• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : الظن (1444هـ) .
              • الموضوع : 143-الدليل الأصولي على مرجعية الاحتمال وكونه موضوعاً للأثر .

143-الدليل الأصولي على مرجعية الاحتمال وكونه موضوعاً للأثر

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(143)

الإحتمال بما هو هو منشأ للأثر

سبق: أنّ الإحتمال بما هو هو، منشأ للأثر وموضوع للأحكام، كما يتصف بالحجية سواء أفسرنا الحجية بالكاشفية أم بمعنى المنجزية والمعذرية أم بمعنى لزوم الإتباع، وهو يتصف بذلك كله في صورة الإنفتاح فكيف بصورة الإنسداد؟
وإتصافه بالحجية ومنشأية الأثر والموضوعية للحكم مما تحفل به المسائل الفقهية كالأصولية:
أما الفقهية، فمثل الإحتمال في الشؤون الخطيرة، كالدماء والفروج، فإنه منجّز، بما هو احتمال، سواء أكان قوياً أم متوسطاً أم ضعيفاً، فهو حكم للمقسم بما هو مقسم.
وكذلك الإحتمال في باب القضاء والحدود والتعزيرات فإن (الحدود تدرأ بالشبهات) فلو حدثت للقاضي شبهة ولو ضعيفة دُرِء الحدُّ)([1])
وأما المسائل الأصولية فهي كثيرة وبعضها يبتني عليه الفقه كله:

2-1- الإحتمال لدى الشك في الحجية أو التكليف

ومنها: أنّ (الإحتمال) لدى الشك في الحجية موضوع عدم الحجية، والموضوع في قولهم (الشك في الحجية موضوع عدمها) في الحقيقة هو الاحتمال لا الشك المصطلح القسيم للظن والوهم.
ومنها: أنّ (الإحتمال) لدى الشك في التكليف قبل الفحص موضوع وجوب الفحص، وبعده موضوع البراءة.
وبعبارة أخرى: الإحتمال هو المقتضي لوجوب الفحص، كما انه السبب للحكم بالبراءة بعد الفحص.

3- الإحتمال لدى الدوران بين التعيين والتخيير

ومنها: أنّ الإحتمال هو المنجز لدى دوران الأمر بين التعيين والتخيير، سواء أدار الأمر بين التعيين والتخيير في مرحلة الجعل ومقام الحجية، أم دار بينهما في مقام الامتثال بعد العلم بالجعل، كما في باب التزاحم.

1- في مرحلة الجعل ومقام الحجية

والأول: (كما لو علم بحجية مرددة بين كونها تعيينية أو تخييرية، كما لو شك في أن (تقليد الأعلم) على  العامي العاجز عن الاحتياط، واجب تعييني أو تخييري بينه وبين تقليد غير الأعلم، وهي شبهة حكمية، أو شك، بعد الفراغ عن تعيّن تقليد الأعلم، في أن هذا هو (الأعلم) أو هما متساويان في الأعلمية؟ في الشبهة الموضوعية.
فإن (احتمال) كون تقليد غير الأعلم غير مبرئ للذمة، موضوع عدم حجيته.
و(احتمال) تعيُّن تقليد الأعلم، منجز، يحصر الحجية فيه، حسب مبنى مَن ذهب لتعيين تقليد الأعلم.
(والحاصل أنه كلما (احتملت الحجية) كان الأصل عدمها، وكلما (احتمل تعيُّنها) كان الأصل تعينها)([2]).

2- وفي باب التزاحم في مقام الامتثال

والثاني: (كما لو دار أمر الغريقين الواجب إنقاذهما، بين كون أحدهما المعيّن نبيّاً، ولم تكن للمكلف القدرة إلا على إنقاذ أحدهما، أو كان أحدهما ميتة شاة والآخر ميتة كلب، وقد اضطر إلى أكل أحدهما، فإن (احتمال) كون أحدهما نبياً وإن كان ضعيفاً، إلا أنه مما يحتج به، كما أنه منجز، فيستحق العقاب لو تركه فبان نبياً، وإن أنقذ الآخر، بل حتى لو كان غير نبيٍّ واقعاً، بناء على حرمة التجري. و(الاحتمال) هو المنجز، وإن كان في ضمن الشك أو الظن، دونهما)([3]) فانه المدار وعليه الاعتبار، دون التفصّل بفصل الشك أو الوهم أو حتى الظن.
وبعبارة أخرى: أن لدوران الأمر بين التعيين والتخيير، أقساماً:
منها: ما لو دار الأمر بين التعيين والتخيير في (مقام الامتثال) نظراً للتزاحم، كما لو دار الأمر في إنقاذ أحد المحكوم عليهما بالقتل ظلماً وعدواناً([4]) بين: (التعيين)؛ لاحتمال كون أحدهما نبياً أو ولياً، و(التخيير)، فإن (احتمال) كون أحدهما نبياً موجب لحكم العقل بالتعيين والتنجز؛ إذ لا ريب في جواز الإتيان به وتفويت الملاك الآخر؛ لدوران أمره بين أن يكون واجباً مخيراً بينه وبين الطرف الآخر، وبين أن يكون واجباً معيناً في مقام الامتثال، وعلى أي تقدير فإن الإتيان به خال من المحذور، على عكس الطرف الآخر؛ فإن الإتيان به([5]) وتفويت الملاك (المحتمل) أهميته، لم يثبت جوازه؛ لأنه متوقف على عجز المكلف عن قسيمه([6]) (تكويناً) ـ والمفروض قدرته عليه ـ أو (تشريعاً) ـ والمفروض عدم أمر المولى بإتيان خصوصه([7]) ليوجب عجز المكلف عن تحصيل الملاك الذي احتمل أهميته، فلا يجوز تفويته، بل يستحق عليه العقاب بحكم العقل)([8]).

4- الإحتمال المقترن بالعلم الإجمالي

ومنها: الإحتمال المقترن بالعلم الإجمالي فانه منجز.
لا يقال: الأثر للعلم الإجمالي لا للإحتمال؟

النسبة بين العلم الإجمالي والإحتمال

إذ يقال: كلا، بل كل منهما جزء العِلّة، ويعرف ذلك بشهادة ان النسبة بينهما([9]) من حيث التأثير في التنجز وعدمه من وجه، وإن كانت النسبة بينهما بما هما هما، العموم والخصوص المطلق.
أما العلم الإجمالي، فانه تارةً يكون منجزاً وتاراتٍ لا يكون:
والأول: كالعلم الإجمالي في الشبهة المحصورة، أو التي بحكمها كشبهة الكثير في الكثير، غير التدريجية، التي كان أطرافها كلها محل الإبتلاء.
والثاني: كما فيما فقد أحد القيود: كالعلم الإجمالي في الشبهة غير المحصورة، وفي المحصورة التي كان أحد أطرافها خارج محل الإبتلاء فانه غير منجز على المشهور، وفيما خرج عن الإبتلاء لاحقاً كلامٌ، والعلم الإجمالي التدريجي فانه غير منجز على أحد الرأيين (كما يعرف ذلك في صورة انحلال العلم الإجمالي حكماً، وإن لم ينحل حقيقة، فإنه رغم وجوده لا يؤثر، مما يظهر منه أنه ليس العلة التامة للتنجز ولصحة الاحتجاج)([10]).
وأما الاحتمال فانه تارة يكون منجزاً وأخرى لا:
أما المنجز فكالاحتمال في الشؤون الخطيرة، كما سبق، وإن لم يكن مقترناً بالعلم الإجمالي، وكالإحتمال المقترن بالعلم الإجمالي بشروطه.
وأما غير المنجز، فكما في الشبهة البدوية الموضوعية مطلقاً على المشهور إلا في مثل الدماء والفروج، فلا يلزم حتى الفحص، وكما في الشبهة الحكمية بعد الفحص وعدم العثور على الدليل، فانه غير منجز وهو مجرى للبراءة.
وقد ظهر مما مضى ان المنجز والمؤثر ليس هو العلم الإجمالي وحدة ولا هو الإحتمال وحدة بل (هو: قوة الاحتمال([11]) مقروناً بالعلم الإجمالي)([12])
بل نقول: ان الأمر([13]) لا يتوقف على هذا البسط من القول، فان نفس إجماله دليل وافٍ بالمرام (والحاصل: أن المجموع من (الاحتمال) بخصوصيته و(العلم الإجمالي) بخصوصيته، هو المقتضي للتنجز، بل إن (العلم الإجمالي) يدل بالدلالة التضمنية على (الاحتمال)؛ فإن العلم الإجمالي هو علم تفصيلي بالجامع، وجهل تفصيلي بالخصوصيات، والمجموع منهما هو سبب التنجز ـ فتأمل)([14]) وللمزيد من النقاش والأخذ والرد يراجع ما ذكرناه بالتفصيل في كتاب (الحجة معانيها ومصاديقها).

5- الإحتمال في العنوان والمحصِّل

ومنها: (الإحتمال) في مبحث (العنوان والمحصِّل) فإن الأمر لو تعلق بعنوانٍ، فإن كافة محصِّلاته وما له دخل في تحقيقه ولو احتمالاً مرجوحاً، يجب تحصيلها، وليست مجرى للبراءة؛ إذ بدون سدّ باب العدم من جهته، لا يحرز تحقق العنوان المأمور به، فلا يحرز الإمتثال.

6- الإحتمال فيما لو تعلق الأمر بالغرض

وكذا الحال لو تعلق الأمر بالغرض كالأوامر المتعلقة بالطهارة من الحدث، كقوله تعالى: ((‏وإن كنتم جنباً فاطهروا))([15]) بناء على عدم كونها كناية عن أسبابها([16])، كالوضوء.
والفرق بين (العنوان) و(الغرض) هو أن (العنوان) هو الكلي الطبيعي للمأمور به، و(الغرض) هو علة فاعلية الفاعل، ومعلول في الخارج لذلك الكلي الطبيعي لدى تحققه. والحال كذلك لو تعلق الأمر بعلة الغرض التامة.
وما مضى هما الصورتان اللتان ذهب الميرزا النائيني فيهما إلى لزوم الاحتياط، في بحث دوران الأمر بين الأقل والأكثر ـ وقد فصّلنا الحديث عن ذلك وعن بعض ما خطر بالبال القاصر من التفصيل والأخذ والرد، في (فقه التعاون على البر والتقوى)([17]) كما أشرنا إليه في مواضع من كتاب (شورى الفقهاء ـ دراسة فقهية أصولية).([18])
وكذلك الأمر لو علم (الغرض) وإن لم يكن متعلقاً للأمر([19])، وذلك بناء على أن (الأمر) ليس فقط هو الواجب إمتثاله، بل ما علم من أغراض المولى ـ وإن لم يأمر بها لمانع ـ كما أشار إلى ذلك المحقق الإصفهاني قدس سره في نهايته، وفصّلناه في (فقه التعاون على البر والتقوى).)([20]).
وبذلك كله يظهر الوجه في ذهابنا إلى مرجعية الإحتمال بدرجاته لدى الإنسداد، في قِبال كل من الظن الذي ذهب إليه صاحب الفصول ومعه المشهور، والقدر المتيقن الإضافي الذي ذهب إليه الشيخ ((قدس سره))‏، خاصة وان الأخير([21]) مما لا عين منه ولا أثر في الأصول والفقه وإن كنا قد استدللنا عليه بأدلة أربعة لتشييده، عكس الإحتمال الذي مضى ان عدداً من أهم مسائل الأصول يبتني عليه وان كثيراً من أحكام الفقه متفرعة عنه.

 

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال الإمام الباقر ((عليه السلام)): ((الْكَمَالُ كُلُّ الْكَمَالِ التَّفَقُّهُ فِي الدِّينِ، وَالصَّبْرُ عَلَى النَّائِبَةِ وَتَقْدِيرُ الْمَعِيشَةِ))‏ (الكافي: ج1 ص32).


----------------------------

([1]) الدرس (142).
([2]) (الحجة معانيها ومصاديقها)، دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر ـ بيروت، ص215 و217 بتصرف وإضافة.
([3]) المصدر:215 بتصرف.
([4]) أو أحد السجينين، وقد يمثل لذلك أيضاً بـ(هداية) أحد شخصين لو دار الأمر فيهما بين (تعيين) أحدهما؛ نظراً لكون هدايته سبباً لهداية المئات أو الألوف ـ لكونه شيخ العشيرة أو عالم البلد مثلاً ـ وبين التخيير بينه وبين الآخر ـ الذي ليست له تلك الخصوصية كآحاد الناس العاديين ـ.. وهكذا.
([5]) أي بالمهم.
([6]) أي الأهم.
([7]) أي المهم.
([8]) (الحجة معانيها ومصاديقها)، دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر ـ بيروت، ص216 بتصرف.
([9]) العلم الإجمالي والاحتمال.
([10]) (الحجة معانيها ومصاديقها)، دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر ـ بيروت، ص213.
([11]) وليس المراد به الراجح، بل ما يقابل الموهوم كعشرين بالمائة مثلاً، فيكون المراد بـ(قوة الاحتمال) في حدود الشبهة المحصورة.
([12]) (الحجة معانيها ومصاديقها)، دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر ـ بيروت، ص212.
([13]) كون المجموع من الإحتمال والعلم الإجمالي هو المؤثر.
([14]) (الحجة معانيها ومصاديقها)، دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر ـ بيروت، ص213.
([15]) المائدة: 6.
([16]) أي أسباب الطهارة.
([17]) (فقه التعاون على البر والتقوى): ص169-185.
([18]) (شورى الفقهاء دراسة فقهية أصولية): ص242 وغيرها.
([19]) فهذه ـ إذن ـ صور أربعة، وتختلف هذه الصورة الرابعة، عن الثانية، بأن في (الثانية) قد فرض تعلق الأمر بالغرض، واجتماعهما، عكس الرابعة.
([20]) (الحجة معانيها ومصاديقها)، دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر ـ بيروت، ص221-222.
([21]) القدر المتيقن الإضافي.

 

 


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=4358
  • تاريخ إضافة الموضوع : السبت 9 ربيع الأخر 1444هـ
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 02 / 22