بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(162)
ملخص برهان النائيني لصالح الشيخ
وقد استدل المحقق النائيني (قدس سره) للشيخ (قدس سره) عبر برهنة الوجه الخامس من الوجوه التي رد بها الشيخ على صاحب الفصول (قدس سره)، ببيان جديد، وإجماله في نقاط:
الأولى: ان العلم التفصيلي بالطرق المنصوبة شرعاً هو الذي ينحل به العلم الإجمالي([1]) بالأحكام الشرعية الواقعية، أما العلم إجمالاً بوجود طرق نصبها الشارع إلى أحكامه فانها لا تحل العلم الإجمالي الكبير، مادامت تلك الطرق مجملة، أي مرددة بين طرق كثيرة، بعبارة أخرى: مادامت الطرق التي نصبها الشارع غير متميزة عن الطرق التي لم ينصبها ولا منفرزة عنها أي مادامت الحجج مختلطة بغير الحجج نظير روايات تحف العقول حيث انه حذف الأسانيد فاختلطت الروايات المسندة بالمرسلة والمعتبرة بغيرها، والصحيحة بالموثقة والحسنة والضعيفة.
والحاصل: ان هذا العلم الإجمالي الثاني، بوجود حجج كثيرة ولكن مرددة بين طرق أكثر منها، لا يحل العلم الإجمالي الكبير (الأول) لأنه لا ينحل إلا بعلم تفصيلي بالطريق المعتبر (الحجة).
الثانية: وحيث كان العلم الإجمالي الكبير باقياً بحاله فيجب الخروج عن عهدته إما بالاحتياط وأخواته، وقد سبق ردها لأن الاحتياط مستلزم للعسر والحرج والبراءة مستلزمة للخروج من الدين.. إلخ، فيجب الخروج عن عهدته بالظن، وعليه، فالظن بالأحكام الشرعية الواقعية حجة.
الثالثة: وحيث ان العقل مستقل بوجوب تحصيل المؤمّن، فانه لا يرى فرقاً بين الظن بالحكم الشرعي الواقعي وبين الظن بطريقة.
وهاتان النقطتان الأخيرتان هما ما ذكره الشيخ واطنب في بيان الأخيرة منها في هذا التنبيه كما اطنب في بيان النقطة الثانية في المقدمة الثالثة من مقدمات الدليل الرابع المعروف بدليل الإنسداد، إلا ان المحقق النائيني أسهب هنا في بيان النقطة الأول فقال:
نص كلام المحقق النائيني
(نعم: يرد عليه ما أفاده بقوله: «وخامساً: سلّمنا العلم الإجماليّ بوجود الطرق المجعولة وعدم المتيقن وعدم وجوب الاحتياط، لكن نقول: إنّ ذلك لا يوجب تعيّن العمل بالظن في مسألة تعيين الطريق فقط، بل هو مجوّز له، كما يجوز العمل بالظن في المسألة الفرعية إلخ».
وتوضيح ذلك: هو أنّه قد تقدم في الدليل العقلي الّذي أقيم على حجية الخبر الواحد أنّ مجرد العلم الإجماليّ بنصب طريق لا يقتضى انحلال العلم الإجماليّ بالأحكام الشرعية الواقعية، فانّه لا يترتب عليه آثار الحجية: من تنجيز الواقع عند المصادفة والمعذورية عند المخالفة، فانّ هذه الآثار إنّما ترتب على الطريق الواصل إلى المكلف تفصيلا لتجري فيه الأصول اللفظية والجهتية، بداهة أنّ الطريق ما لم يكن محرزاً لدى المكلف وواصلاً إليه موضوعاً وحكماً لا يجري فيه الأصل اللفظي: من أصالة إرادة الظهور، والأصل الجهتي: من أصالة كون صدوره لبيان حكم اللّه الواقعي لا لتقية ونحوها، فانّ هذه الأصول تتوقف على العلم بكون الشيء طريقاً والعلم بالمؤدّى والظهور، وإلّا لم يكن موضوعاً لها.
وانحلال العلم الإجماليّ بالأحكام إنّما يكون من لوازم جريان الأصول، وإلّا كان العلم الإجماليّ بها بحاله([2]) فانّه لم يعلم بالطريق المنصوب موضوعاً ولا بمؤدّاه حتى يكون العلم بما يؤدّى إليه من الأحكام موجباً لانحلال العلم الإجماليّ بها إذا كان ما أدّى إليه بقدر المعلوم بالإجمال منها.
فالعلم الإجماليّ بنصب الشارع طريقاً إلى الأحكام لا أثر له ولا يكون العباد مكلفين بالعمل به ما لم يصل إليهم تفصيلاً، والمفروض عدم وصوله إليهم كذلك، فيبقى العلم الإجماليّ بالأحكام على حاله، وهو يقتضى الخروج عن عهدتها، إمّا علماً مع الإمكان، و إمّا ظناً مع عدمه.
نعم: العمل بمؤدّى ما يظن كونه طريقاً يجزى أيضاً، لعدم التفاوت بين العمل بالظن بالحكم الفرعي وبين العمل بمؤدّى الطريق المظنون فيما هو المهم في نظر العقل: من حصول الظن بالمؤمّن عن تبعة التكاليف والخروج عن عهدتها عند انسداد باب العلم بها، فلا وجه لتخصيص النتيجة بخصوص الظن بالطريق بعد اشتراكه مع الظن بالواقع في الأثر)([3]).
إيضاح كلام المحقق النائيني
أقول: بعبارة أخرى: إذا وَصَلَنا الطريقُ تفصيلاً بان علمنا بان هذا الخبر رواه ثقة عن ثقةٍ عن ثقةٍ وصولاً إلى الإمام (عليه السلام) وأحرزنا ظهوره، فهنا يكون منجزاً معذراً ونجري أصالة الظهور (وانّ ظاهرُهُ مرادٌ بالإرادة الجدية) وأصالة الجهة (وانه صدر لبيان الحكم الواقعي) فإذا علمنا بان الأحكام الواقعية هي مائة حكم متوزعة بين ألف قضية مثلاً فوصلنا مائة خبر معتبر على الأحكام الواقعية، انحلّ العلم الإجمالي الكبير([4]) ولا يجب الاحتياط في كل الألف قضية كما لا يجوز إتباع الظن في سائر القضايا (وهي تسعمائة قضية على الفرض) ما عدا المائة مورد التي قام عليها الدليل المعتبر.
ولكن إذا لم تصلنا الطرق تفصيلاً بل وصلت إجمالاً بأن علمنا بأن مائة خبر من بين ألف خبر، هي صحيحة السند ظاهرة الدلالة وقد صدرت لبيان الحكم الواقعي لا للتقية ونحوها، لكننا جهلنا أعيانها بان ترددت بين ألف خبر، فليس أيُّ خبر منها منجزاً ولا معذراً كما لا تجري في أي خبر منها أصالة الظهور والجهة، إذ كل خبر منها مردد كونه هو الحجة من بين عشرة أخبار تسعة منها ليس بحجة فكيف يكون هذا الخبر أو ذاك (أو أي خبر آخر نلاحظه) منجزاً معذراً؟ وكيف تجري فيه أصالة الظهور والجهة مع انه (ثبِّت العرش ثم انقش) فلو علمنا ان هذا هو خبر الثقة وأحرزنا ظهوره قلنا إذاً هو منجز معذر وانّ ظهوره مراد وإرادته الجدية مطابقة للاستعمالية، لكن المشكلة ان أي خبر نلاحظه فلا نعلم حجيته إذ لعل الحجة غيره بل احتمال كونه حجة هو واحد من عشرة فقط (حسب الفرض) فكيف نقول ظهوره مراد للشارع مع ان أصل صدوره غير معلوم؟ وكيف نقول انه لم يصدر تقية مع ان أصل كونه حكماً صادراً من الرسول (صلى الله عليه وآله) غير معلوم؟.
وعليه: فمجرد العلم بوجود مائة خبر معتبر (وهذا هو العلم الإجمالي الثاني)، لا يحل العلم الإجمالي الأول أي العلم بوجود مائة حكم شرعي (مردد بين ألف قضية) نظراً لتردد هذه المائة خبر معتبر بين ألف خبر، تسعمائة منها غير معتبر!!
وبذلك نجد ان العلم الإجمالي الأول (الكبير) لا ينحل بوجود علم إجمالي ثانٍ في الطرق إليها والحاصل: (وانحلال العلم الإجماليّ بالأحكام إنّما يكون من لوازم جريان الأصول، وإلّا كان العلم الإجماليّ بها بحاله فانّه لم يعلم بالطريق المنصوب موضوعاً ولا بمؤدّاه حتى يكون العلم بما يؤدّى إليه من الأحكام موجباً لانحلال العلم الإجماليّ بها إذا كان ما أدّى إليه بقدر المعلوم بالإجمال منها)([5]).
إشكال العراقي على النائيني
ولكن أشكل المحقق العراقي (قدس سره) على قوله (وإلا كان العلم الإجمالي بها بحاله) بقوله: (أقول: الّذي مسلّم و اعترفنا به أيضا سابقا هو صورة عدم الجزم بظهور ما هو الصادر إجمالا بمقدار المعلوم بالإجمال، و إلّا فلو علم بظهور ما هو الصادر المعلوم إجمالا بمقدار المعلوم بالإجمال، فلا قصور في حجية مثل هذا الخبر الظاهر من بين الأخبار، و كذلك لا قصور في سببية هذا المقدار لانحلال العلم الكبير، كما لا يخفى)([6]).
وبعبارة أخرى: ينحل العلم الإجمالي الكبير الأول (بالأحكام الواقعية) ونبتلى حينئذٍ بالعلم الإجمالي الثاني (بالطرق) وعليه: فالظن بالطريق يكون هو الحجة فقط لا الظن بالواقع لأننا لسن مكلفين به حينئذٍ (أي مع انحلال العلم الإجمالي به).
توضيح إشكال العراقي في نقاط
ويوضحه التصوير الآتي:
1- فلو اننا علمنا إجمالاً بان هناك مائة حكم شرعي في الألف قضية وواقعة من القضايا التي يبتلى بها عامة المكلفين، بان يكون ما عدا المائة مورد مباحاً أصلياً.
2- ثم علمنا بان مائة خبر من بين ألف خبر موجود في الكتب، هي المعتبرة، فحينئذٍ تكون الطرق المعلومة الحجية إجمالاً بعدد الأحكام المعلومة إجمالاً.
3- فينحل بذلك العلم الإجمالي بالأحكام لتحدده وانحصاره بموارد العلم الإجمالي بالطرق، ويكون ما عدا موارد المائة خبر (وإن لم نعرفها بأعيانها)، مجرى للبراءة.
4- وحيث ان المائة خبر ترددت بين الألف خبر وجب الاحتياط فيها بالأخذ بها جميعاً، فان لزم العسر والحرج، لزم العمل بالظن في تحديدها فنرجِّح المائة من بين الألف بالظن.
5- فيكون الظن بالطرق هو الحجة، دون الظن بالواقع إذ فرض انحلال العلم الإجمالي به، خلافاً لكلام الشيخ والنائيني، وذلك بحسب إشكال العراقي.
إيضاح أكثر
ويوضحه أكثر: ما لو فرض بين الرقم الثاني والثالث الآنفين صورة أخرى وهي ما لو علمنا ان المائة رواية المعتبرة إجمالاً مرددة بين 500 من روايات الكافي دون الخمسمائة الأخرى الموجودة في تحف العقول (أي كانت الأخبار مجموعاً هي ألف خبر ولكن موزعة بين الكافي (500 فرضاً) وتحف العقول (500 مثلاً)، وكانت المعتبرات بحسب العلم الإجمالي مائة ولكن علمنا بان هذه المائة هي ضمن دائرة روايات الكافي الخمسمائة، فلا شك ان روايات تحف العقول الخمسمائة تخرج عن دائرة العلم الإجمالي ويكون الشك فيها بدوياً، فيجب الاحتياط بالعمل بالطرق الـ500 الموجودة في الكافي نظراً لتردد الروايات المعتبرة (المائة) بينها.
فاتضح بذلك ان العلم الإجمالي بالواقع ينحل لصالح العلم الإجمالي بالطرق ويتعين جعله هو مدار البحث ويكون الظن في أطرافه هو الحجة، لا غير. فتدبر جيداً. ولعلنا نكمل البحث لاحقاً إذا شاء الله تعالى.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطاهرين
قال الإمام زين العابدين (عليه السلام): ((وَمَنْ صَبَرَ وَرَضِيَ عَنِ اللَّهِ فِيمَا قَضَى عَلَيْهِ فِيمَا أَحَبَّ أَوْ كَرِهَ، لَمْ يَقْضِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ فِيمَا أَحَبَّ أَوْ كَرِهَ إِلَّا مَا هُوَ خَيْرٌ لَه)) (الكافي: ج2 ص60)
----------------------------------------------------------------------
([1]) وفي المتن سوف نصفه بالكبير والأول، تمييزاً له عن العلم الإجمالي بالطرق الذي سنصفه بالثاني.
([2]) هنا حاشية للمحقق العراقي سيأتي نقل نصها لاحقاً في المتن.
([3]) الميرزا محمد حسين الغروي النائيني، فوائد الاُصول، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين ـ قم، ج3 ص285-286.
([4]) في أطراف الألف قضية.
([5]) الميرزا محمد حسين الغروي النائيني، فوائد الاُصول، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين ـ قم، ج3 ص286.
([6]) المصدر.
|