بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين،والصلاة والسلام على محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
البحث حول الاستدلال بالروايات الشريفة على حرمة التقليد في أصول الدين ووجوب الاجتهاد
بدأنا بالرواية التي ابتدأ بها في القوانين وهي المروية في الكافي الشريف عن الإمام الكاظم ع حيث جاء فيها أن ذلك الكافر يقول: "سمعت الناس يقولون فقلته فيضربانه بمرزبة لو اجتمع عليه الثقلان الأنس والجن لا يطيقونها"
وظاهر"سمعت الناس يقولون فقلتهفيضربانه..."أنالعقاب ترتب على قوله هذا، والمستدل يرى هذا دليلاً على حرمة التقليد في أصول الدين.
الاحتمالات الأربعة في (سمعت الناس يقولون فقلته) لكن ذكرنا أن المحتملات في هذه الجملة من هذه الرواية ،أربعة:
الاحتمال الأول:(وهو المستظهر) أن العقاب والضرب بالمرزبة ليس على التقليد وعلى أنه سمع الناس يقولون فقال بقولهم، بل العقاب على ما كشف عنه هذا القول من عدم الاعتقاد ومن عدم الإيمان وعقد القلب.
الاحتمال الثاني: أن يكون العقاب على تقليده في الباطل فيعاقب عليه العبد، أما إذا كان التقليد في الحق فلا عقاب له ، وهذا الاحتمال الثاني منتفي؛ لأن الرواية صريحة بأن "ما سمعه ،فقاله" هو مطابق للواقع وهو شهادةان الله هو الرب وأن رسوله هو المصطفى محمد ص وأن دينه الإسلام،فهذا الاحتمال الثاني بكون العقاب على التقليد الموصل للباطل، واضح الانتفاء في الرواية.
الاحتمال الثالث: أن يكون العقاب على التقليد بما هو هو أي أن التقليدفي أصول الدين هو الذي استحق عليه العقاب.
الاحتمال الرابع: هو أن يكون العقاب على صنف من اصناف التقليد وهو التقليد غير المورث للاطمئنان، فليس العقاب على التقليد بما هو هوبل على تقليد غير مستقر وغير مورث للاطمئنان وسكون النفس.
وجهان لنفي الاحتمالين الأخيرين وهذان الاحتمالان الأخيران ينبغي نفيهما ليثبت الاحتمال الأول الذي استظهرناه.فنقول يمكن أن يستدل بوجهين على نفيهما:
الوجه الأول:لا تناسب ولا تجانس بين العقاب الرهيب المذكور في الرواية وبين (التقليد بما هو هو رغم إيصاله للحق) أو (التقليد الذي لم يورثه الطمأنينة كذلك) ومرجع هذا الوجه إلى دعوى ارتكازية ذلك عقلائياً وفي أذهان المتشرعة، واستنكار خلافه،فلو طرحت هذه القضية على العقلاء بما هم عقلاء وعلى المتشرعة بما هم متشرعة: أن هذا الشخص كان محقاً لكن طريقه إلى الحق كان هو التقليد ومع ذلك فإنه يعاقب هذا العقاب الغريب المذهل، لاستنكروا ذلك.
فمرجع هذه الدعوى الى ارتكازية لزوم التناسب عقلائياً وفي أذهان المتشرعة أيضاً كبرى، وعدم التناسب بين التقليد والعقاب عليه صغرى، فتأمل.
الوجه الثاني:وهو يظهر من الدقة في ملاحظة التقابل الموجود بين فقرتين من الرواية ، الفقرة الأولى : قول المؤمن "هذا أمر هداني الله له وثبتني الله عليه" والفقرة الثانية قول الكافر "سمعت الناس يقولون فقلته " وهذا التقابل يفيد نفي الاحتمال الثالث والرابع .
بيان التقابل بوجهين : الوجه الأول:يظهر بأن نتصرف في المطلع، الوجه الثاني:يظهر بالتصرف في المنتهى
أما التصرف في المطلع ، فلو كان المطلع -عندما سئل المؤمن "كيف علمت ذلك؟"-"لأنني نظرت واستدللت"عندئذ يكون ظاهر الفقرة الثانية (التقليد) لوقوعها في مقابل ذلك التعبير الآخر الذي فرضناه بدلا عن الموجود في الرواية، وبعبارة أخرى: إذا كان قول المؤمن هو "لأنني نظرت واجتهدت فوصلت"، لكان ذلك قرينة على أن المراد ب قول الكافر "سمعت الناس يقولون فقلته" التقليد فيكون أن العقاب على التقليد
لكن تعبير الرواية عن لسان المؤمن بـ"هذا أمر هداني الله له وثبتني الله عليه" فيظهر منه أن المشكلة في مقابله وهو الكافر هي عدم اهتدائه لما هداه الله له وعدم إيمانه، والكاشف عن قوله "سمعت الناس يقولون فقلته"، لا صِرف تقليده.
وإنما كان لا بد من أن نتصرف في هذا الجانب لتوضيح هذا التقابل الذي يبدو غير متجانس لأن ذلك – المقطع الأول -يتكلم عن المودّى وهذا – المقطع الثاني -يتكلم عن الطريق، فِلمَ لم يكن التقابل حقيقياً؟ سيظهر أنه مقصود ودقيق ليفيد فائدة جديدة.
الوجه الثاني:وهو -عكس الاول- ففي المقطع الثاني بدل أن يقول "سمعت الناس يقولون فقلته" لو كان قد قال "لأنني لم أهتدِ إلى الحقيقة" فكان هذا يقابل ذلك لكنه لم يقل ذلك
فهذا العدول عن ذكر المقابل الحقيقي يكشف عن أن قوله "لأنني سمعت الناس يقولون فقلته"كان محاولة منه لتبرير شهادته الاضطرارية في القبر، لكن مع كشفها عن إذعانه بأنه ليس مهتدياً في عمقه فقدعدل عن قول "أمر هداني الله إليه" لأنه ثبوتاً يعلم أن الله لم يهده إليه ويعمل بعلم من يحاكمه بذلك فلا عمق لهذا الكلام بل هناك سطح فقط غير حالٍ عن العمق (وعن عقد القلب).
بتعبير آخر حيث عدل عن بيان الثبوت إلى بيان الإثبات، دل ذلك على عدم وجود واعتقاد وإيمانله فالعقاب على المدلول عليه وليس على الدال ، فتدبر .
هذه القرينة الثانية وهي قرينة واضحة وستتضح أكثر مما سيأتي إن شاء الله.
فقه رواية (هذا أمر هداني الله له) وأما المقطع الأول من الرواية عن المؤمن حيث يُسأل فيجيب بما هو الصواب فيسأل (كيف علمت ذلك) فيقول "هذا أمر هداني الله له وثبتني الله عليه" هذا المقطع ينبغي أن يتوقف عنده لأنه يمكن أن يستدل به بطريقتين متناقضتين
1- دلالته على محورية الواقع فقط فإن هذه الرواية ظاهرة -إن لم نقل هي نص- في أن هذا الذي حظي باقرار الملائكة وقبولهم كلامهونال تقرير الإمام الكاظم ع هو: جعل المؤمن المحور لنجاته هو (هداية الله سبحانه وتعالى) له،ولم يجعله سلوكه (طريقَ الاجتهاد) كما لم يجعله (طريق التقليد).
فيدل ذلك على أن المنجاة في (الوصول للواقع) وأن طريق الاجتهاد اوالتقليد لا موضوعية لهما بل لا شأن لهما في النجاة.
فان المستفاد من الرواية ان المؤمن عدل عن قول"اجتهدت واستفرغت الوسع فوصلت إليه"الى"أمر هداني الله إليه"إلى أنه علق هدايته على أمر غيبي -وهذا أمر مستغرب حسب ظاهر مبانينا في لزوم إتباع الحجج فيحتاج إلى تحليل-ولم يعلقه على سلوكه طريقاً شرعياً أو عقلائياً.
إذالرواية تقول (كيف علمت ذلك)أي أن الملك يسأله كيف عرفت أن الله ربك وأن محمد رسول الله وأن الأئمة أئمتك فأجاب بالإحالة على أمر غيبي ففتح له باب إلى الجنة، والمهم أن الإمام الكاظم يقر ذلك. فماذا يعني ذلك؟ هذا ما يحتاج إلى تأمل
2- دلالته على نفي الحاجة للاجتهاد والتقليد بل قد يدعى انه يدل ويصلح هذا المقطع من الرواية، على نفي حجية الاجتهاد كما يدعيه الاخباريون (وإن لم يذكروه)فهذا يصلح دليلا للإخباري المنكر للاجتهاد، أو يدل على نفي لزوم سلوك طريقي الاجتهاد والتقليد أو نفي الحاجة إليهما.
مناقشة ذلك: لكن ما سبق غير تام إذنقول أن ظاهر كلام الميت الذي حظي بإقرار من الإمام ع أنه أشار إلى علة العلة ولم يشر إلى العلة.
وببيان آخر أدق لو أن "هذا أمر هداني الله له وثبتني الله عليه" كان في عرض الطرق الأخرى كالاجتهاد والتقليد وما أشبه، لدل اختياره بخصوصه على نفي سائر الطرق، لكن الفرض أن هذا ليس في عرض تلك بل هو في طولها، فهو إذن ساكت عنها لا يثبتها ولا ينفيها، أي أن هذه الرواية على الحياد.
بعبارة أخرى: لو كانت هناك طرق متعارضة أو متقابلة فانتخب منها طريقاً على سبيل البدل واعتبره منجاة،لدلّذلك على نفي البدائل بظهوره، لكنه إذا كان ما انتخبه مقسماً وليس قسيماً للطرق فلا يدل اختيار ذكر المقسم على نفي أحد الأقسام وعلى أية حال فهذه الرواية -على هذا - تكون على الحياد: لا تدل على ان الاجتهاد مجزئ كما لا تدل على أنه غير مجزئ، ولا تدل على التقليد مبرئ أو غير مبرئ هذا ولكن مع ذلك كله سنقول أن المستظهر من هذه الرواية حجية الاجتهاد والتقليد ببيان سيأتي غداً إنشاء الله
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين... |