بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(171)
المعرفة قسمان: واجب مطلق ومشروط
ثم ان المعرفة على قسمين: ما يجب بالوجوب المطلق وما يجب بالوجوب المشروط بالعلم، بعبارة أخرى: الأمر تارة يكون متعلقاً بالاعتقاد بالواقع (كوحدانية الله تعالى) بنحو مطلق فيجب تحصيل مقدماته ومنها العلم فتكون المحصّلة: حصّل العلم بها عبر دراسة أدلتها، ثم أعقد القلب عليها مما يعني بعبارة أخرى: حصّل العلم به لتعتقد به، وأخرى يكون الأمر متعلقاً بالاعتقاد بالواقع بنحو مشروط أي ان الأمر إنما يكون بهذا النحو: إذا حصل العلم به اعتقد به، وذلك كعصمة الأنبياء (عليه السلام) والأئمة (عليه السلام)، على رأيٍ طرحه الشيخ (قدس سره) وكالرجعة وتفاصيل القيامة والصراط والميزان، على ما التزمه جمع من الأعلام.
ثم البحث تارة يقع عن تكليف القادر على تحصيل العلم وأخرى عن تكليف العاجز، وعلى تقدير كونه قادراً يقع البحث تارة عن حكمه التكليفي أي الوجوب وأخرى عن الحكم الوضعي أي الإيمان والكفر وأن القادر على تحصيل العلم بوحدانية الله تعالى إذا اقتصر على الظن فهل هو مؤمن أو لا؟ وعلى تقدير عدم كونه مؤمناً فهل هو كافر أو لا، بناء على ثبوت الواسطة بين الإيمان والكفر كما هو مبنى الشيخ (قدس سره).
قال الشيخ (قدس سره): (ثم إن الكلام إلى هنا في تمييز القسم الثاني - وهو ما لا يجب الاعتقاد به إلا بعد حصول العلم به - عن القسم الأول، وهو ما يجب الاعتقاد به مطلقاً فيجب تحصيل مقدماته، أعني الأسباب المحصلة للاعتقاد، وقد عرفت: أن الأقوى عدم جواز العمل بغير العلم في القسم الثاني.
وأما القسم الأول الذي يجب فيه النظر لتحصيل الاعتقاد، فالكلام فيه يقع تارة بالنسبة إلى القادر على تحصيل العلم وأخرى بالنسبة إلى العاجز، فهنا مقامان:
الأول: في القادر، والكلام في جواز عمله بالظن يقع في موضعين:
الأول: في حكمه التكليفي.
والثاني: في حكمه الوضعي من حيث الإيمان وعدمه، فنقول:
أما حكمه التكليفي، فلا ينبغي التأمل في عدم جواز اقتصاره على العمل بالظن، فمن ظن بنبوة نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أو بإمامة أحد من الأئمة صلوات الله عليهم فلا يجوز له الاقتصار، فيجب عليه - مع التفطن لهذه المسألة - زيادة النظر، ويجب على العلماء أمره بزيادة النظر ليحصل له العلم إن لم يخافوا عليه الوقوع في خلاف الحق، لأنه حينئذ يدخل في قسم العاجز عن تحصيل العلم بالحق، فإن بقاءه على الظن بالحق أولى من رجوعه إلى الشك أو الظن بالباطل، فضلا عن العلم به.
والدليل على ما ذكرنا: جميع الآيات والأخبار الدالة على وجوب الإيمان والعلم والتفقه والمعرفة والتصديق والإقرار والشهادة والتدين وعدم الرخصة في الجهل والشك ومتابعة الظن، وهي أكثر من أن تحصى)([1]).
وفي كلامه (قدس سره) مواقع للتدبر أو المناقشة:
المكلف إما قادر وإما عاجز، ومن يشق عليه يلحق بالقادر
1- أما قوله: (فالكلام فيه يقع تارة بالنسبة إلى القادر على تحصيل العلم وأخرى بالنسبة إلى العاجز) فقد يناقش بان هنا شقاً ثالثاً لا بد من ان يبحث وهو من يقع في عسر وحرج من الاجتهاد والنظر لتحصيل الاعتقاد، لأن حكمه في الاعتقاديات وأصول الدين قد يختلف عن حكمه في فروع الدين والأحوال الشخصية، فان من يقع في عسر وحرج في الأحكام المرتبطة بالعمل، ملحق بالعاجز، في رفع التكليف عنه إذ {وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (سورة الحج: الآية 78) وأما من يقع في عسر وحرج من النظر في أصول الدين، فقد يقال انه ملحق بالقادر وانه لا يرتفع عنه حكم وجوب الاجتهاد والنظر لمجرد انه يقع في العسر والحرج؛ إما بدعوى ان {ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} لا يشمل الأحكام والمستقلات العقلية لأن وضعها ليس بيد الشارع ليكون رفعها بيده (أو ليرفعها) وعليه فان أحكام أصول الدين ونظائرها مما يحكم به العقل الصريح خارجة تخصصاً عن الآية، إذ المراد من الدِّين الدِّين الذي شرّعه الله تعالى وما يحكم به العقل ليس مما شُرِّع، أو انها خارجة تخصيصاً بدعوى ان أحكام العقل من الدِّين، ولكن تخرج ببركة الارتكاز المتشرعي أو العقلائي على انها من الأهمية القصوى بحيث تصرف الآية عن شمولها لها، أو فقل: الارتكاز قرينة حافة تمنع انعقاد الإطلاق للآية الكريمة، أو لغير ذلك مما سيأتي بحثه، وليس الكلام الآن في تبني هذا الرأي بل إنما هو مجرد إبداء وجود احتمال آخر لا بد من بحثه وتنقيح أدلته.
2- قوله: (أما حكمه التكليفي، فلا ينبغي التأمل في عدم جواز اقتصاره على العمل بالظن) فله إيضاح وفيه مناقشتان:
الفرق بين بابي الانفتاح والإنسداد في كفاية الظن وعدمه
أ- أما الإيضاح فهو ان قوله (قدس سره) (فلا ينبغي التأمل في عدم جواز اقتصاره على العمل بالظن) خاص بصورة الانفتاح ولا يعم صورة الإنسداد؛ إذ مبنى كلامه في مطلعه على القادر فلاحظ، وعليه فالمدار في الانفتاح الانفتاح الشخصي، وإن فرض الإنسداد على النوع، فتدبر.
وعلى أي فانه قد يفصّل بانه على انفتاح باب العلم، نوعاً أو لهذا الشخص الخاص، يجب تحصيل العلم ولا يكفي الظن؛ نظراً لانفتاح باب العلم، وأما على الإنسداد فقد يقال: بكفاية الظن، نظراً لعجزه عن تحصيل العلم ودوران الأمر بين أن يعقد قلبه على المظنون أو على ضده المتوهم ولا شك ان الأول أرجح كما ذكر في مبحث الإنسداد في الفروع، وقد يقال بعدم كفايته بل عدم جوازه إذ الفروع المطلوب فيها العمل فيها والأمر دائر حينئذٍ بين العمل بالظن أو الوهم وحيث ان ترجيح المرجوح قبيح لذا وجب العمل على مقتضى الظن، أما الاعتقاديات فليس المطلوب فيها العمل بل الاعتقاد فإذا تعذر العلم فعليه التوقف والإرجاء لا عقد القلب على ما ظن بعد عموم أدلة الردع عن الظن. هذا. وقد ذهب بعض الفقهاء إلى كفاية الظن المطلق في أصول الدين، بل تعيّنه لدى الإنسداد ومنهم السيد الوالد والسيد اليزدي صاحب العروة في حاشيته على الفرائد([2]).
وجه حجية الظن الخاص، في أصول الدين
ب- وأما المناقشة الأولى، فهي انه قد يقال بحجية الظن الخاص، على الانفتاح، لعموم أدلته، كقوله تعالى: {فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} (سورة النحل: الآية 43) فكما نسألهم عن أحكام الصلاة نسألهم عن أصول ديننا مثلاً: ان الله واحد أو لا؟
ويؤكده: ان العامي الذي يستقل عقله بوجوب تحصيل المعرفة بخالقه وانه واحد أو لا، إذا وجد ان هذا المتكلم، نصير الدين الطوسي مثلاً، أعلم منه دون شك وأخبر بالشبهات والأجوبة، وانه إذا نظر بنفسه فقد يصل إلى أن الله واحد وقد يصل إلى أنه لا يمتنع تعدده، ووجد نفسه غير قادر على الإجابة على الإشكالات الصعبة التي قد تطرح (وإن قيل ان الاجتهاد البسيط كافٍ) وعلم ان مرجعه الذي يثق بعلمه ووثاقته وتقواه قد قام ببحث ذلك كله ووصل إلى نتيجة قطع بها، فلا ريب أن عقله يحكم بان تقليده لمرجعه هو المتعين لأنه الأرجح قطعاً من إعماله هو النظر والاجتهاد المرجوح قطعاً القبيح حينئذٍ عقلاً. فتأمل.
وسيرة العقلاء على اتّباع عوامهم لعلمائهم
وجه آخر: قد يقال ان سيرة العقلاء من كل الملل والنحل على اتّباع عوامهم لعلمائهم في مسائل أصول دينهم وغيرها.
لا يقال: ذلك مردوع عنه في الآيات والروايات؟
إذ يقال: أولاً: المسلّم ان المردوع عنه اتّباع من علموا منه الفسق والعصبية لا مطلقاً، وتدل عليه رواية الاحتجاج حيث قال الإمام انهم عملوا منهم العصبية ومع ذلك اتبعوهم.
ثانياً: قد يقال: ان الآيات الذامة للكفار إنما وردت على نحو القضية الخارجية وان ذمهم ليس على التقليد نفسه بل على تقليدهم في الباطل، فلا تعمّ المقلد للحق.
ثالثاً: وقد يقال: ان ذمهم لأنهم علموا الحق بعد ان شاهدوا المعجزات، ومع ذلك عاندوا واستمروا في تقليد آباءهم، ولا ذمّ على مَن قلد من يثق به (بعلمه وتقواه) من دون أن يقوم له دليل على خلافه. ويدل عليه خبر الاحتجاج (إذ كانت دلائله أوضح..) فتأمل.
والكلام كما سبق لمجرد إبداء الاحتمال الآخر لا للتبني وإن لم يكن مستبعداً صناعياً.
التفصيل بين أصول الدين الظاهرة للعقل والتي بها نوع خفاء
ج- وأما المناقشة الثانية، فهي انه قد يفصّل بين أصول الدين التي لا تتسرب إليها الشبهات والتشكيكات لدى نوع الناس، كوجود الله تعالى، مما يتضح لدى العقل بأدنى التفات أنه لا بد لكل حادث / ممكن من خالق، فلا يصح فيها الظن أو التقليد، وبين أصول الدين التي تتسرب إليها الشبهات لدى نوع الناس كوحدانية الله تعالى، إذ ان كثيراً من العوام لا يدرك امتناع تعدد واجب الوجوب، ولا يستطيع الجواب عن شبهة يوردها المشكك على مثل {لَوْ كانَ فيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتا} (سورة الأنبياء: الآية 22) وانه لا يمتنع اجتماع حكيمين من كل الجهات بالتوافق على كل أمر كالحسن والحسين (عليهما السلام) حيث لا يتوهم اختلافهما نظراً لعلمهما بكافة المصالح والمفاسد وعصمتهما فلا يختلفان فكذلك الإلهان المفترضان! فكيف يجيب العامي عن هذه الشبهة؟ ففي مثل ذلك يرجح ان يقلد من يثق بعلمه وورعه بدل ان يجتهد على ضعفه حيث يحتمل ان يصل إلى الخلاف!.
وقد يجيبه المتكلم أو الفيلسوف بان الإلهين المفترضين إما أن تقول هما من سنخ واحد وإما أن تقول هما من سنخين؟ فإن قلت بالأول امتنع تعددهما مع كونها من سنخ واحد لفرض كون الواجب صرف الوجود الذي لا يتثنى ولا يتكرر، وإن قلت بالثاني امتنع عدم اختلافهما لفرض ان مقتضى ذاتَي المختلفين ذاتاً، مختلف. فتأمل وتدبر وليس المقام مقام الأجوبة والمناقشات لنسهب في تنقيح المطلب وعرض إجابات أخرى أيضاً، بل المقام مقام بيان كون أصول الدين على نوعين: ما يحكم العقل به بأدنى التفات، وما يحتاج في حكمه إلى تدبر وتعمق، فيمكن التفصيل بالقول ان العامي يكفيه تقليد غيره فيه، أو يكفيه ظنه، ولا يتعيّن عليه النظر المؤدي إلى العلم الذي لا يزيده قرباً إلى الواقع مما لو بنى على ما ظنه. فتدبر.
* * *
اذكر: خمسة أمثلة للواجب المطلق من المعرفة وخمسة أمثلة للواجب المشروط منها (درجة واحدة).
سؤال تمريني: ما الدليل على التفريق بين أصول الدين وفروعها، في إلحاق من يقع في عسر وحرج في الأولى، بالقادر، وإلحاق من يقع في عسر وحرج في الثانية، بالعاجز؟ (درجتان)
اذكر: خمس أدلة على كفاية الظن الخاص في أصول الدين، وناقشها (خمس درجات).
وصلى الله على محمد واله الطاهرين
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ((شَيئانِ لا تُبلَغُ غايَتُهُما: العِلمُ والعَقلُ)) (غرر الحكم ودرر الكلم، ص41).
----------------------------------
([1]) الشيخ مرتضى الأنصاري، فرائد الأصول، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم: ج1 ص569-570.
([2]) حاشية فرائد الأصول، ج1 ص676.
|