• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : الظن (1444هـ) .
              • الموضوع : 147-الشيخ: الاحتياط بدلاً عن الظن .

147-الشيخ: الاحتياط بدلاً عن الظن

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(147)

مضى أنّ صاحب الفصول (قدس سره) ارتأى أن المرجع في الإمتثال لدى الإنسداد هو الظن بالطرق المخصوصة دون الظن بالواقع، وأن الشيخ (قدس سره) ذهب إلى مرجعية كليهما، وأنه استشكل على الفصول بعدة إشكالات، كان ثالثها: أن اللازم هو الرجوع إلى القدر المتيقن الإضافي، لا الظن، وبقي الكلام عن سائر إشكالاته عليه:

رابعاً: المرجع الإحتياط لا الظن

ورابع إشكالات الشيخ على الفصول هو: (ورابعاً: سلّمنا عدم وجود القدر المتيقّن، لكنّ اللازم من ذلك وجوب الإحتياط، لأنه مقدم على العمل بالظن؛ لما عرفت: من تقديم الإمتثال العلمي على الظني، اللهم إلا أن يدلّ دليلٌ على عدم وجوبه، وهو في المقام مفقود.
ودعوى: أنّ الأمر دائر بين الواجب والحرام؛ لأن العمل بما ليس طريقاً حرام، مدفوعة: بأن العمل بما ليس طريقاً إذا لم يكن على وجه التشريع غير محرّم، والعمل بكل ما يحتمل الطريقيّة رجاء أن يكون هذا هو الطريق لا حرمة فيه من جهة التشريع.
نعم، قد عرفت: أنّ حرمته مع عدم قصد التشريع إنما هي من جهة أن فيه طرحاً للأصول المعتبرة من دون حجة شرعيّة)([1]).
وتوضيحه مع الإضافات في ضمن نقاط:

مرجعية الإحتياط تدفع مرجعية الظن والقدر المتيقن

الأولى: أن الحل لدى الإنسداد، أما الرجوع إلى الظن في الطريق وهو مختار الفصول، أو الرجوع إلى القدر المتيقن الإضافي وهو ما ذكره الشيخ في ثالث إشكالاته على الفصول، وأما الإحتياط وهو ما ذكره الشيخ في هذا الجواب الرابع.
لا يقال: القول بالإحتياط معلّلاً بـ(لأنه مقدم على العمل بالظن؛ لما عرفت: من تقديم الإمتثال العلمي على الظني)([2]) كما يشكّل رداً على قول الفصول بمرجعية الظن، يشكّل رداً على القدر المتيقن الإضافي، لأن الإمتثال العلمي مقدم قطعاً عليه فإنه([3]) يدور أمره بين الظن والشك والوهم، كما سبق مفصلاً، فإذا كان الإحتياط متقدماً على الظن فكيف لا يتقدم على القدر المتيقن الإضافي وهو بين مظنون ومشكوك وموهوم؟
إذ يقال: كلا، لا يشكِّل الإحتياط رداً على القدر المتيقن الإضافي، إذ الفرض أنه ينحل بالعلم الإجمالي، فلا يبقى فيما عداه إلا الشبهة البدوية واستحباب الإحتياط فقط وقد سبق قوله لدى الدوران بينهما([4]) (فلا معنى لتعيين الطريق بالظن بعد وجود القدر المتيقن ووجوب الرجوع في المشكوك إلى أصالة حرمة العمل)([5]).

العسر في الإحتياط في الحكم دون الإحتياط في الطرق

الثانية: انّ قوله: (اللهم إلا أن يدلّ دليلٌ على عدم وجوبه، وهو في المقام مفقود) توضيحه ما في الوصائل: (ومن المعلوم: إن الطرق المذكورة إلى الأحكام: من الخبر، والإجماع، والشهرة، وما أشبهها لا يوجب العمل بها عُسراً ولا حَرجاً، لأنّها محدودة بما ذكرها الفقهاء في الفقه ولا يستلزم من العمل بها عُسراً، كما هو واضح)([6]).
وبعبارة أخرى: فرق بين الإحتياطين: الإحتياط الذي اعتبره الشيخ، كغيره، مستلزماً للعسر والحرج، وهو المذكور ضمن المقدمة الثالثة من مقدمات الإنسداد، والإحتياط الذي اعتبره الشيخ هنا هو المرجع لدى الإنسداد، فذاك الإحتياط المرفوض هو الإحتياط في الأحكام الواقعية والإحتياط هنا هو الإحتياط بين الطرق إليها، ومن المعلوم كون الأول أوسع دائرة جداً من الثاني إذ الأحكام الواقعية المحتملة كثيرة جداً، ويحتمل ضياع كثير منها بطرقها، بضياع كتب ككتاب مدينة العلم وغيره، أما الطرق الموجودة بأيدينا، كالشهرة والإجماع المنقول والإستقراء، فإن الأحكام التي تضمنتها محدودة جداً فلا يلزم من الإحتياط بالعمل بكل ما في الطرق عسر وحرج.

ستة إشكالات على الإحتياط، والأجوبة

الثالث: إنّ القول بالإحتياط، قد يستشكل عليه بستة إشكالات، ذكر منها الشيخ أولها وخامسها ونضيف لها سائرها:

1- أنه تشريع

الإشكال الأول: أنه تشريع قال الشيخ: (ودعوى: أنّ الأمر دائر بين الواجب والحرام؛ لأن العمل بما ليس طريقاً حرام، مدفوعة: بأن العمل بما ليس طريقاً إذا لم يكن على وجه التشريع غير محرّم، والعمل بكل ما يحتمل الطريقيّة رجاء أن يكون هذا هو الطريق لا حرمة فيه من جهة التشريع).
أقول: لأن التشريع هو أن يسند الحكم إلى الله تعالى فهذا هو المحرم ((آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ))([7]) أما المحتاط فإنه لا يسند عملَه إلى الله تعالى ولا الحكمَ، بل إنما يبني على العمل بالأمارة برجاء مطلوبيتها، وأين العمل من الإسناد؟ بعبارة أخرى: الإحتياط من دائرة العقل العملي، والتشريع من دائرة العقل النظري فكيف يرقى إليه؟
بل نقول: الإحتياط يقع على الضد من التشريع، إذ التشريع يشترط فيه الإسناد أما الإحتياط فيشترط عدمه، إذ يقول المحتاط بلسان الحال مثلاً: (حيث لا أعلم أن هذا حكم الله وإنما احتمل فقط لذا آتي به باحتمال أنه منه) وأين الإحتمال من الإسناد؟  

2- أنه لعب بأمر المولى

الإشكال الثاني: أن الإحتياط لعب بأمر المولى، إذ من العبث واللعب أن يأمره المولى مثلاً بأن يجيء له بإناء ماء فيأتي له بخمسين إناء احتياطاً([8]).
والجواب: أنه أخص من المدعى بل هو فرض نادر بل هو معدوم، إذ الإحتياط المبحوث عنه هنا، وهو الإحتياط في الطرق، غايته أن يقتضي تكرر العمل مرتين أو ثلاثاً، كالصلاة قصراً وتماماً، ولا يوجد مورد تكثرت فيه الأقوال المتخالفة بالشروط المتخالفة مثلاً من دون قدر متيقن بينها، تستلزم تكرار الصلاة الواحدة خمسين أو عشرين أو حتى عشر مرات، على أنه لو وجد فهذا هو حد الإحتياط الراجح وما بعده مرجوح.

3- أن فيه ترويجاً للضلال

الإشكال الثالث: أن في الإحتياط ترويجاً للضلال؛ ألا ترى أنه لو وجب الإحتياط في كل الطرق للزم العمل باخبار أبي هريرة مثلاً احتياطاً؟ وقد قال ((عليه السلام)): ((يَا كُمَيْلُ لَا تَأْخُذْ إِلَّا عَنَّا تَكُنْ مِنَّا))([9]).
وفيه: أنه أخص من المدعى جداً وليس المقصود من الإحتياط الإحتياط حتى في هذه الصورة، مما تضمّن ترويجاً للضلال، بل الإحتياط في الطرق المعهودة لدى علماء الشيعة، كالإجماع المنقول، الشهرة، ظهور الإجماع وشبه ذلك مما لا يستلزم ترويجاً للضلال، بعبارة أخرى: الإحتياط واجب إلا ما استلزم الترويج للضلال أو اللعب بأمر المولى أو ما أشبه من العناوين الثانوية الطارئة.

4- أن الإحتياط لا يخرج عن المظنونات فنازلاً

الإشكال الرابع: أنّ الإحتياط، دائر أمره كما سبق، بين الطرق الظنية والشكية والوهمية، فلا يخرج عنها، وإذا كان اتباع الظن مردوعاً عنه في قوله تعالى: ((إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْني‏ مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً))([10]) فما بالك بالإحتياط الذي يتفصّل تارة بفصله وأخرى بفصلي الشك أو الوهم وهما أسوأ حالاً منه؟.
والجواب: إنّ الإحتياط واسطة في العروض، أي عروض الحجية للظن، لا واسطة في ثبوتها له، بعبارة أخرى: إنما يُؤخذ به لأنه احتياط لا لأنه ظن وإن تطابقا أحياناً، وأين العمل بالظن لأنه ظنٌّ، من العمل بمؤاده لرجاء المطلوبية؟
بعبارة ثالثة: النسبة بين الإحتياط والظن العموم من وجه فَلِكلٍّ حكمه، ولا يسري حكم أحدهما إلى الآخر في مادة الإجتماع، بل على التعارض يتكاذبان فيقدم الأظهر منهما، وعلى التزاحم يتدافعان فيقدم أقواهما ملاكاً.
وأما بيان مادتي الإفتراق:
1- فأما الإحتياط من دون ظن، فكما في موارد الشك والوهم، فإن الإحتياط واجب مع أنه لا ظن([11]).
2- وأما الظن من دون احتياط([12]) فكما لو ظن بالبراءة أو استصحب العدم، فإن الإحتياط في ضده وكذا لو ظن بأحد الطرفين مع تعارض الإحتياطين وإن كان الإنفكاك حكمياً. فتدبر.


وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال الإمام الصادق ((عليه السلام)): ((إِيَّاكَ وَالرِّيَاءَ؛ فَإِنَّهُ مَنْ عَمِلَ لِغَيْرِ اللَّهِ وَكَلَهُ اللَّهُ إِلَى مَنْ عَمِلَ لَهُ))‏(الكافي: ج1 ص293).

----------------------------

([1]) الشيخ مرتضى الانصاري، فرائد الأصول، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم: ج1 ص445.
([2]) حسب عبارة الشيخ ((قدس سره)) السابقة.
([3]) أي القدر المتيقن الإضافي.
([4]) الظن، والقدر المتيقن الإضافي.
([5]) الشيخ مرتضى الانصاري، فرائد الأصول، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم: ج1 ص444.
([6]) السيد محمد الحسيني الشيرازي، الوصائل الى الرسائل، مؤسسة عاشوراء ـ قم، ج5 ص95.
([7]) سورة يونس: الآية 59.
([8]) مثلاً بعضها من ماء دجلة وبعضها من ماء الفرات وبعضها من العين، وبعضها من البئر وبعضها من البحر وبعضها من المياه المعلّبة على أنواعها... وهكذا متذرعاً بأنه لا يعرف مقصود المولى بالضبط ولعله أراد هذا الصنف من الماء دون ذاك فأتى بها بأجمعها احتياطاً!
([9]) الحسن بن شعبة الحراني، تحف العقول، مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم، ص171.
([10]) سورة يونس: الآية 36.
([11]) كما لو دار الأمر بين ثلاث امارات غير متعارضة بحيث أمكن الجمع بينها، فيعمل بها بأجمعها مع أنه لا ظن بشيء منها مطلقاً أو في الجملة.
([12]) أي من دون أن يكون مورداً للإحتياط.

 

 


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=4367
  • تاريخ إضافة الموضوع : 16 ربيع الأخر 1444هـ
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 02 / 22