• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : الظن (1444هـ) .
              • الموضوع : 144-مناقشة مع الشيخ و التبريزي في وجه حكم العقل بالاطاعة .

144-مناقشة مع الشيخ و التبريزي في وجه حكم العقل بالاطاعة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

(144)

الشيخ: الواقع مقصود بما هو مبرئ للذمة

سبق: أنّ الشيخ ارتأى ان كلّاً من الظن بالطريق والمسألة الأصولية والظن بالحكم والمسألة الفقهية، حجة لازمة الإتباع، بناء على الإنسداد واستدل عليه بما سبق([1]).
قال (قدس سره): (وينبغي التنبيه على أمور:
الأول أنك قد عرفت أن قضية المقدمات المذكورة وجوب الإمتثال الظني للأحكام المجهولة، فاعلم: أنه لا فرق في الإمتثال الظني بين تحصيل الظن بالحكم الفرعي الواقعي - كأن يحصل من شهرة القدماء الظن بنجاسة العصير العنبي - وبين تحصيل الظن بالحكم الفرعي الظاهري، كأن يحصل من أمارة الظن بحجية أمر لا يفيد الظن كالقرعة مثلا، فإذا ظن حجية القرعة حصل الإمتثال الظني في مورد القرعة وإن لم يحصل ظن بالحكم الواقعي، إلا أنه حصل ظن ببراءة ذمة المكلف في الواقعة الخاصة، وليس الواقع بما هو واقع مقصودا للمكلف إلا من حيث كون تحققه مبرءا للذمة.
فكما أنه لا فرق في مقام التمكن من العلم بين تحصيل العلم بنفس الواقع وبين تحصيل العلم بموافقة طريق علم كون سلوكه مبرءا للذمة في نظر الشارع، فكذا لا فرق عند تعذر العلم بين الظن بتحقق الواقع وبين الظن ببراءة الذمة في نظر الشارع)([2]).

الجواب: الواقع مقصود بما هو هو والمدار المكلِّف

وقد سبق الجواب عنه بأجوبة عديدة كان منها: (أما المناقشة: فهي في قوله: (وليس الواقع بما هو واقع مقصودا للمكلف إلا من حيث كون تحققه مبرءا للذمة)؛ إذ الظاهر الذي عليه الدليل أن الواقع بما هو واقع هو المقصود للمكلَّف وللمكلِّف أولاً وبالذات وأن براءة الذمة أمر لاحق يلزمه، فالمطلوب أولاً وبالذات، للمولى ثم للعبد، امتثال أمر المولى والوصول للواقع ويلزمه براءة الذمة، وتدل على ذلك الآيات وكذا الروايات إضافة إلى بناء العقلاء)([3]).
والتحقيق: ان المقياس هو نظر المكلِّف لا المكلَّف فانه المكلِّف وكما وجب امتثال أمره في أصل التكليف وجب امتثال أمره في خصوصياته وفي كيفية الامتثال إما تأسيساً وإما إمضاءٌ، وعليه: يجب ان نعرف وجه كون الواقع مطلوباً له بما هو واقع، وهل هو مجرد براءة ذمة المكلَّف أم غيره مما سيأتي.

التبريزي: المحرك للعبد عقلاً هو خوف الضرر

ونضيف: ان المحقق التبريزي استدل للشيخ بدليل أقوى من دليله فان الشيخ استدل بـ(وليس الواقع بما هو واقع مقصودا للمكلَّف إلا من حيث كون تحققه مبرءا للذمة) مع ان المكلَّف كما سبق ليس هو المقياس، أما التبريزي فقد نقل الكلام من مقصود المكلَّف إلى حكم العقل، فيما أجبنا سابقاً([4]) بان ظاهر الآيات والروايات وحكم الشرع، على خلاف ذلك، ولبّ ما ذكره هو: ان العقل الحاكم بالاستقلال في باب الإطاعة والمعصية إنما يحكم بلزوم تحصيل المكلَّف المؤمِّن من العقاب والمؤمِّن هو كلٌّ من الظن بالواقع والظن بالطريق، وليس خصوص الظن بالواقع ولا خصوص الظن بالطريق.
قال (قدس سره): (وحاصل ما استدلّ به المصنف رحمه الله على مختاره: أنّ المناط في حكم العقل بعد تعذّر الامتثال القطعي التفصيلي، وعدم وجوب ‌الإجمالي، وعدم جواز الاعتماد على سائر الطّرق المقررة للجاهل، هو تحصيل الظنّ بفراغ الذّمّة، سواء حصل من الظن بالواقع أو الظن بالطّريق، لعدم ‌كون الواقع على ما هو عليه - وكذا تطبيق العمل للطّرق المقرّرة المعتبرة شرعاً - مطلوباً عند العقل إلا من هذه الجهة، لأنّ العقل الحاكم بوجوب الإطاعة وحرمة المعصية في الأوامر الشّرعيّة والعرفيّة أنّما يحكم بذلك لأجل خوف الضّرر في المخالفة، لا لأجل كون المولى أهلاً ومستحقاً لذلك، ولا من جهة المصالح ‌الكامنة في المأمور به، ولا تحصيل الثواب، لأن هذه الغايات وإن وجدت كثيرا مّا في الأشخاص على حسب اختلاف استعداداتهم ومراتبهم، ولذا قد قسّم أعمال العباد في الأخبار على طاعة الأحرار وطاعة العبيد وطاعة الأجراء، إلاّ أنّ الظّاهر أن قصد هذه الغايات أنّما هو لأجل تحصيل كمال الإطاعة، وإلاّ فالمحرك للعبد من قبل العقل إلى الامتثال هو خوف العقاب على تقدير المخالفة.
وبالجملة، إنّ قصد التخلّص من النّار من جملة الغايات المصحّحة للعمل، بل هو المحرّك عند العقل ‌على ما عرفت. وحينئذ إن أمكن تحصيل العلم بالبراءة كان هو المتعيّن عند العقل، وإلاّ كان المتعيّن هو تحصيل الظن بها، سواء كان حاصلا من الظنّ بالواقع أو بالطّريق‌ بعد فرض استلزامها للظنّ بها)([5]).

الأجوبة

ولكن قد يورد عليه:

ست جهات وراء حكم العقل بلزوم الإطاعة

أولاً: انّ قوله (لعدم ‌كون الواقع على ما هو عليه - وكذا تطبيق العمل للطّرق المقرّرة المعتبرة شرعاً - مطلوباً عند العقل إلا من هذه الجهة) ويقصد بالجهة: تحصيل الظن بفراغ الذمة، غير تام، فان نفس ما أمر به المولى أي الواقع على ما هو عليه، مما يلزم به العقل وهو مطلوب لديه من ست جهات، أي ان وجه إلزام العقل بإطاعة المولى هي احدى الجهات التالية. وليس خصوص خوف العقاب والحاجة إلى المؤمِّن الذي وقع خامسها في ترتيب التعداد الآتي:

صدور الأمر من المولى بما هو مولى

1- صدور الأمر من المولى بما هو مولى، فان هذا هو ملاك الوجوب ومداره أولاً وبالذات، سواء أكانت هناك عقوبة أو خوف منها أم لا، وسواء أكانت مثوبة أو طمع فيها أم لا، فإن العقل مستقل بوجوب إطاعة المولى مع قطع النظر عن ترتب العقاب وعدمه ولذا نجد انه إذا قطع العبد فرضاً بعدم ترتب العقاب على مخالفته لمولاه، إما لعجز المولى أو لعدم علمه بالمخالفة في الموالي العادية أو لشمول الشفاعة له أو نظراً لعلم العبد بانه سيتوب لاحقاً أو بإتيانه حسنة مُذهِبةً للسيئة فـ(إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ)([6]) فان ذلك لا يهدم الوجوب وإلزام العقل للعبد بإطاعة مولاه فيما أمر وكونه مطلوباً له.
بل نقول: انّ العقل مستقل بوجوب طاعة المولى حتى مع قطع النظر عن استحقاق العقاب بالمخالفة وإن كان استحقاق العقاب ذاتياً لعصيان أمر المولى بذاتي باب البرهان فرضاً.
فعلى ذلك يفرق العقل بين الظن بحكم المولى وبين الظن بالطريق إذا لم يفد الظن بحكمه، فان مولويته تقتضي إطاعة حكمه لا العمل على طبق طريق لا يؤدي إلى حكمه ولم يدل دليل خاص على اعتباره وإجزائه والمصلحة السلوكية فيه، فبهذا يختلف باب الإنسداد عن باب الانفتاح. فتدبر

شكر المنعم

2- شكر المنعم، فانه واجب عقلاً، والأمر فيه كالأمر في سابقه إذ شكر المنعم بإتيان ما أمر به ولو ظناً لا بسلوك طريق لا يفيد الظن بالعمل بحكمه.
كونه أهلاً لأن يُعبد ويُطاع
3- كون المولى أهلاً لأن يعبد ويطاع، وهو غير الأول([7])، كما لا يخفى، والأمر فيه كسابقه، إذ كونه أهلاً يقتضي العمل بأحكامه (إن قطعاً فقطع أو ظناً فظن) لا العمل بطريق لا يورث حتى الظن بحكمه وإن كان هو ظنياً، مادام لم يقم دليل خاص على حجيته حتى وإن لم يؤد إلى الواقع، فان الفرض على الإنسداد هو ذلك([8]).
المصالح والمفاسد في المتعلقات
4- المصالح والمفاسد الكامنة في المتعلقات وذلك هو ما فصّلناه سابقاً بالقول (وبوجه آخر: الأحكام تابعة لمصالح ومفاسد في المتعلقات، والحامل للمصلحة والمفسدة هو الواقع بما هو واقع (أي أن الصلاة والصوم هما الحامل للمصلحة وشرب الخمر والزنا هما الحامل للمفسدة) فالمطلوب والمقصود للمكلِّف والمكلَّف هو الواقع بما هو واقع، غاية الأمر أنه يلزمه براءة الذمة.
بعبارة أخرى: كفاية براءة الذمة عن الواقع فيما لو يُصِب، وجود تنزيلي متنزّل عن المطلوب الأصلي، فلا يحل محله ولا يكون، لمجرد ذلك([9]) هو المقصود والمطلوب، بل المطلوب هو الواقع لكن الشارع من لطفه اكتفى في براءة الذمة لدى الخطأ، باتباع الحجة المعذّرة، تخفيفاً على العباد إذ لم يوجب الإحتياط، لا لأنها مطلوبة لذاتها، فقوله (قدس سره): (وليس الواقع بما هو واقع مقصودا للمكلف إلا من حيث كون تحققه مبرءا للذمة) غير تام ظاهراً)([10]) وقد سبق انه على الانفتاح فان الطريق وجود تنزيلي عن الواقع؛ للدليل الخاص، ولا يصح قياس الإنسداد عليه لدى التقابل بين الظن بالواقع والظن (غير المعتبر) بطريق لا يورث الظن بالواقع إذ التنزيل على الإنسداد أول الكلام، فدعواه مصادرة.

خوف العقاب

5- ترتب العقاب أو خوفه، وهو ما ذكره المحقق التبريزي.

الثواب أو رجاؤه

6- الثواب، وقد اختلف في الثواب الجزيل والمنفعة العظيمة فقيل: ان تحصيلها ملزم عقلاً حتى لو لم يكلف العبد مؤونةً ولم يزاحمه أمر أهم أو مساوٍ، وقيل: بان تحصيل المنفعة مطلقاً ليس بواجب بل هو أمر حسن فقط.
فعلى القول بالإلزام العقلي، يقال: في الظن بالحكم إحرازٌ ظني للثواب الواقعي الملزم. أما في الظن بالطريق الذي لم يورث الظن بالحكم فلا؛ إذ الثواب على إتباع الحكم نفسه، نعم إذا قلنا بان الثواب على الانقياد، عكس المتجري، لما اختلف حالهما([11]) فتأمل([12]).

لا إطلاق لكون الخوف هو المحرك للعبد

ثانياً: ان قوله (فالمحرك للعبد...) يرد عليه:
1- انّ مقتضى ذلك وما سبقه من قوله (لأن هذه الغايات...) التفصيل، لا إطلاق القول بان خوف العقاب هو المحرك للعبيد والعباد، إذ انه حيث ثبت وجداناً، بل انه (قدس سره) أقّر ضمناً، بان المحرك للعبيد مختلفٌ: فبعضهم، وليكونوا الأكثر، يحركهم خوف العقاب على تقدير المخالفة، فيطيعون، وبعضهم يحركهم الأمر المولوي بما هو مولوي وبعضهم يحركهم انهم وجدوه أهلاً للعبادة والإطاعة وبعضهم يحركهم الثواب وبعضهم تحركهم المصلحة والمفسدة، فيكون لكل حكمه فمن حرّكه خوف العقاب كان حكمه كما قال: (من كفاية المؤمّن سواء أكان الظن بالواقع أم الظن بالطريق) ومن يحركه المصلحة والمفسدة أو المولوية... إلخ فلا.
نعم هذا الجواب موقوف إنكار إطلاق قوله (إلاّ أنّ الظّاهر أن قصد هذه الغايات أنّما هو لأجل تحصيل كمال الإطاعة) لبداهة ان بعض العباد إنما يكون محركهم (وَلَكِنْ وَجَدْتُكَ أَهْلًا لِلْعِبَادَةِ فَعَبَدْتُكَ)([13]) أو سائر الأقسام، أصلاً وفصلاً وليس لأجل تحصيل كمال الإطاعة فقط مع كون المحرك لأصلها هو الخوف دون تلك العوامل.
2- انّ نقل الكلام إلى المحرك من قبل العقلاء إلى الامتثال، غير تام، مع وجود ما هو أسبق منه رتبةً، وهو ما ذكرناه من أوجه حكم العقل ووجوب امتثال أوامر المولى؛ فان جهة الوجوب سابقة على جهة المحركية فانها معلولة لها، ومع وجود جهة الوجوب فان الإطاعة ونحوها تنبعث عنه، ولا يكون المدار حينئذٍ، في الوجوب أو كيفيته، على  كونه محركاً لهذا العبد أو لا، ألا ترى ان الوجوب ثابت على العبد وإن لم يكن محرِّكاً له قطعاً كما فيمن يُعلم، أو يَعلم، عصيانه جزماً؟ وللبحث صلة بإذن الله تعالى.

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال الإمام الصادق (عليه السلام): (عَلَيْكَ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالْوَرَعِ وَالِاجْتِهَادِ وَصِدْقِ الْحَدِيثِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ وَحُسْنِ الْجِوَارِ وَكُونُوا دُعَاةً إِلَى أَنْفُسِكُمْ بِغَيْرِ أَلْسِنَتِكُمْ وَكُونُوا زَيْناً وَلَا تَكُونُوا شَيْناً، وَعَلَيْكُمْ بِطُولِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَطَالَ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ هَتَفَ إِبْلِيسُ مِنْ خَلْفِهِ وَقَالَ: يَا وَيْلَهُ أَطَاعَ وَعَصَيْتُ، وَسَجَدَ وَأَبَيْتُ)‏(الكافي: ج2 ص77).


------------------------

([1]) الدرس (124 / 1274) الأحد 5 ربيع الأول.
([2]) الشيخ مرتضى الانصاري، فرائد الأصول، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم: ج1 ص437.
([3]) الدرس (124 / 1274).
([4]) في الدرس (124).
([5]) الميرزا موسى التبريزي، أوثق الوسائل في شرح الرسائل، منشورات كتبي نجفي ـ قم: ج1 ص211.
([6]) سورة هود: الآية 114.
([7]) غاية الأمر انه يلزمه، فتأمل
([8]) لم يقم دليل خاص...
([9]) الكفاية.
([10]) الدرس (124).
([11]) الظن بالحكم والظن بالطريق.
([12]) إذ أين الثواب الأصيل من الثواب المنزل منزلته؟ أو لا يعلم على الأقل كونه معوِّضاً عنه تمام التعويض.
([13]) عوالي اللآلئ: ج1 ص44.


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=4360
  • تاريخ إضافة الموضوع : الاحد 10 ربيع الأخر 1444هـ
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 02 / 22