظاهر انه لابد من تحريمه – أي تحريم حفظه.
ونكتفي بهذا المقدار من نقاش كلام صاحب الفقاهة ,
كلام الفاضل المامقاني : وننقل الان كلام الفاضل المامقاني حيث ذكر : (ووجه دلالته ان الزور عبارة عن الكذب والباطل والتهمة – كما في مجمع البحرين - وكتب الضلال لا تخلو من ذلك وحفظها ينافي الاجتناب)إذن اجتنبوا قول الزور تشمل حفظ كتب الضلال
ونناقشه بنقطتين : النقاش الأول : وهو نقاش مختصر لكنه دقيق حيث نقول: انه قد يقال بان كتب الضلال قد حرمت لا لأنها لا تخلو من الإضلال كما قال ,بل لأنها هي ضلال وكتب ضلال بالحمل الشايع الصناعي ,أي هي كتب ضلال لا كتب مشتملة على الإضلال فقط, وان كان وجه إطلاق كتب الضلال عليها هو وجود ضلال فيها بنحو العلة المحدثة إلا ان الصدق الحقيقي بنحو العلة المبقية عليها ككل، واضح فتشمله الاية الشريفة الآمرة بالاجتناب.
ويتضح ذلك بملاحظة المثال التالية: فانه لو كان هناك مركز فساد فإنه يطلق عليه: هذا مركز فساد، وذلك صادق حقيقة على ذلك المركز وان لم تكن كل غرفة غرفة فيها مركز فساد أو مفسدة، بل يكفي كون منشأ الصدق هو كون بعض أجزائه كذلك فيطلق على الكل أنه مركز فساد
النتيجة والثمرة : والنتيجة والثمرة المترتبة على ذلك : ان الامر بالاجتناب متعلق بهذه الكتب بتمامها لا ببعضها وان كان ذلك البعض هو السبب في الصدق موضوعا والتحريم حكما
وللكلام تتمة وصلى الله على محمد واله الطاهرين |