بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآلة الطاهرين واللعنة الدائمة على اعدائهم اجمعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
موجز البحث السابق
كان الحديث حول ما استدل به "الفقه" من روايات وجوب المعرفة على وجوب الاجتهاد في اصول الدين، وتوقفنا عند مفردة "المعرفة" وبيان المراد منها و قد اشرنا الى تعريفات لها، و انتهينا الى التعريف الثامن وهو "الفعل العقلي الذي به يتم النفوذ إلى جوهر الموضوع لتفهم حقيقته..." وقد سبقت الاشارة الى الاشكال الاول على هذا التعريف هذا ما مضى.
وقبل الاستمرار في ذكر بقية ما يورد على هذا التعريف، لا بد أن نوضح ان مرادهم من (ذاتياً) الإشارة الى ما يرتبط بـ(الذات العارفة) وشؤون العالِم واما مرادهم من (موضوعياً) فهو الإشارة الى مادة البحث والمتعلَّق والمنكشِف للعارف.
2) عدم شمول التعريف لمعرفة الأّنية
الاشكال الثاني : المعرفة قد تتعلق "بالانية" و قد تتعلق "بالماهية" و التعريف المذكور منطبق على خصوص القسم الثاني فقط. بعبارة أخرى: "معرفة الماهية" ليست مقومةً للمعرفة بقول مطلق، كيف والحال انه لا يمكن معرفة الباري سبحانه بهذا المعنى؛ إذ ليست لله سبحانه وتعالى ماهية فلو لم يكن للمعرفة شق آخر، لما أمكنت معرفة الله مطلقاً وهذا منافٍ للتكليف بالمعرفة، بل حتى لو كان لشيء ماهية فإن معرفة وجوده "معرفة" بلا ريب، ولا يشترط النفود إلى عمقها في صدق المعرفة.
والحاصل: المعرفة إذا تعلقت بالانيّة فهي "معرفة" متعلَّقُها الوجود، ولا تشترط "معرفة الماهية" في صدق المعرفة، والحاصل: ان هذا التعريف تعريف بالأخص، و لا يصح تعريف الأعم بالأخص، نعم لو أراد أن يعرف صنفاً من أصناف المعرفة صح تعريفه بما ذُكر، لكن تعريف الكلي ينبغي أن يكون مطابقاً له و مرادفاً له و ان يشمل التعريف – كالمعرَّف - كل أصنافه وأقسامه .
المعرفة "بالانية" و "بالماهية" في اصول الدينوتطبيقا للكبرى على الصغرى، نقول : المعرفة المعتبرة في أصول الدين -في غالبها- من القسم الأول وتكفى – بل قد لا تمكن إلا – المعرفة بالانية، مثل ما يتعلق بالله سبحانه وتعالى من معرفة وجوده وصفاته كالعلم والقدرة حيث لا نعلم حقيقة علمه وقدرته سبحانه بل لا يمكن ذلك، وأن "الله صفاته عين ذاته" -نعلم الانية - لكن لا نعلم حقيقة العينية وكنهها بل لا يمكن ذلك. بل ان الانسان لا يمكنه الاحاطة بالأشياء العادية و الظواهر الطبيعية ، فكيف يمكنه ان يحيط به سبحانه وهو القاهر فوق عباده الخالق لكل الاشياء الذي اختفى لفرط نوره!نعم، بعض أصول الدين يحتاج إلى معرفته "في الماهية" في الجملة ،مثل المعاد فلا يكفي الايمان باصل المعاد – أي بثبوته ووجوده -، بل تجب معرفة بعض تفاصيله التي تلمح إلى بعض ماهيته، ككون المعاد جسمانياً لا روحانياً، وهذا التفصيل يرتبط بالماهية وتفاصيل الوجود ولا يرتبط بأصل الوجود.
3) عدم شمول بعض درجات المعرفة بالماهية الاشكال الثالث: لو سلمنا وقلنا ان المعرفة مطابقة ومساوقة لمعرفة الماهية، لكن لا يشترط في صدق المعرفة – مع ذلك - معرفة الماهية بتمامها وكمالها وحقيقتها، فإن المعرفة على درجات والمعرفة بحقيقة الشيء لها مراتب، وكل مرتبة لو تحققت فان مرتبة من المعرفة تتحقق، والصدق حقيقي والحمل، ولا يصح السلب قطعاً، وعليه فيكون هذا التعريف تعريفا بالأخص أيضاً حتى في دائرة الأخص -اي المعرفة بالماهية- والحاصل انه لا يشترط في كل معرفة "أن تنفذ إلى جوهر الموضوع لتفهّم حقيقته"، نعم ذلك هو الأكمل الأشمل و المصداق الأجلى منها، لكن توجد مراتب من المعارف دون ذلك، مثل معرفة (أن المعاد جسماني) فانها مرتبة من المعرفة بلا شك، ويصدق "انه عارف بأن المعاد جسماني" حتى مع جهله لبعض المراتب الأخرى .
المختار في تعريف المعرفةالى هنا اشرنا الى أقوال ثمانية مع بعض الإشارة لنقد بعضها، وستكون تتمة الحديث على ضوء استعراض بعض الآيات الشريفة لننتقل منها – ومن بعض الروايات - الى بيان المسلك المختار في تعريف "المعرفة" ولكي نصل بالمآل إلى أن الامر في الروايات (أول ما افترض الله وأوجب على خلقه معرفة الوحدانية) ونظائرها تعلق باي شيء؟ و هذه المعرفة المفترضة على العباد ما هي؟ فنقول : بعد التتبع لمفردة "المعرفة" بتصريفاتها الأخرى في الكثير من الآيات الشريفة تظهر الاشارة في هذه الآيات الشريف الى قواسم مشتركة سلباً وإيجاباً، فتُثبت امورا وتنفي امورا كما ان اموراً أخرى لم يظهر لنا مبدئياً من الآيات الشريفة نفيها أو إثباتها، وسنقتصر على محل الشاهد منها.
والأصول المستنبطة من هذه الآيات – مبدئياً -
ما تثبت الايات اعتباره في المعرفة اولاً : انها تفيد - بحسب موارد استعمالها - أن المتعلّق هو "المصاديق والجزئيات" لا الكليات، فحسب تتبع الآيات الشريفة فانه في كافة هذه الموارد استخدمت في ما لو كان المتعلق مصداقاً جزئياً شخصيا ولم تستخدم في الكليات، كما كان ذلك مقتضى التعريف الرابع. ثانياً : الظاهر من تتبع موارد استعمالها أنه قد أخذت فيها درجة خاصة من الوضوح المساوق للعلم أو الاطمئنان وسنستعرض بعض الآيات في هذا المجال لاحقا وينفع هذا الأصل الثاني – على فرض القبول به – في الإجابة عن احدى المسألتين (وهما وجوب الاجتهاد في أصول الدين، واعتبار العلم في أصول الدين وعدم الاكتفاء بالظن) فان المسألة الثانية قد أجبنا عنها بهذا البيان، وستأتي الإجابة على المسألة الأولى أيضاً.
ثالثاً:قد يستفاد من بعض الايات "اشتراط معرفة الشيء بعد الغفلة عنه" كما هو مقتضى التعريف السادس والسابع و هذه الاستفادة تحتاج إلى تأمل. اذ ربما يكون ذلك من باب أظهر المصاديق، لا من باب الحصر ليصح السلب عما عداه . فهذه أصول ثلاثة: الأوليان منهما محرزة ظاهرا والثالثة تحتاج إلى مزيد تأمل. فتأمل
ما تنفي الايات اشتراطه في المعرفة
أما ما تنفيه هذه الآيات على حسب المستظهر –مبدئياً- فهو "لزوم الاجتهاد في اصول الدين وعدم كفاية التقليد" فان الظاهر من تتبع هذه الآيات الواردة فيها هذه المادة انها لم تعتبر خصوصية للاجتهاد في المعرفة، وان المعرفة سواء أكانت عن تقليد أم أكانت عن اجتهاد فهي معرفة، وعليه فإن استناد "الفقه" إلى روايات المعرفة في وجوب الاجتهاد في أصول الدين لا يكون تاماً عندئذ .
نشير الى آية واحدة الآن، ونرجئ بقية الآيات إلى البحث اللاحق إنشاء الله، يقول الله سبحانه وتعالى: (وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ ( والمقصود "بما عرفوا" الرسول (صلى الله عليه وآله) والقرآن، فما الذي تدل عليه كلمة "عرفوا"؟ تدل على ما اسلفناه سابقا من الأصول الثلاثة، فتدبروا في ذلك أكثر، وللحديث صلة...
وصلى الله على محمدو آله الطاهرين. |