• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : الظن (1444هـ) .
              • الموضوع : 132-المرجح المنطقي القطعي لدى الاختلاف في المجربات والحدسيات والمتواترات والإجماع .

132-المرجح المنطقي القطعي لدى الاختلاف في المجربات والحدسيات والمتواترات والإجماع

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
( 132)

سرّ حصول اليقين من المتواتر والحدسيات لشخص دون آخر
ثم إنّه يبرز سؤالان في حجية الإجماع وحجية الخبر المتواتر وكذلك الحال في التجربيات والحدسيات، وهما:
الأول: لماذا يحصل اليقين من المتواترات والحدسيات.. الخ لشخصٍ دون آخر؟ ولماذا يحصل الحدس برأي المعصوم ((عليه السلام)) من الإجماع المحصَّل، لفقيه أو أصولي دون آخر، وفي المقام: لماذا حصل لصاحب الفصول يقين بنصب الشارع للطرق ولم يحصل للشيخ رغم إذعانهما بتحقق الصغرى وهي الإجماع على العمل بهذه الطرق فانه محرز لديهما معاً([1])؟.
هل توجد مرجعية لدى الخلاف في الحدس من التواتر والإجماع؟
الثاني: أنّه هل توجد مرجعية لدى الاختلاف، فلو أفاد التواتر شخصاً أو جماعة، اليقين دون آخرين، فهل يمكن للجماعة الأولى إقناع الجماعة الثانية أو إفحامها؟ أو ينقطع الاستدلال عندئذٍ؟
أما السؤال الأول فسيأتي الجواب عنه بإذن الله، وأما السؤال الثاني فقد أجاب المنطقيون عنه بالعدم.
ابن سينا والطوسي: لا توجد مرجعية
قال إبن سينا في الإشارات والتنبيهات: (والحدسيات أيضاً يختلف بالقياس إلى الأشخاص كالمجرّبات، ولا يمكن إثباته لغير الحادس ولذلك يعد من المبادئ)([2]).
وقال الطوسي في شرحه: (ومن حاول أن يحصر هذه الشهادات في مبلغ عدد فقد أحال فإن ذلك ليس متعلقاً بعدد يؤثر النقصان والزيادة فيه، وإنما المرجوع فيه إلى مبلغ يقع معه اليقين فاليقين هو القاضي بتوافي الشهادات لا عدد الشهادات، وهذه أيضاً لا يمكن أن يُقنَع جاحدُها أو يُسكَت بكلام‌)([3]).
التحقيق: وجود الضابط والمرجعية
أقول: لكن الصحيح خلافاً لهؤلاء المناطقة، انه توجد هنالك مرجعية يمكن عبرها برهنة الحدسيات والمجرّبات والمتواترات والإجماع، لمن لم يحصل له الحدس واليقين منها، وانه يمكن ان يقنع الجاحد أو يسكت، وهذا الجواب يشكل تطويراً جديداً في علم المنطق.
المرجع: تمييز الجهات الدخيلة عن الأصيلة
والمرجعية التي يمكن عبر الرجوع إليها إقناع المنكر أو إسكاته هي: (تمييز الجهات الدخيلة في ثبوت الحكم بشكل عَرَضِي عن الجهات الدخيلة فيه ذاتياً)، بعبارة أخرى: (تحييد الخصوصيات التي يستمسك بها المنكر للقدح في ثبوت الحكم).
بعبارة ثالثة: هناك وسيلة لبرهنة ان هذا التواتر لم يكن عن تواطؤ ولا كان خطأً وان ذلك الإجماع لم يكن عن حدس بمعقَدِهِ من إعمال أصل مسلّم أو رواية مسلّمة يلزمها، بزعم مدعي الإجماع، الإجماع على ذلك اللازم.
ففي مثال (العصا مؤلمة) و(المولود من أبوين لا يكون أسود بالضرورة) لمن عاش في أفريقيا فقط، أمكننا إحراز كلية (العصا مؤلمة) من تحييد عناصر ألوانها وأشكالها وإثبات انها غير دخيلة في ثبوت الحكم، أي الايلام للضرب بما هو، وانها جهات عارضية غير دخيلة، عكس الولادة من أبوين أسودين إذ كانت الولادة من أسودين جهة ذاتية دخيلة في كون الولد أسود، ولذا لو انتفت انتفى الحكم.
التمييز بين دعويي تواتر عدالة علي ((عليه السلام)) ومَن سبقه
وأما في المقام: فيمكننا ان نميز بين دعويين للتواتر لدى طائفتين كل منهما مذعن بخبره المتواتر، رغم كون أحدهما خطأ أو كذباً والآخر صحيحاً، ويمكننا البرهنة على ذلك للطائفة الأخرى، فنثبت لها ان دعوانا التواتر صحيحة مطابقة للواقع، عكس دعواكم.
ولنضرب لذلك مثالاً دالاً بوضوح على ما ندعيه: فهناك من جهة دعوى أهل الخاصة بعدالة الإمام علي ((عليه السلام)) أو شجاعته لتواتر الروايات لديهم بذلك، ومن جهة أخرى دعوى العامة عدالة من سبقه أو شجاعته لتواتر الأخبار لديهم فرضاً بذلك، فيمكننا هنا إقناع الخصم أو إسكاته عبر مرجعيةٍ لا يرقى إليها الشك، خلافاً للمنطقيين الذين رأوا ان الحجة تنقطع بالنسبة للجاحد، كما سبق نص بعض عباراتهم.
والتمييز بين الدعويين بالقول بصحة احداها دون الأخرى بان يقال: ان جهة تشيع رواة عدالة علي ((عليه السلام)) لم تكن دخيلة في وصفه ((عليه السلام)) بها وإخبارهم بها عنه، عكس جهة تسنن رواة عدالة من سبقه، أما الأخير فلوضوح ان الناس مع الحاكم وان وعاظ السلاطين والمستأكلين بعلمهم من الرواة، وهم كثيرون جداً، تتوفر لديهم الدواعي لجعل فضائل للحاكم، إما طمعاً في مال أو منصب وإما خوفاً من عزل أو إبعاد أو إقصاء أو تهميش أو تعزير أو غير ذلك، وبذلك نعرف ان جهة كونه حاكماً وسلطنته وكونهم محتاجين إليه أو خائفين منه ذات مدخلية قطعية، ويكفي كونها احتمالية، في تواتر هذا الخبر فليس مفيداً لليقين ولا هو بحجة.
وأما الأول، وهو تواتر أخبار عدالة علي ((عليه السلام))، فيمكن إحراز عدم مدخلية كون الرواة شيعة في إخبارهم أو اختلاقهم لها، عبر وضوح ان الطمع والخوف لم يكن أي منهما العلّة في جعل هذه الروايات إذ الروايات أغلبها، بل ربما كلها إلا الشاذ منها، وردت بعد شهادته ((عليه السلام)) وكانت السلطنة لبني أمية والعباس فكان كل من يروي رواية في فضيلته مطارداً محاصراً معذباً منفياً أو محروماً من العطاء والأموال والمناصب، فإذا وجدنا مع ذلك تواتر الروايات بعدله عرفنا ان الطمع والخوف لم يكونا السبب، بل كونه الواقع وإحرازه كان هو السبب، عكس روايات عدالة من سبقه، التي توفرت الدواعي للرواة ووعاظ السلاطين، في زمنه وطوال مئات السنين من الأزمنة اللاحقة في زمن بني أمية وبني العباس، لاختلاقها إما طمعاً في القرب لدى السلاطين وعلماء البلاط، أو تسقيطاً للمعارضة الدائمة للحكومات وهم الشيعة، عبر تبجيل أكبر رمز يعارضونه.
إن قلت: لعل السبب الذي يحتمل من أجله اجتماعهم على الاختلاق (حسب دعوى الخصم) شدة حبهم له صلوات الله عليه؟.
قلت: يمكننا بعد تحييد العامل الأول([4]) (الترهيب والترغيب) بما مضى، تحييد هذا العامل أيضاً بطرق مرجعية أخرى:
طريق مرجعي آخر
منها: ان نجد رواية معتبرة عند العامة بعدالة الإمام ((عليه السلام))، فكيف لو وجدناها مستفيضة، فانها تشهد حينئذٍ بصحة مضمون المتواتر لدينا وانه لم يكن اختلاقاً نابعاً من شدة الحب، وإلا لما وردت رواية معتبرة من طريقهم مع عدم وجه لاختلاقهم لهذا الخبر.
لا يقال: فالحجة عليهم روايتهم؟
إذ يقال: هي حجة عليهم دون شك، لكن مطابقة مضمونها للمتواتر لدينا يشهد عليهم بصحة المتواتر لدينا، نظير الخبر الضعيف إذا وجدنا مضمونه مطابقاً للكتاب فانه يصير حجة إذ يكون الكتاب حينئذٍ واسطة في ثبوت الحجية له، لا واسطة في العروض. فتدبر تعرف.
لا يقال: وماذا لو انعكس الأمر، بان تواتر الخبر بعدل من سبقه ((عليه السلام)) لديهم ووجدت رواية معتبرة لدينا فرضاً بذلك؟.
إذ يقال: ليس ذلك بحجة علينا ولا في سوق العقلاء لوجود الاحتمال العقلائي بصدورها تقية، عكس خبرهم بعدالة علي إذ لا يحتمل فيه ذلك. ويوضح ذلك أكثر المثال الآتي وهو:
أنّه لو تواتر لدينا قوله ((صلى الله عليه واله وسلم)) ((أَعْلَمُكُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ))([5]) و((أَقْضَاكُمْ عَلِيٌّ((عليه السلام)) ))([6]) ولم يتواتر عندهم فرضاً، فاننا يمكننا الاحتجاج بتواترنا عليهم مع تحييد جهة احتمال كون تشيع الرواة هي الباعث للاختلاق فرضاً، وذلك إذا وجدنا رواية معتبرة فرضاً عندهم بمضمون ((أَنَا مَدِينَةُ الْعِلْمِ وَعلي بَابِهَا، فَمَنْ أَرَادَ مَدِينَةَ الْعِلْمِ فَلْيَأْتِهَا مِنْ بَابِهَا))([7]) فان اعتبارها عندهم يكون واسطة في الثبوت لاعتبار روايتنا المتواترة كونها بمضمونها تماماً مما تشهد بصدقها، والواسطة واسطة في الثبوت كما سبق لا العروض.
ولئن لم يكتف الخصم ببعض الشواهد السابقة على تحييد عامل الحب والتشيع، وجب علينا شفعها بعوامل أخرى حتى يقتنِع أو يُفحَم، كما نجد ذلك بالوجدان في الكثير من مباحثات علماء الشيعة مع علماء العامة، على مر التاريخ فأمكنهم اقناعهم فتشيعوا، وما أكثرهم، أو إفحامهم فاسكتوا.
طريق مرجعي ثالث
ومنها: انه يمكن ان نمثل للعوامل الأخرى التي يمكن بها إقناع الطرف الآخر أو إفحامه، بعامل شدة صدق لهجة الرواة الذين رووا تلك الرواية([8])، إذ كثيراً ما يحصل للخصم بذلك الاطمئنان بصدقهم إذ يتضح لديه ان جهة تشيعهم أو حبهم له ((عليه السلام)) لم تكن مؤثرة في النقل أو سبباً للاختلاق، ويُبرهنه ويُوضحه: أن العديد من المشركين قبلوا دعوى الرسول ((صلى الله عليه واله وسلم)) بانه بعث نبياً، بما عهدوه من صدقه طوال معاشرتهم له، فمع ان دعوى النبوة ثقيلة جداً ولا يكفي في صحتها دعوى مدعيها اما للزوم الدور أو المصادرة، لكنهم اكتفوا بالاطمئنان التاريخي بصدقه على تصديق دعواه حتى من دون مطالبته بالإعجاز.
نعم قد لا يحصل لبعض الخصوم من ذلك كله الاقتناع والاطمئنان، فيجب البحث عن عناصر أخرى، والشاهد انه توجد أكثر من طريقة من طرق المرجحات الكيفية لتدعيم الجانب الكمّي في التواتر، وقد استعرضنا بعضها فقط (مطابقة المضمون لبعض رواياتهم، شدة صدق الرواة، مخالفة نقل الرواية لمصالحهم وتوفر دواعي الكتمان من الخوف والتقية).
طريق مرجعي رابع
ونضيف: وكذا المطابقة للقرائن العامة الأخرى، فان الروايات التي تدل على شدة شجاعته ((عليه السلام)) في الحروب مع عدم تعديه عليهم، حتى بالمقدار المكروه كسلْب سَلَبِ عمرو بن وُدٍّ، يصلح وغيره كثير، لعضد مؤدى الخبر المتواتر على عدالته.
والحاصل: ان الضابط الذي ذكرناه([9]) كبروي، فعلى الكلامي أو الأصولي أن يستفرغ الوسع في تشييد أركان صغرياته.
والغريب: ان هذا الضابط قد أذعن به المناطقة ولو بعبارة أخرى، لكنهم غفلوا عن كونه مفتاح الحل وانه معه لا يصح القول بـ(وهذه أيضاً لا يمكن أن يقنع جاحدها أو يسكت بكلام‌) فلاحظ كلام الطوسي (أقول: الشهادات قد تكون قولية وقد لا تكون كالأمارات و الرجوع فيه إلى حصول اليقين و زوال الاحتمال للوثوق بعدم مواطاة الشهداء و امتناع اجتماعهم على الكذب)([10])  وحاشية القطب (قوله "وقد لا تكون كالامارات" لا يريد بذلك أن التواتر يحصل بمجرد الامارات فان مبنى التواتر على الاخبارات بل المراد أن اليقين تارة يحصل بمجرد الاخبار الكثيرة وأخرى بحسب انضمام القرائن والامارات ومعها ولهذا لا ينحصر مبلغ الشهادات في عدد معين فربما يكفي مع الامارات القوية عدد اليسير وربما لا يكفي في حصول الجزم الاجم غفير)([11]) فان هذا الامارات مشيرة إلى الضابط الذي ذكرناه. فتدبر، وللبحث صلة بإذن الله تعالى.

 

صلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال الإمام الصادق ((عليه السلام)): ((لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي فَضْلِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا مَدُّوا أَعْيُنَهُمْ إِلَى مَا مَتَّعَ اللَّهُ بِهِ الْأَعْدَاءَ مِنْ زَهْرَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَنَعِيمِهَا، وَكَانَتْ دُنْيَاهُمْ أَقَلَّ عِنْدَهُمْ مِمَّا يَطَئُونَهُ بِأَرْجُلِهِمْ وَلَنُعِّمُوا بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ وَتَلَذَّذُوا بِهَا تَلَذُّذَ مَنْ لَمْ يَزَلْ فِي رَوْضَاتِ الْجِنَانِ مَعَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ، إِنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أُنْسٌ مِنْ كُلِّ وَحْشَةٍ وَصَاحِبٌ مِنْ كُلِّ وَحْدَةٍ وَنُورٌ مِنْ كُلِّ ظُلْمَةٍ وَقُوَّةٌ مِنْ كُلِّ ضَعْفٍ وَشِفَاءٌ مِنْ كُلِّ سُقْمٍ‏‏‏)) (الكافي: ج8 ص247).

------------------------

([1]) ولو بحسب ثاني جوابي الشيخ ولواحقه.
([2]) الشيخ أبو علي بن سينا، الإشارات والتنبيهات، نشر البلاغة ـ قم: ج1 ص 218.
([3]) الخواجه نصير الدين الطوسي، شرح الإشارات والتنبيهات، نشر البلاغة ـ قم: ج1 ص 218.
([4]) وانه يحفِّز على جعل أخبار عدالة الثاني، دون أخبار عدالة الإمام علي ((عليه السلام)).
([5]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج7 ص423. وتاريخ دمشق لابن عساكر، ج3 ص48 رقم 1079.
([6]) أبو منصور أحمد بن علي الطبرسي، الاحتجاج، نشر المرتضى ـ مشهد المقدسة، ج2 ص353. و شرح نهج البلاغة طبع مصر ج1 ص6.
([7]) ابن عساكر في تاريخ دمشق: ترجمة الإمام علي بن أبي طالب: ج42 ص378، الرقم 8976، والحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل: ج1 ص432، الرقم: 459، وابن المغازلي في مناقبه: ص84 الرقم: 125.
([8]) متواترة كانت أو غير متواترة.
([9]) من فرز الجهات الأصيلة عن الدخيلة وتحييد الهيئات العارضة.
([10]) الخواجه نصير الدين الطوسي، شرح الإشارات والتنبيهات، نشر البلاغة ـ قم: ج1 ص 219.
([11]) المصدر.

 

 


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=4330
  • تاريخ إضافة الموضوع : الأحد19 ربيع الاول 1444هـ
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 02 / 22