بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(128)
الوجوه التسع لحجية خبر الثقة
سبق: (والسبب في ذلك: أن وجه حجية أخبار الرواة، كوجه حجية أقوال الرجاليين، قد يكون أحد الأمور التسعة الآتية: الإنسداد الكبير، الإنسداد الصغير، كونها من دائرة خبر الثقة، كونها من مصاديق الخبر الموثوق بصدوره، كونها من قول أهل الخبرة، إفادتها الإطمئنان، قيام البيّنة على تعديل أو توثيق رواتها، الشياع، وأخيراً الفتوى...
فإذا لم نعلم أن وجه عملهم بتلك الأخبار ما هو لم يصح لنا أن نعمل بها، (فكيف إذا علمنا بأن وجهه هو مما لا نرتضيه مبنىً) إذ لعل وجهه قولهم بالإنسداد الكبير ولا نقول به، أو لعل وجهه اعتباره من باب الفتوى لكننا لا نرى أخبار الثقات حجة من باب الفتوى لاختصاص حجية الفتوى بالمقلد وليست الفتوى حجة على الرجالي أو الفقيه الآخر، ولعل وجه الحجية عندهم قيام البيّنة المباشرة لديهم على أكثر الروايات، أما نحن فنفتقدها، وهكذا..)([1]).
الفرق بين الإنسداد الكبير والصغير
إيضاح: والفرق بين الإنسدادين الكبير والصغير:
إنه في الإنسداد الكبير يقال: بأن باب العلم والعلمي بالأحكام الشرعية (كلها أو معظمها أو جملة معتد بها) منسدٌّ، وهذه هي المقدمة الثانية، والعلم ببقاء التكاليف الفعلية، وهذه هي المقدمة الأولى، وأن الإحتياط غير ممكن أو مستلزم للعسر والحرج أو حتى لاختلال النظام، والعمل بالبراءة مخرج عن الدين والعمل بسائر الأصول العملية في مواردها ينافي العلم الإجمالي، والقرعة لا دليل على جريانها في الأحكام الكلية وتقليد الإنفتاحي من قبل الإنسدادي غلط، وهذه هي المقدمة الثالثة، فلا يبقى إلا العمل بالظن بالأحكام الفرعية لأن قسيمه وهو الوهم أو الشك مرجوح بلا شك وهذه هي المقدمة الرابعة، فينتج ذلك حجية مطلق الظنون (بناء على كون النتيجة مطلقة) بالأحكام الفرعية من أي طريق حصلت، إلا ما نهى عنه الشارع.
وأما في الإنسداد الصغير فيقال: إن باب العلم أو العلمي بالأحكام منفتح، لكن باب بعض مبادئ الإستنباط خاصة هو المنغلق كما لو فرض القول بأن أقوال الرجاليين لا تفيد الظن النوعي وليست حجة من هذا الباب ولا يوجد دليل خاص على حجيتها، بل ليس إلا الظن المطلق فيها، وفرض أن سائر الطرق إلى الأحكام الفرعية وافية بها، كالروايات المتواترة والروايات المعتضدة بالقرائن القطعية كالموافقة للكتاب وغير ذلك، فإنه قد يتوهم ههنا أن الظن الرجالي لا يكون حجة حينئذٍ من باب الإنسداد، وذلك لفرض وجود طرق أخرى، علمية من باب الظن الخاص، بديله تفي بالأحكام، ولكن الإنسدادي الصغير يدعي حجية الظنون الرجالية رغم ذلك وذلك استناداً إلى وجود العلم الإجمالي بأن كثيراً من أقوال الرجاليين في التوثيقات حجة، وعليه: نعلم إجمالاً بصحة بعض الروايات المتضمنة للأحكام الشرعية والتي وثق الرجاليون رجالها، وحيث أن تركها جميعاً خلاف العلم الإجمالي وكذا العمل بالأصول في مواردها أو القرعة.. الخ فلا مناص إلا من الترجيح بينها بالظن المطلق.. فهذا تقرير لوجه دعوى الإنسدادي الصغير لِيُعرف أن له وجهاً وإن نوقش فيه في محله.
فإتفاق الفقهاء العملي ليس حجة علينا
وعليه: (فإذا أحرزنا الوجه وأحرزنا اشتراكنا معهم في المبنى، كما لو أحرزنا أن وجه عملهم هو اعتمادهم على إخبار الثقات وكون ما عملوا به خبر الثقة لديهم فإن اتفاقهم حجة علينا، إذا كنا نرى كفاية كونه ثقة عندهم أو كفاية الشياع مثلاً لديهم في حجية الخبر علينا، فتأمل.
والحاصل: على حسب رأي الشيخ: إن اتفاقهم العملي على حجية أمر ليس حجة علينا ما لم نعلم وجهه، وفي المقام لا نعلم وجهه، ولكن ستأتي منّا مناقشة لذلك فانتظر)([2])
المناقشة: الإجماع العملي حجة
ولكنّ المستظهر عدم تمامية إشكال الشيخ في قوله: (ودعوى حجية مثل ذلك بالإجماع ممنوعة، بل المسلم أن الخبر المعدل بمثل هذا حجة بالإتفاق. لكن قد عرفت سابقاً - عند تقرير الإجماع على حجية خبر الواحد - أن مثل هذا الإتفاق العملي لا يجدي في الكشف عن قول الحجة. مع أن مثل هذا الخبر في غاية القلة، خصوصاً إذا انضم إليه إفادة الظن الفعلي)([3]) وذلك لأن الظاهر حجية الإجماع العملي وإن لم نعلم وجهه ولا اشتراكنا في المبنى مع المجمعين بل حتى لو علمنا اختلافنا معهم في المبنى؛ وذلك لأن وجه حجية الإجماع، سواء القولي أو العملي، هو اللطف على رأي الشيخ الطوسي في العدة([4]) والمحقق الداماد وشريف العلماء وغيرهم والحدس على رأي المتأخرين، وعلى كلا المبنيين فإن الإجماع العملي حجة مطلقاً:
على اللطف
أما على اللطف، فواضح إذ على اللطف يقال: إنه يمتنع على الله تعالى ثم على الرسول ((صلى الله عليه واله وسلم)) والإمام ((عليه السلام)) بالنظر للحكمة والعدالة واللطف([5]) ولزوم الهداية والمقرِّب للطاعة، أن يترك الأمة كلها تسير على ضلال وباطل سواء في الأصول أم الفروع أم الأحكام، بل لا بد من أن يبقى القول الحق ونوره مضاء مقررّاً ولو بيد عدد قليل من الفقهاء بحيث يصدق وجود النجدين في كل حق وباطل ((وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ))([6]) وكي لا يكون الناس أمة واحدة على الضلال، قال تعالى: ((وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ * وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقينَ))([7]).
وعليه: إذا وجدنا إطباق العلماء كافة على رأي ونظر وحكم من غير أن يخرج منهم خارج بقول آخر، علمنا أنه موافق لرأي المعصوم ((عليه السلام)).. ولا فرق حينئذٍ بين أن نعلم وجهه أو لا، بل حتى إذا علمنا وجهه (ولنفرض أننا علمنا أن وجه إجماعهم هو اعتقادهم بالإنسداد الكبير) وكان مبنانا خلافه (إذ كنا لا نراه) فإن اتفاقهم العملي بضميمة قاعدة اللطف حجة قطعاً علينا إذ أن إمضاء الإمام ((عليه السلام)) المستكشف من اللطف يكشف إما عن أن مبناهم في الإنسداد الكبير صحيح فيكشف لنا خطأ مبنانا، أو أن مبناهم قد يكون خطأً لكن الإمام ((عليه السلام)) يرى صحة الحكم، لوجه آخر لا نعلمه، فعلى أي حال يكون الحكم العملي الذي أجمعوا عليه حجة علينا.
وعلى الحدس
وأما على الحدس، فكذلك إذ يُحدس من اتفاق أصحاب المرجع مثلاً، من وكلاء ونواب وأعضاء مكتب وأئمة جماعة منصوبين من طرفه، على حكم ورأي، مع علمنا بتقيّدهم بفتاواه، أنّ هذه فتواه وإن لم يصرحوا بنسبتها إليه، والأمر في الإمام ((عليه السلام)) أوضح إذ لا يعقل أن يجمع أصحابه والرواة عنه والفقهاء الذين يلونهم على مرّ التاريخ على أمر شرعي من غير أن يكونوا قد أخذوه منه مع تقيد آحادهم بآرائه وعدم تخطيهم عنها فكيف بإجماعهم على خلاف رأيه؟
وبعبارة أخرى: هناك ملازمة عقلية بين إتفاق كافة الفقهاء على أمر وبين كونه قول المعصوم ((عليه السلام)).
والحاصل: أننا من إجماعهم على حكم شرعي نعلم بأنهم أخذوه منه ((عليه السلام)) لا محالة.
وكما ترى فإن هذا الوجه (الحدس) لا يختلف فيه الإجماع القولي عن العملي.
ثم إن الشيخ ((قدس سره)) في بحث سابق وتبعه أوثق الوسائل في هذا البحث أوضح عدم حجية الإجماع العملي بكون حاله كحال التواتر في أنه قد لا يكون حجة، وذلك فيما إذا لم يعلم وجه نقلهم للخبر.. وسيأتي بيانه والمناقشة فيه بإذن الله تعالى.
صلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال رسول الله ((صلى الله عليه واله وسلم)): ((مَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بِمَعْرِفَةِ أَهْلِ بَيْتِي وَوَلَايَتِهِمْ، فَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ الْخَيْرَ كُلَّهُ)) (الأمالي للصدوق: 474)
---------------------------
([1]) الدرس (127).
([2]) الدرس (127) بتصرف.
([3]) الشيخ مرتضى الأنصاري، فرائد الأصول، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم: ج1 ص444.
([4]) على ما نقله عنه الشيخ في الرسائل: ج1 ص193 (وراجع العدة: ج2 ص631 و637).
([5]) أوضحنا ان للطف معاني ثلاثة في كتاب (فقه التعاون على البر والتقوى).
([6]) سورة البلد: الآية 10.
([7]) سورة الزخرف: الآيات 33 – 35.
|