بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على اشرف الخلق أجمعين محمد وآله الطيبين الطاهرين واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
كان البحث حول الاستظهار من طوائف الآيات الأربعة ، وكنا في الطائفة الرابعة من الآيات وهي الآمرة بالنظر والتفكر وشبه ذلك.
وقلنا إن المحتملات في هذه الآيات خمسة:
الأول: أن تكون خطابا للكفار على نحو القضية الخارجية.
الثاني: أن تكون خطابا للأعم من المنكر والمتحير بنحو القضية الحقيقية ـ حسب مصطلحنا ـ ، ويمكن ان يوجه هذا الثاني أيضا ليكون بنحو القضية الخارجية حسب المصطلح أيضاً.
الثالث: أن يكون الخطاب في هذه الآيات لغير المصيب بعنوانه. وأما الاحتمالان الرابع والخامس فهما مدار بحثنا الآن .
الاحتمال الرابع: أن يكون الخطاب في آيات ( قُلْ انْظُرُوا) و( أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا) و( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ) ونظائرها، موجهاً للظان . وإذا قلنا بهذا الاحتمال ـ وهو ما سننفيه لاحقا ـ فإن أمر كثير من المقلدين والمجتهدين سيكون مشكلا، لأنه لو قلنا أن هذه الآيات هي خطاب للظان، فعلى الظان إذن أن ينظر ويتفكر ويتدبر، فلا فرق فيه ـ من حيث هذه الآيات ـ بين المقلد الظان فإن عليه أن ينظر ويستدل ويجتهد ليصل للقطع. وكذلك المجتهد الظان الذي أوصلته أدلته في أصول الدين إلى الظن ، فعليه أن يعيد الاجتهاد والنظر ليصل لليقين ، إن أمكنه ذلك وإلا فهو معذور حينئذٍ فقط إذ القدرة من شرائط التكليف العامة.
وهذا الاحتمال الرابع جوهري ومفصلي لتحديد النتيجة النهائية للبحث ، وكان مفاده أن الآيات كانت خطابا لمطلق الظان ، أما العالم فلا؛ لأنه ليس بظان ولأنه واصل للمطلوب، وأما القاطع ، فلا أيضاً، لأنه ليس بظان فلا تشمله هذه الآيات.
الخامس: أن تكون الآيات خطابا للمقلد ، وبناءً عليه فإن على المقلد أن يستدل وينظر أي يجتهد ، كما هو مدعى الذين ساقوا هذه الأدلة. أما المجتهد الظان في أصول الدين فلا يجب عليه تكرار النظر.
والحاصل أنه على الاحتمال الرابع فإن المجتهد والمقلد كليهما عليهما النظر ليصلا إلى القطع إن كانا ظانين ، بينما على الاحتمال الخامس فإن المقلد فقط عليه النظر والاجتهاد سواء أكان المقلد ظاناً أو قاطعاً عبر تقليده.
النتيجة النهائية المستظهرة من الطائفة الرابعة من الآيات : وأما المستظهر عندنا فهو انتفاء المحتمل الرابع والخامس ، أي ليس الخطاب في هذه الآيات للظان ولا للمقلد بعنوانهما ، وانما الخطاب كما استظهرنا هو للكفار في بعض الآيات، وللكفار والمتحيرين في بعض الآيات الأخرى.
والآن علينا تسليط الضوء أكثر باستعراض مجمل الآيات لننفي الاحتمالين الرابع والخامس:
1 ـ قوله تعالى: ( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) ، فهل هذه الآية خطاب للظان أو للمقلد ؟ الظاهر : لا ، فعندما نلاحظ مجمل الآيات وسياقها وطرف الخطاب في الآيات السابقة واللاحقة فسوف نجد ان طرف الخطاب ليس المقلد ولا الظان ، بل لا إشارة ولا إشعار بأنهما المقصودان بالخطاب بعنوانهما.
فأما الآيات السابقة لها فإنها تتحدث عن المنافقين: (وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً * أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً * وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ). إذن الآيات تتحدث عن المنافقين، وهو ما ذكرناه في الاحتمال الثاني (ما كان الخطاب فيه موجها للأعم من الكافر المنكر ومن المتحير).
اذن هذه الآية هي إما ظاهرة في الاحتمال الثاني ، واما أن نقول أن قرينة السياق هذه ـ بحسب الآيات السابقة واللاحقة ـ لا تخصص الخطاب بالمنافقين بل هو خطاب لعامة الناس. وما نريد أن ننفيه هو أن الخطاب القرآني لا إشعار فيه لتوجهه لعنوان الظان ولا لعنوان المقلد وهذا هو المطلوب.
2ـ قوله تعالى: (إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ) فلو لا حظنا ما سبق هذه الآيات وما لحقها نجد أن الخطاب للكفار حسب المحتمل الأول أو الثاني.
فإن الذي سبقها هو (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا) فهي تتحدث عن الكافر لاعن الظان بعنوانه ولا عن المقلد بعنوانه(يَمَسُّهُمْ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) ثم تقول(إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ) اذن الخطاب هو للمكذبين، أو للأعم ومن المتحيرين، وعلى أي فليس للظان أو المقلد بعنوانهما.
3ـ ( قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) والآية هذه بنفسها وما سبقها وما لحقها، لا إشعار فيها بأنها تخاطب المقلد ليقال إن المقلد عليه أن يجتهد في أصول الدين، كما لا إشعار فيها أن الخطاب للظان ـ سواء أكان مجتهدا أو مقلدا ـ ليجب عليه أن يعيد النظر كي يقطع.
فإن ما قبلها من الآيات هو(وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) والحديث يدور عن المؤمن وغير المؤمن، وليس عن الظان أو المقلد وغيرهما، ثم قال: ( أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) ثم( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ) وهذا يؤكد أن محور الحديث هو عن الإيمان والكفر والمؤمن والكافر ( وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) وهم غير المؤمنين، ثم يقول ( قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ)، ولم يقل سبحانه: وما تغني الآيات والنذر عن قوم يظنون أو يقلدون، بل قال : لا يؤمنون. اذن الآيات ناطقة بأنها موجهة لمن ذكرناهم في الاحتمال الثاني.
4ـ الآية الأخيرة : ( أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ) عندما نلاحظ ما سبق هذه الآية وما لحقها فلا نجد هنالك إشارة بأن الخطاب للظان أو للمقلد بل هي خطاب للكافر. فما قبلها ( يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ * أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنْ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ). ولم يقل: بظانين أو مقلدين.
والحاصل أن هذه الطائفة الرابعة من الآيات لا إشعار فيها بأن الخطاب للظان أو للمقلد أو لغير المصيب بعنوانه ، والمستظهر كما ذكرنا أن الخطاب فيها للمنكر وللمتحير.
نتيجة نهائية : لو لم نقل أن خطاب الطائفة الرابعة موجه للكافر والمتحير حصراً، فإن هذه الآيات ستكون عندئذ عامة في كونها خطابا لكل الناس ، فتشمل الظان والمقلد وغيرهما، لا لأن الخطاب للظان أو المقلد بعنوانه، بل لأن الخطاب للأعم ، فتشمل الظان والشاك وتشمل المقلد وغيره.
وبناء على هذا الاستدراك، فإذا أردنا أن نُخرِج المقلد فلابد من دليل ، وقد قام الدليل في فروع الدين ، فهل هناك دليل في أصول الدين على كفاية التقليد؟ هذا ما يجب علينا أن نستنطق سائر الآيات والروايات فيه، كما سيأتي.
والحاصل: إنه لو كنا وهذه الآيات ولم نستظهر من سياقها وخطابها السابق واللاحق والمقارن أن القضية خارجية موجهة لتينك الطائفتين، فسوف تبقى الآيات عامة فتشمل الظان والمقلد ، وعليه فلو كنا وهذه الآيات لوجب الاجتهاد في أصول الدين مطلقا على المقلد ووجب على المجتهد الظان أن يكرر الاجتهاد ليصل لليقين .
هذا موجز المستظهر من الطائفة الرابعة، وأما الطوائف الثلاث الأولى فخلاصة القول فيها:
الطائفة الاولى: الآيات الذامة لإتباع الآباء: والظاهر أن تلك الآيات أجنبية عن المقصود، إذ بعضها تذم اتباع الآباء في باطلهم، وبعضها تدل بوضوح على ذم اتباع الآباء بما هم آباء ، لا بما هم عدول مجتهدون أهل خبرة. وقد يكون الذم في بعضها على إتباع الآباء كناية عن ذم اتباع الجاهل.
لا حظوا الآيات ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) ( قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنْ الصَّادِقِينَ) (وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ * أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ * بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ * وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) ، ونكتفي منها الآن بآية واحدة ، وهي الآية 170 من سورة البقرة:( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) فإن هذه الآية خطاب للكفار لا للمسلمين. والمذمة هي على اتباعهم لآبائهم في باطلهم ( قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا) إذ وقع ذلك مقابل ( اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ). أو أن نستظهر أن الذم هو على اتباعهم آباءهم لأنهم آباء لهم، أي لإلتزامهم الموضوعية في الآباء فتركوا الجانب الطريقي فـ( قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا). اذن الذم إما على اتباع آبائهم في باطلهم أو على اتباعهم آبائهم لموضوعية لهم، في بنائهم وتصورهم ، أو على الأعم ، وهو ما نستظهره لأن الكفار كانوا فريقين، فريق كان يعلم بأن الآباء هم على باطل ومع ذلك قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، والفريق الثاني كان لا يعلم بأن الآباء هم على باطل فهو متحير ، ومع ذلك يقول ( قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا) أي أن لآبائهم الموضوعية. والمستظهر هو الأعم. وعلى كلا التقديرين فإن هذه الآيات لا تنفع المستدل بها على وجوب النظر ووجوب الاستدلال على مقلدة المسلمين .
بقيت طائفتان من الآيات، آيات طلب العلم ، وأيضا الآيات الناهية عن اتباع الظن.. وللحديث صلة
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين |