بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(127)
الشيخ: سلّمنا نصب الطريق لكن بقاؤه غير معلوم
سبق نقل ثاني إشكالي الشيخ ((قدسه سره)) على صاحب الفصول ((قدسه سره)) وهو: (وثانياً: سلّمنا نصب الطريق، لكن بقاء ذلك الطريق لنا غير معلوم.
بيان ذلك: أن ما حكم بطريقيته لعله قسمٌ من الأخبار ليس منه بأيدينا اليوم إلا قليل، كأن يكون الطريق المنصوب هو الخبر المفيد للإطمئنان الفعلي بالصدور - الذي كان كثيراً في الزمان السابق لكثرة القرائن - ولا ريب في ندرة هذا القسم في هذا الزمان، أو خبر العادل أو الثقة الثابت عدالته أو وثاقته بالقطع أو بالبينة الشرعية أو الشياع مع إفادته الظن الفعلي بالحكم. ويمكن دعوى ندرة هذا القسم في هذا الزمان، إذ غاية الأمر أن نجد الراوي في الكتب الرجالية محكي التعديل بوسائط عديدة من مثل الكشي والنجاشي وغيرهما. ومن المعلوم أن مثل هذا لا يعد بينة شرعية، ولهذا لا يعمل بمثله في الحقوق)([1]).
المناقشة: يكفي أن نظن بأن ذلك الطريق أورثهم الإطمئنان
ولكن يمكن الجواب عن هذا الإشكال، دفاعاً عن الفصول بأن يقال: إن الفصول، حسب النص الذي نقله عنه الشيخ ((قدسه سره)) ارتأى بأننا نقطع بأن الشارع جعل لنا إلى أحكامه طرقاً (كخبر الثقة مثلاً أو الخبر الموثوق بصورة، أو الخبر المفيد للإطمئنان أو الخبر الثابت عدالة رواته بالقطع أو الشياع أو البيّنة الشرعية حسب مثالي الشيخ) وحيث لم نعلم الطريق الذي جعله الشارع (فهل جعل الخبر الموثوق الصدور أو جعل خبر الثقة مثلاً) فنتنزل إلى الظن، فما ظننّا أن الشارع جعله هو الطريق يكون حجة علينا، كما لو حصل لنا الظن من شهرة القدماء على أن خبر الثقة هو الذي نصبه الشارع وجعله طريقاً لا الخبر الموثوق الصدور أو العكس، أو ظننا من شهرتهم أن الخبر المورث للإطمئنان الفعلي حجة لا الشهرة ولا مطلق الخبر.
ولا يرد عليه إشكال الشيخ؛ إذ الشيخ يقول لعل الطريق الذي نصبه الشارع مما نقطع بأنه لم يصل إلينا، كالخبر المفيد للإطمئنان.. الخ، فيمكن الجواب عنه بتصحيح هذا الطريق المقطوع عدم وصوله إلينا بحيث ينتج كلام الفصول من غير أن يرد عليه إشكال الشيخ بأن يقال: إننا نظن بأن الخبر المفيد للإطمئنان للقدماء، أو لأمثال الشيخ الطوسي كان هو أخبار زرارة وسائر أصحاب الإجماع أو هو عامة أخبار الكافي إلا ما كان منه معارضاً أو قامت القرينة على خلافه فينطبق على هذا الظن نص كلام الفصول إذ قال: (فلا ريب أن الوظيفة في مثل ذلك بحكم العقل إنما هو الرجوع في تعيين تلك الطرق إلى الظن الفعلي الذي لا دليل على عدم حجيته، لأنه أقرب إلى العلم وإلى إصابة الواقع مما عداه)([2]) أي أن الطريق الذي نصبه الشارع، وهو الخبر المورث للإطمئنان، لم يصل لنا إذ عدمت القرائن الحافة وإنما وصل إلينا خبر غير مفيد للإطمئنان فليس الواصل إلينا هو الطريق المجعول للشارع، لكن الطريق المجعول للشارع حيث كان هو الخبر المفيد للإطمئنان في الأزمنة السابقة فإذا ظننا بأن أخبار أصحاب الإجماع مثلاً كانت هي المورثة للإطمئنان للمعاصرين، تحقق مصداق كلام الفصول وصغراه ولم يرد عليه (أن ما حكم بطريقيته لعله قسم من الأخبار لم يصل إلا القليل منه) إذ لا يلزم وصوله إلينا بالقطع كما لا يلزم إيراثه الإطمئنان لنا وإلا لكان باب العلم منفتحاً، بل يكفي الظن بأنه كان مورثاً للإطمئنان لأولئك القدماء وهو الحل الذي صرح به الفصول. فتدبر جيداً.
لا تلازم بين منع نصب الطريق وحصوله، وبين منع وصوله([3])
تنبيه : لا يتوهم أن كلام الشيخ في ثانياً: (وثانياً: سلّمنا نصب الطريق، لكن بقاء ذلك الطريق لنا غير معلوم) مناقض لكلامه في أولاً (وفيه: أولاً: إمكان منع نصب الشارع طرقا خاصة للأحكام الواقعية، كيف؟ وإلا لكان وضوح تلك الطرق كالشمس في رابعة النهار، لتوفر الدواعي بين المسلمين على ضبطها)([4]) إذ كيف يمنع ((قدسه سره)) نصب الشارع طرقاً خاصة مستدلاً بأنه لو كانت لبانت ثم يقرّ بأن بقاء ذلك الطريق لنا غير معلوم، مع أنه لو كان لبقي ولبان.
ووجه بطلان التوهم أن الكلام في (أولاً) عن كبرى نصب الطريق حدوثاً والكلام في (ثانياً) عن أنه لو سلّم نصبه حدوثاً فهل وصل لنا بقاءً أم لا، ولا تلازم بين الأمرين فقد يكون من البديهي عدم حصوله لكنه لو فرض أنه حصل ووجد فإنه قد لا يصل، بعبارة أخرى (أولاً) يتحدث عن الإيجاد والحصول و(ثانياً) يتكلم عن الإيصال والوصول.. ويوضحه: أنه قد ننكر وجود مجلد ثانٍ لنهج البلاغة مثلاً مستدلين بأنه لو كان لبان وحيث لم يبن فلم يكن، ولكن لو سلّمنا وجوده فلنا أن نقول لكنه الآن ليس باليد ولا يلزم من وجوده قديماً وصوله إلينا حديثاً فلا يصح الإستدلال بأنه لو كان لوصل وإن صح أنه لو كان لبان، إذ قد يكون ولا يصل ككثير من الكتب التي أتلفت.. فتدبر.
الشيخ: الإجماع العملي على حجية خبر الواحد، غير مجدٍ
وقال الشيخ ((قدسه سره)): (ودعوى حجية مثل ذلك بالإجماع ممنوعة، بل المسلم أن الخبر المعدل بمثل هذا حجة بالإتفاق. لكن قد عرفت سابقاً - عند تقرير الإجماع على حجية خبر الواحد - أن مثل هذا الإتفاق العملي لا يجدي في الكشف عن قول الحجة. مع أن مثل هذا الخبر في غاية القلة، خصوصاً إذا انضم إليه إفادة الظن الفعلي)([5]).
لأنه غير معلوم الوجه أو لكون وجهه مما لا نرتضيه
وتوضيحه: أن الإجماع العملي، هو كفعل المعصوم ((عليه السلام))، ليس حجة علينا ما لم تعلم جهته، فإذا رأينا المعصوم ينظر إلى امرأة لم يجز لنا النظر إليها بحجة أنه ((عليه السلام)) نظر إليها إذ لعلها زوجته أو أمته أو محللة له، وكذلك الإتفاق العملي على الأخذ بالأخبار الموجودة في الأصول الأربعمائة والكتب الأربعة فإنه ما لم يعلم وجهه لم يكن حجة علينا.
والسبب في ذلك: أن وجه حجية أخبار الرواة، كوجه حجية أقوال الرجاليين، قد يكون أحد الأمور التسعة الآتية: الإنسداد الكبير، الإنسداد الصغير، كونها من دائرة خبر الثقة، كونها من مصاديق الخبر الموثوق بصدوره، كونها من قول أهل الخبرة، إفادتها الإطمئنان، قيام البيّنة على تعديل أو توثيق رواتها، الشياع، وأخيراً الفتوى...
فإذا لم نعلم أن وجه عملهم بتلك الأخبار ما هو لم يصح لنا أن نعمل بها، (فكيف إذا علمنا بأن وجهه هو مما لا نرتضيه مبنىً) إذ لعل وجهه قولهم بالإنسداد الكبير ولا نقول به، أو لعل وجهه كونه من باب الفتوى لكننا لا نرى أن خبر الثقة حجة من باب الفتوى لاختصاص حجية الفتوى بالمقلد وليست الفتوى حجة على الرجالي أو الفقيه الآخر، ولعل وجه الحجية عندهم قيام البيّنة المباشرة لديهم على أكثر الروايات، أما نحن فنفتقدها، وهكذا.. فإذا أحرزنا الوجه وأحرزنا اشتراكنا معهم في المبنى، كما لو أحرزنا أن وجه عملهم هو كون ما عملوا به خبر الثقة وأحرزنا كونه خبر الثقة، كان اتفاقهم حجة علينا على أنه مستغنى عنه حينئذٍ، إلا أن نرى كفاية كونه ثقة عندهم أو كفاية الشياع لديهم في حجية الخبر علينا فتأمل.
والحاصل: إن اتفاقهم العملي على حجية أمر ليس حجة علينا ما لم نعلم وجهه، وفي المقام لا نعلم وجهه، ولكن ستأتي منّا مناقشة لذلك فانتظر.
صلى الله على محمد وآله الطاهرين
عن أبي عبد الله ((عليه السلام)) قال: ((قَالَ إِبْلِيسُ لَعَنَهُ اللَّهُ لِجُنُودِهِ: إِذَا اسْتَمْكَنْتُ مِنِ ابْنِ آدَمَ فِي ثَلَاثٍ، لَمْ أُبَالِ مَا عَمِلَ؛ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ مِنْهُ: إِذَا اسْتَكْثَرَ عَمَلَهُ، وَنَسِيَ ذَنْبَهُ، وَدَخَلَهُ الْعُجْبُ)) (الخصال: ج1 ص112).
-------------------------------
([1]) الشيخ مرتضى الأنصاري، فرائد الأصول، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم: ج1 ص443-444.
([2]) محمد حسين الحائري الأصفهاني، الفصول الغروية في الأصول الفقهية، دار إحياء العلوم الإسلامية ـ قم: ص277.
([3]) فقد نمنع الأول، بدليل لكن الدليل لا يجري في الثاني.
([4]) الشيخ مرتضى الأنصاري، فرائد الأصول، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم: ج1 ص439.
([5]) الشيخ مرتضى الأنصاري، فرائد الأصول، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم: ج1 ص444.
|