بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين بارئ الخلائق أجمعين باعث الأنبياء والمرسلين ثم الصلاة والسلام على سيدنا ونبينا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد(صلى الله عليه وآله) وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً واللعنة الدائمة الأبدية إلى يوم الدين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
كان البحث حول الأدلة النقلية التي يمكن أن يستدل بها على (وجوب الاجتهاد في أصول الدين وعدم الاكتفاء بالتقليد فيها) وأيضاً الأدلة التي يمكن أن يستدل بها على (وجوب تحصيل العلم في أصول الدين وعدم كفاية الظن) وإن كان حاصلاً عن اجتهاد، وقد مضت الأدلة القرآنية بطوائفها الأربعة ووصلنا إلى الروايات و مضى الحديث عن بعض الروايات.
استدلال "الفقه" : بروايات وجوب المعرفة
ننتقل الى الأدلة الروائية التي استند إليها في "الفقه" لإثبات "وجوب الاجتهاد في أصول الدين" ونضيف: ولـ:"إثبات وجوب العلم"، وهي الروايات التي مفادها وجوب المعرفة -ويغني تواترها الإجمالي القطعي عن بحث سندها، على أن سند بعضها معتبر فلا حاجة للتوقف عند سند كل رواية، كما لا نتوقف كثيراً عند فقه حديث كل رواية من هذه الروايات - وسنقتصر على فقهِ كلمةٍ واحدة فقط في هذه الروايات ونوجز الحديث عنها وهي المرتبطة بصميم البحث أيضاً . منها: قول أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة (...أول الدين معرفته...) . منها: عن الإمام الرضا (عليه السلام) كما في توحيد الصدوق (أول عبادة الله معرفته).منها : عن الإمام الرضا (عليه السلام) كما في فقه الرضا (أن أول ما افترض الله على عباده وأوجب على خلقه معرفة الوحدانية). ومنها: عن الإمام الرضا كما في علل الشرائع (...فإن قال قائل فلم وجب عليهم الإقرار والمعرفة ...)
وسنتوقف عند مفردة "معرفة" في فقه حديث هذه الروايات، وهل تدل على وجوب أن تكون هذه المعرفة علمية لا ظنية؟ ومدى دلالتها على وجوب أن تكون المعرفة عن اجتهاد، لا غيره كالتقليد أو الكشف والشهود أو غير ذلك ؟
فنقول: الاستدلال بهذه الروايات على "وجوب الاجتهاد في أصول الدين" وعلى "وجوب تحصيل العلم" متوقف على تعريف وبيان المراد من: "المعرفة"، فما هو تعريف المعرفة - التي تقول الرواية (أول الدين معرفته)-؟
تعاريف (المعرفة)حسب الاستقراء الناقص هناك تعاريف مختلفة ومباني متعددة في المعرفة نذكر بعضها -بدون تفصيل في الأخذ والرد إلا إشارة سريعة - ويترتب على ذلك صحة الاستدلال بالروايات المذكورة لاصل المسألة، أو عدمها.
1: ادراك الشيء على ما هو عليه التعريف الاول : المعرفة هي: (إدراك الشيء على ما هو عليه) فبناء على هذا فـ"المطابقيّة للواقع" مقوّمة للمعرفة، ومعنى ذلك حينئذ لزوم أن تكون الإدراكات كاشفة عن الواقع ، وأن يكون هناك تطابق بين الكاشف والمنكشف وبين عالم الإثبات وعالم الثبوت، فلو لم تكن مطابقة لما كانت معرفة، فقوله (عليه السلام): (أول الدين معرفته) المقصود بها –على هذا التعريف-، الإدراك المطابق للواقع، ولو لم يكن الإدراك في أصول الدين مطابقاً لما حصل الامتثال لهذا التكليف العقلي الفطري العقلائي الشرعي ، والنتيجة الأصولية في مبحثنا هو: انه لا فرق بين كون هذا الإدراك عن اجتهاد أو عن تقليد و انما المهم أن تكون مطابقة للواقع ولا يختلف الحال في ذلك حصولها من اي طريق كان، فعلى هذا التعريف تكون هذه الروايات على خلاف ما استدل عليه "الفقه" ادلّ؛ لأن "الفقه" استدل بها على وجوب الاجتهاد في أصول الدين، وحينئذ يمكن ان نستدل بهذه الروايات على العكس أي نستدل بإطلاقها على عكس المدعى، إلا ان يدعى مجازية إطلاق الإدراك على الإدراك عن تقليد. وفيه ما لا يخفى فتأمل
كما ان المعرفة لو عرفت بهذا التعريف فعندئذ ستكون النتيجة الأصولية : أن العلم غير مشترط بل يكفي الظن أيضاً لأن الفرض ان المعرفة: إدراك الشيء على ما هو عليه، والإدراك الظني المطابق ينطبق عليه هذا التعريف، لأن الظان المصيب مدرك للشيء على ما هو عليه، لكن يبقى إثبات حجية هذا الظن بمعنى المنجزية والمعذرية، لا بمعنى الكاشفية اذ المفروض كاشفيته ومطابقته للواقع وإن كان الكشف ناقصاً ، فالظن (معرفة) فيكتفى به لو اقيم الدليل على حجيته فتأمل ، ولهذا الكلام مزيد تفصيل سيأتي إنشاء الله.
2: المعرفة ترادف العلم الشامل للتصور التعريف الثاني: أن (المعرفة ترادف العلم الأعم من التصور والتصديق وعليه، فتكفي في معرفة أصول الدين، تصورها على حقيقتها كأن يتصور وحدانية الله أو عدله أو سائر صفاته الجلالية والجمالية او يتصور المعاد على حقيقته وهكذا في سائر أصول الدين، لكن شرط أن يتصورها على حقيقتها. ويرد عليه اشكالان بإيجاز، الأول: موضوعي، الثاني : حكمي - على ضوء هذا التعريف-
أما الاشكال الموضوعي: فهو رفض "تعميم العلم للتصور" فان التصور ليس بعلم وليس بمعرفة على الإطلاق إن انفصل عن التصديق، فلو تصورت أسداً ذا أروس ثلاث دون وجود نسبة حكمية ، فهل يقال لك عالم ؟ وكذلك لو تصورت جبلاً من ذهب أو تصورت شريك الباري مع قطع النظر عن إثباته أو نفيه، فان صرف التصور غير المستبطن بالتصديق ليس علماً. ولعل منشأ الخلط، هو ان التصور أحياناً يستبطن فيه التصديق فحيث يرى علماً حينئذٍ، تُوهِّم ان التصور بنفسه هو العلم، لكن لو فصلنا التصور عن التصديق فانه ليس بعلم بالبداهة، وبتعبير أدق: صحة السلب مسلّمة، فانه بالتصور الصرف لا يقال للمتصوِّر: عالم بذلك الشيء اذ ليست هناك نسبة حكمية حتى يقال عالم، إذاً هذا التعريف موضوعاً غير تام.
اما الاشكال الحكمي أو المحمولي: فانه لو سلمنا شمول العلم للتصور، فان الثابت قطعاً بالعقل والنقل، أن صرف التصور في أصول الدين غير كافٍ، فصرف التصور لرسالة رسول الإسلام لا يكفي بل يلزم الاعتقاد و عقد القلب، إذن لو فرض أن المعرفة مرادفة للعلم وأن العلم أعم من التصور فقوله (عليه السلام) (أول الدين معرفته) منصرف عن التصور قطعا بالأدلة الكثيرة النقلية والعقلية، فمثلا: إن ما يدفع الضرر المحتمل عقلاً ليس صِرف تصور وحدانية الله بدون التصديق بها. إذاً هذا التعريف أيضاً ليس بتام.
3: إدراك الشيء باحدى الحواس التعريف الثالث: (إدراك الشيء بإحدى الحواس) وبه فُرِّق بين المعرفة و العلم، فقيل بأن العلم أعم والمعرفة أخص، فإن كان العلم ناتجاً عن إدراك الشيء بإحدى الحواس الخمس فهو معرفة والا فليس الا علما . فمثلا: إذا قلنا بان الإجماع كاشف عن رأي المعصوم (عليه السلام) من باب "اللطف" فكشف الحكم بالإجماع هل هو معرفة؟ وهل يقال: عرفنا الحكم أم يقال: علمنا الحكم؟ حسب هذا التفسير لا يصح: عرفت الحكم؛ إذ كون "المعرفة" عبر إحدى الحواس الخمس، قيد ومقوم لها، فهل هذا التعريف تام أم لا؟، وللحديث صلة.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين. |