بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(149)
6- في العمل بالإحتياط، طرح للأصول العملية
الإشكال السادس: ما طرحه الشيخ ((قدس سره)) من أنّ العمل بالإحتياط فيه طرح للأصول المعتبرة، قال: (نعم، قد عرفت: أنّ حرمته مع عدم قصد التشريع إنما هي من جهة أن فيه طرحاً للأصول المعتبرة من دون حجة شرعيّة)([1]).
وتوضيحه: أنّ وظيفة المكلف هي العمل بالأمارات والأدلة والحجج، فإن فقدت كانت وظيفته العمل بالأصول العملية، فمع وجود الأمارة المعتبرة كخبر الثقة لا يجوز له مخالفتها، فهذا على الإنفتاح، وأما على الإنسداد فحيث فرض عدم وجود الطبقة العليا الفوقانية من الحجج وهي الأمارات تصل النوبة إلى الطبقة الثانية الدنيا وهي الأصول العملية، فتحرم مخالفتها ولو كانت بعنوان الإحتياط الذي قال به الشيخ، أو بعنوان الظن الذي قال به الفصول.
وبعبارة أخرى: إنه على الإنسداد لا دليل على حجية الأمارات فتكون غير معتبرة ((إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْني مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً))([2]) فكيف يعمل بها، سواء بعنوان كونها مورثة للظن أم بعنوان كون العمل بها إحتياطاً مع أن المرجع شرعاً حينئذٍ([3]) هو الأصول العملية؟.
الجواب: الأصل إما موافق للأمارة أو مخالف
وأجاب الشيخ عن ذلك بـ(وهذا أيضاً غير لازم في المقام، لأن مورد العمل بالطريق المحتمل إن كان الأصول على طبقه فلا مخالفة، وإن كان مخالفاً للأصول: فإن كان مخالفاً للاستصحاب([4]) فلا إشكال، لعدم حجية الاستصحابات بعد العلم الإجمالي بأن بعض الأمارات الموجودة على خلافها معتبرة عند الشارع. وإن كان مخالفاً للاحتياط فحينئذ يعمل بالإحتياط في المسألة الفرعية ولا يعمل بذلك الظن)([5]).
فذلك هو جواب الشيخ وسنضيف له ثلاثة أجوبة أخرى أسبق منه رتبة.
وأما توضيح كلامه مع بعض الإضافات فهو: أن العلاقة بين الإحتياط بالعمل بالأمارات([6]) (غير المعتبرة) والأصول العملية لها صور ثلاث، وللصورة الأولى خمسة أنواع بينما للصورة الثانية ثلاثة أنواع أما الصورة الثالثة فلها نوعان.
أ- فإن طابقت الأمارةُ الأصلَ، فلا طرح
الصورة الأولى: أن تكون الأمارات موافقة للأصول، وأنواعها خمسة: إذ قد توافق الأمارة، كخبر الواحد، أصل البراءة بأن تفيد نفي الحكم، وقد توافق أصل التخيير بأن تدل الأمارة على التخيير بين المتباينين (لا التساقط) كما دلّ عليه الأصل، بناءً على أن الأصل لدى التعارض بالتباين التخيير، وقد توافق الإستصحاب المنفي بأن تنفي الحكم، أو الإستصحاب المثبت بأن تثبته، أو الإحتياط بأن يكون الأصل العملي الإحتياط كما في موارد الشك في المكلف به ودورانه بين أمرين يمكن الجمع بينهما، وتدل الأمارة عليه أيضاً.
ففي كل هذه الأنواع، لا إشكال إذ لم تخالف الأمارة الأصل ولم تطرحه، بل عضدته كما هو الظاهر، سلّمنا لكن غاية الأمر أن تكون من ضم غير الحجة (الأمارة على الإنسداد) إلى الحجة (الأصل) وهو غير ضار.
ب- وإن خالفته فلا بأس
الصورة الثانية([7]): أن تكون الأمارة مخالفة للأصول النافية وهي ثلاثة: أ- البراءة، ب- والإستصحاب النافي للتكليف، بأن تدل الأمارة (غير المعتبرة) على وجوب جلسة الإستراحة مثلاً أو وجوب الدعاء عند رؤية الهلال، وتفيد أصالة البراءة عدمه وكذا استصحاب عدم الحكم الكلي، ج- التخيير، بأن تدل الأمارة على التعيين أو وجوب أحد طرفيه فإن وجوب أحد الطرفين لا يتنافى مع أصل التخيير بل يتنافى مع حدّه فإذا كان التخيير مفاده (يجب عليك هذا أو ذاك، أي يجب عليك هذا وذاك على سبيل البدل) فأفادت الأمارة التعيين لم يتناف الإحتياط بالعمل بهذا خاصة (أي تعييناً) الذي يتوافق مع مقتضى الأمارة، مع الأصل (أصل التخيير) إذ الإحتياط عمل فلا ينفي التخيير والشق الآخر.
وعلى أية حال فان العمل بالأمارة المثبتة مع كون الأصل نافياً لا إشكال فيه، لأربع أدلة:
لعدم حجية الإستصحابات للعلم إجمالاً بمخالفة أماراتٍ لها
الدليل الأول: ما ذكره الشيخ بقوله: (وإن كان مخالفاً للأصول: فإن كان مخالفاً للإستصحاب فلا إشكال، لعدم حجية الإستصحابات بعد العلم الإجمالي بأن بعض الأمارات الموجودة على خلافها معتبرة عند الشارع) وتوضيحه:
أنه يجب العمل على طبق الأصول العملية إلا في صورتين:
إحداهما: وجود الأمارات لأنها حاكمة أو واردة عليها، لكنّ الفرض أنها غير موجودة إذ الباب باب الإنسداد.
ثانيهما: وجود علم إجمالي بمخالفة كثير من الأصول للأمارات، فكما أنه إذا علمنا([8]) بوجود أمارة تفصيلاً لم تصل النوبة للأصل؛ لورودها عليه أو لحكومتها عليه، كذلك إذا علمنا([9]) إجمالاً بأن كثيراً من الأصول العملية النافية([10]) للتكليف (البراءة والإستصحاب النافي والتخيير النافي للتعيين) جاءت في مواردها أمارات مخالفة لها، لكنها لم تصلنا تفصيلاً (لفرض انسداد باب العلم) فإن الأصول تسقط عن الإعتبار أيضاً، بدعوى شمول قوله ((عليه السلام)): ((وَلَكِنْ يَنْقُضُهُ بِيَقِينٍ آخَرَ))([11]) لليقين الإجمالي، فإذا سقطت عن الإعتبار لم تحرم مخالفتها فنتمسك حينئذٍ بالإحتياط بالعمل بالأمارات المثبتة المخالفة لها، والتمسك بها، كما سبق، بعنوان الإحتياط رجاء إدراك الواقع لا بعنوان الظن ولا بعنوان حجيتها بعنوانها.
أو لأن اللاإقتضائي لا يعارض الإقتضائي
الدليل الثاني: إن الأصول النافية، لا إقتضائية، والأمارات المثبتة للحكم إقتضائية، واللاإقتضائي لا يعارض الإقتضائي ولا يدفعه كما هو الأصل المسلّم لدى العقلاء.
أو لأن (ليس ينبغي) ليس للتحريم
الدليل الثالث: إن (فَلَيْسَ يَنْبَغِي) في قوله ((عليه السلام)) في صحيحة زرارة الثانية: ((لِأَنَّكَ كُنْتَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ طَهَارَتِكَ ثُمَّ شَكَكْتَ فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَنْقُضَ الْيَقِينَ بِالشَّكِّ أَبَداً))([12]) ونظائرها هي المنشأ لتوهم حرمة مخالفة الأصل العملي (الإستصحاب خاصة) وحيث كانت هذه أقوى عبارة في صحاح زرارة الأربع من بين العبارات التي قد يستفاد منها الحرمة، لذا سنركز عليها لدفع توهم إفادتها ذلك، فنقول: (لَيْسَ يَنْبَغِي) إما مولوي أو إرشادي:
فإن كان إرشاداً (لما يقع فيه العبد من المشقة مثلاً بنقضه اليقين السابق بالشك وإعادته للعمل) فلا مانع من طرحه والتمسك بالأمارة المثبتة إحتياطاً، إذ لا حرمة لمخالفة النهي الإرشادي.
وإن كان مولوياً فالظاهر أنه لا يفيد الحرمة، أما لأن مثل هذا اللفظ (لا ينبغي) ظاهر في نفسه في الكراهة، أو لأنه ظاهر في المقسم والجامع بين الحرمة والكراهة، وهو مطلق المبغوضية، وعلى كلا التقديرين لا يحرم طرحه، واما لأنه وإن سلّمنا أنه ظاهر في الحرمة في حد ذاته، لكنه يراد به الإباحة أو غاية الأمر الكراهة، في المقام، لأنه من قبيل النهي في مقام توهم الوجوب (وهو عكس الأمر في مقام توهم الحظر الذي التزموا فيه بإفادته الإباحة كما في قوله تعالى: ((وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا)) (سورة المائدة: الآية 2) فحيث قد يتوهم المكلف لدى الشك اللاحق بوجوب إعادة العمل أي بوجوب نقض الحالة السابقة قال ((عليه السلام)): (فَلَيْسَ يَنْبَغِي...) فيفيد الجواز.
أو لأنه لا يصدق النقض
الدليل الرابع: سلّمنا أن النهي مولوي للتحريم، لكن المنهي عنه هو (النقض) وليس العمل بالأمارة إحتياطاً نقضاً للإستصحاب النافي؛ فإن الإستصحاب النافي يفيد عدم وجوب إعادة الوضوء مثلاً، لكنه لا يفيد حرمة تكراره خاصة مع كونه نوراً على نور، كما يفيد عدم تعلق دراهم بذمته، إذا شك أنه اقترض أو لا فأجرى أصل العدم، لكنه لا يفيد حرمة إعطائه دراهم احتياطاً. فإذا أعطاه احتياطاً لم يكن ناقضاً. فتأمل
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال الإمام الحسين ((عليه السلام)): ((حَوَائِجَ النَّاسِ إِلَيْكُمْ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْكُمْ فَلَا تَمَلُّوا النِّعَمَ فَتَحُورَ نِقَماً)) (كشف الغمة: ج2 ص32)
-----------------------------
([1]) الشيخ مرتضى الأنصاري، فرائد الأصول، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم: ج1 ص445.
([2]) سورة يونس: الآية 36.
([3]) حين إذ فقدت الأمارات المعتبرة.
([4]) في بعض النسخ (النافي للتكليف) لكن الأصح عدم الحاجة إليه، إذ كلام الشيخ عام يشمل بحسب علته (بعد العلم الإجمالي...) الأستصحاب المثبت والنافي للتكليف معاً، لكن سيرد عليه إشكال أنه في الأول (المثبت) خلاف الإحتياط الفرعي.
([5]) الشيخ مرتضى الأنصاري، فرائد الأصول، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم: ج1 ص445-446.
([6]) وهي التي عبّر عنها الشيخ بـ(لأن مورد العمل بالطريق المحتمل) و(كل ما يحتمل الطريقية).
([7]) أما الصورة الثالثة فستأتي بإذن الله تعالى في الدرس اللاحق.
([8]) في باب الإنفتاح.
([9]) في باب الإنسداد.
([10]) بل وكذا المثبتة.
([11]) الشيخ الطوسي، تهذيب الأحكام، دار الكتب الإسلامية ـ طهران، ج1 ص8.
([12]) الشيخ الطوسي، الإستبصار، دار الكتب الإسلامية ـ طهران، ج1 ص183. والشيخ الطوسي، تهذيب الأحكام، دار الكتب الإسلامية ـ طهران، ج1 ص421.
|