بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(567)
سبق: (ان المحتملات في معنى رفع القلم عن الثلاث: ((أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْقَلَمَ يُرْفَعُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ))([1]) كثيرة وهي: رفع قلم التكليف، رفع قلم الاستحقاق، رفع قلم المؤاخذة.. إلى غير ذلك، لكن المعاني المذكورة كلها بين ما لا يعقل الالتزام به وبين ما لا يمكن الالتزام به لمخالفته للإجماع ونحوه.. وتفصيل ذلك:
(رفع قلم التكليف) مما لا يتعقل
أولاً: ان يكون المراد رفع قلم التكليف (سواء أريد التكليف الإلزامي فقط، أم أريد الأعم منه ومن اللاإقتضائي كالاستحباب والكراهة والإباحة الاقتضائية) لكن هذا المعنى مما لا تعقل إرادته إذ المجنون مثلاً غير قابل لوضع التكليف عليه فلا يكون قابلاً لرفعه عنه لأن الرفع والوضع من الأضداد التي يشترط فيها قابلية المحل (والضدان أمران وجوديان متعاقبان على محل واحد) والحاصل: انه حيث لا يعقل وضع التكليف على المجنون والنائم والصبي غير المميز فلا يعقل رفعه عنه إذ الرفع فرع إمكان الوضع، بعبارة أخرى: المجنون كالحائط والجماد فكما لا يصح القول (رفع قلم التكليف عن الحائط)، حتى مجازاً، لا يصح رفعه عن كل ما لا يقبل التكليف.
والنائم كالمجنون في عدم قابليته لوضع قلم التكليف عليه فلا يقبل رفعه عنه)([2]) كما مضى نظير ذلك، ولو بتغيير ما، في تفنيد بعض المحتملات السابقة الأخرى.
سبعة وجوه لتصحيح نسبة الرفع إلى المجنون والنائم والصبي
ولكن يمكن الجواب بسبعة وجوه، تتكفل بحل المعضلة وتوضح إمكان نسبة رفع القلم بل وصحته وعرفيته، إلى المجنون والصبي والنائم، وهي تتراوح بين ما تبقى الرفع على حقيقته وبين ما تبتني على المجاز بعلاقةٍ مصحِّحةٍ عرفيةٍ، أو الكناية، كما ان هذه الوجوه تتراوح بين ما يحل الاعضال في احدى الطوائف، كالوجه الأول الخاص بالصبي، وبين ما يحله في الطوائف الثلاث:
نظراً لصلاحية الصبي في الجملة
الوجه الأول: انه يصح إطلاق رفع القلم ووضعه إذا كانت للمرفوع عنه أو الموضوع عليه الصلاحية في الجملة، وذلك كالصبي، فان (الصبي المميّز) لا شك في صحة وضع القلم عليه، لكن الشارع رفعه عنه امتناناً، وبذلك صح إسناد الرفع إلى الصبي إجمالاً لصلاحية كثير من أفراده (أو فقل، أحد صنفيه لذلك)، فهو من المجاز في الكلمة إن أريد من الصبي صنف، من كُلِّيِّه، ومن المجاز في الإسناد إن أريد المركب الانحلالي أي إن إريد به كل فرد فرد من أفراده والإسناد لبعضها حقيقي ولبعضها مجازي، وحيث جمعت كل الأفراد في كلمةٍ واحدة وكليٍّ واحدٍ صح إسناد الرفع إليه عرفاً وأما دقةً فكذلك وذلك لتفكيك الإرادة الجدية عن الإرادة الاستعمالية في أفراد صنف دون آخر.
نظراً لصلاحية المجموع
الوجه الثاني: انه يصح إطلاق رفع القلم ووضعه إذا كان ما لا يصلح ضمن مجموعة أكبر صالحة، فمثلاً: يصح ان يخاطب الخطيب الجمهور الحاضر تحت منبره بقوله: يا أيها الناس أو يا أيها الحضور الكريم، عليكم بكذا أو احذروا كذا، وإن كان في ضمن الحضور بعض النائمين أو المجانين أو الصبيان غير المميزين ممن لا يصلحون للخطاب والمصحح هو: ان المجموع من حيث المجموع، أو فقل الأكثر منهم، يصلح للخطاب فيوجه لمن لهم الصلاحية أو يوجّه للكل مجازاً مع انفكاك الإرادة الجدية بالأضيق عن الإرادة الاستعمالية بالأوسع.
والخطابات القرآنية وما يتبعها من الخطابات الروائية المصدّرة بـ: يا أيها الناس أو ما يقوم مقامه كـ((فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ))([3]) هي من هذا القبيل حيث خوطب الناس كلهم، رغم ان فيهم النيام والمجانين وغير المميزين، وذلك لأن المجموع من حيث المجموع صالح للخطاب.
تصوير الرفع نظراً إلى الأمم السابقة أو مجموع الأمة
الوجه الثالث: تصوير الرفع مع انه لم يوضع على الطوائف الثلاثة، بنحوين على ما أفاده السيد الوالد قدس سره:
قال: (والرفع الذي يزال بعد مجيئه، على ثلاثة أقسام:
الأول: أن يكون في الأمم السابقة فيزال عند الوصول إلى هذه الأمة، قال سبحانه: (لا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذينَ مِنْ قَبْلِنا)([4]) حيث أن بَداوتهم أوجبت تحميلهم الإصر كالفَرَس الشموس يُؤدَّب، ولذا قال (صلى الله عليه وآله): ((لأتمم مكارم الأخلاق" ولعل الآثار كانت فيهم بالنسبة إلى الثلاثة، ويؤيده بعض ما في العهدين وما ورد من انهم ضيقوا على أنفسهم فضيّق الله عليهم.
الثاني: ان القلم جرى على الكبار والعقلاء واليقظين حتى إذا وصل إلى الثلاثة رفع، ويؤيده ما ورد من لفظة (جرى) دون (وضع) في بعض الروايات بعد كمال من رفع عنه القلم...)([5]) لكن مرجع هذا الوجه إلى الوجه الثاني، أو فقل انه متمِّم له.
والوجه الأول يلاحظ حال الأمم السابقة وصولاً إلى أمّتنا، بينما الثاني يلاحظ حال أمّتنا فقط مع قطع النظر عن جريان القلم وعدمه بالنسبة إلى الأمم السابقة.
المصحِّح الشأنية
الوجه الرابع: ان المصحِّح هو الشأنية والصلاحية، عكس الجدار والجماد الذي لا شأنية له لأن يكلف أبداً، والطوائف الثلاثة لها الشأنية (وحدها، أو مع الإنشاء) دون الفعلية، بحسب مراتب الحكم الأربعة لدى المحقق الخراساني فحيث ان لهم الشأنية صح وضع القلم عليهم ورفعه عنهم، وحيث لا تصح الفعلية في حقهم رفع عنهم (أو لم يُنشأ في حقهم – في وجه آخر).
بعبارة أخرى: الإنسان له شأنية ان يُكلَّف لأن له العقل، أما الجماد فلا عقل له، وعقل الصبي غير المميز غير كامل ليكلف، وعقل النائم في سُبات، وعقل المجنون محجوب، لا انه لا عقل له والعقل مقتضٍ للخطاب ومصحح له شأناً فإن كَمُل ففعلاً.
بعبارة أخرى: المجنون له شأنية ان يوضع عليه التكليف بلحاظ قابليته للإفاقة، وكذا النائم بلحاظ قابليته للاستيقاظ والصبي بلحاظ قابليته لأن يصبح مميزاً.
إن قلت: ما ثمرة الوضع الشأني (والإنشائي) مع الرفع الفعلي؟
قلت: الثمرة هي صحة تكليفه بالقضاء إن عقل، أو استيقظ، أو ميّز وبلغ، فحيث لا فعلية لعقله لم يصح خطابه وتكليفه بالفعل، وحيث له الشأنية أمكن توجيه الخطاب الإنشائي التعليقي عليه.
ويوضح ذلك أكثر تمييز الشارع بين النائم والمجنون وغير المميز، فإن النائم رغم انه لا يصح خطابه فعلاً، جُعل عليه القضاء، أما المجنون فرفع عنه القضاء وكذا غير المميز مع انه كان يمكن ان يجعل في حقهما بان يكون مكلفاً شأناً (وإنشاءاً) معلقاً فعليته على عقله وتمييزه..
المراد من الرفع انه لا اقتضاء فيه للوضع
الوجه الخامس: وهو عكس الرابع، وهو معه على سبيل البدل، ان المراد من رفع القلم انه لا اقتضاء لوضع القلم عليه.
لكنّ الصحيح ان هذا الوجه غير مضاد للوجه السابق، فان هذا الوجه يراد من متعلّقه الفعلية أي انه لا اقتضاء له فعلاً، وذاك الوجه يراد به الشأنية أي ان له الاقتضاء شأناً، فحيث له الاقتضاء شأناً صح نسبة الرفع إليه، وحيث لا اقتضاء له فعلاً أريد برفع عنه القلم انه لم يجعل عليه لأنه لا اقتضاء له، فقد كنّي برفع القلم عنه عن عدم جعله عليه وعدم كتابة شيء عليه.
المصحِّح: صحة وضع الآثار
الوجه السادس: ان مصحِّح الرفع عنه، اقتضاء وضع الآثار عليه، فحيث صح وضع كل أو بعض آثار التكليف عليه، صح رفعها عنه، وذلك هو ما أوضحناه ضمن إن قلت – قلت السابق.
بعبارة أخرى: انه وإن لم يصلح لأن يوضع عليه قلم التكليف فعلاً، لكنه يصلح لوضع بعض آثاره عليه، بعد الاستيقاظ أو الإفاقة أو التمييز، فحيث صح ذلك صلح التعبير برفع عنه القلم أي قلم الآثار، نعم في المجنون وغير المميز رفعت كافة آثار الأحكام التكليفية (إلا ما خرج) أما في النائم فقد وضعت عليه كافة الآثار (إلا ما خرج) فالأمر فيه على العكس فيهما، وسيأتي تفصيل أكثر بإذن الله تعالى.
المصحِّح لحاظ تكليف الغير به، أو بلحاظ حاله قبله أو بعده
الوجه السابع: ان رفع القلم يصح باحدى لحاظات ثلاث: بلحاظ أ- تكليف الغير بالنسبة إلى الطوائف الثلاث، ب- تكليفه هو بعد خروجه عن الجنون أو النوم أو اللاتمييز (وهو ما سبق) ج- تكليفه قبل الدخول في النوم أو الجنون لو فرض علمه بحدوثه لاحقاً.
فانّ وليّ الطوائف الثلاث يمكن ان يكلف فمثلاً يمكن ان يكلف ولي النائم أو غيره بإيقاظه لصلاح الصبح، كما انه يمكن ان يكلف هو بالقضاء مثلاً بعد استيقاظه كما قد كُلِّف بالفعل، كما يمكن ان لا يكلف به مع صلاحيته لأن يكلف حينئذٍ كما في المجنون بعد إفاقته، كما انه يمكن ان يكلف قبل النوم بان لا ينام حتى يصلي وإن وقع في مشقة أو يكلف بوضع منبّه شديد أو إذا لم يُجدِ معه ذلك فانه يمكن ان يكلف بتكليف غيره ولو باستئجاره لأن يوقظه حتماً ولو بالضرب المبرح مثلاً، لكن الله تعالى للطفه وكرمه رفع عنه ذلك امتناناً.
ولذا افتى المشهور بعدم وجوب إيقاظ النائم، وبعدم حرمة نومه قبل الفجر وإن علم انه لا يستيقظ، وبعدم وجوب تمهيد ما يوقظه حتماً، من قبل الفجر، لأن الفجر شرط الوجوب والوجوب قبل الفجر ليس متحققاً لتجب مقدمته، إذ الوجوب والواجب كلاهما استقبالي.. وللبحث صلة بإذن الله تعالى.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ((اعْمَلْ لِدُنْيَاكَ كَأَنَّكَ تَعِيشُ أَبَداً وَاعْمَلْ لآِخِرَتِكَ كَأَنَّكَ تَمُوتُ غَداً))
(من لا يحضره الفقيه: ج3 ص156)
-----------------
([1]) محمد بن الحسن بن الحر العاملي، وسائل الشيعة، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) ـ قم: ج1 ص45.
([2]) الدرس (566).
([3]) بحار الأنوار: ج22 ص31.
([4]) سورة البقرة: الآية 286.
([5]) السيد محمد الحسيني الشيرازي، الفقه / كتاب البيع: ج3 ص36-37.
|