بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(173)
التقسيم الثلاثي: المكلف إم اجاهل وإما مطّلع وإما مجتهد
ثم انّ التحقيق، الذي نصل به إلى تفصيل جديد في مسألة وجوب المعرفة، هو أن المكلف ينقسم إلى ثلاثة أقسام: جاهل ومطّلع ومجتهد، وليست ثنائية حاصرة بين الجاهل والمجتهد:
أما الجاهل فقسمان: من لا يعرف الحكم، ومن يعرفه دون أن يعرف الدليل.
وأما المطّلع فهو من عرف الدليل أيضاً.
وأما المجتهد فهو من عرفه عن استنباط واجتهاد، فان معرفة الدليل أعم من الاجتهاد إذ الاجتهاد ملكة يمكن بها الاستنباط والاستدلال والرد والمناقشة، وليس كل من عرف الدليل (أو حتى الأدلة) على حكمٍ كان مجتهداً؛ ألا ترى أن من لم يعرف ما هو الاستصحاب فهو جاهل وأنّ من عرفه وعرف دليله وهو مثلاً صحيحة زرارة، فانه ليس بجاهل لكنه ليس مجتهداً أيضاً، وإلا لكان كل من قرأ الرسائل بل المعالم مجتهداً حيث علم منه ان دليل حجية الاستصحاب هو صحاح زرارة أو هو بناء العقلاء مثلاً.
والحاصل: انّ المطّلع الذي يمكن ان نعبّر عنه بالفاضل متوسط بين الجاهل والمجتهد فانه يصح سلب الجهل عنه ولا يصح إثبات الاجتهاد له.
ثمرات تثليث الأقسام
وثمرات تثليث الأقسام والتفريق بين العامي والمطلع والمجتهد كثيرة:
العامي لا يمكنه الاحتياط عكس المطّلع
ومنها: انّ العامي كثيراً ما لا يمكنه الاحتياط، للجهل بكيفيته أو لأنه قد يكون الاحتياط في ترك الاحتياط، عكس المطّلع، حيث يمكنه الاحتياط من دون توقف على كونه مجتهداً، فان كونه من موارد الاحتياط في ترك الاحتياط أو لا مما قد يعرفه المطلع دون الجاهل، عادة، ولو عرفه لصار مطلقاً.
والحاصل: ان للمطّلع مطلقاً أن يحتاط مطلقاً، دون الجاهل فانه كثيراً ما يحرم عليه.
نظر المطلّع حجة دون الجاهل
ومنها: ان نظر المطّلع حجة لنفسه، بل ولغيره، في الموضوعات المستنبطة، عكس الجاهل المحض، وقد يمثّل له بان المطّلع على الأقوال في الأعلم والمباني، كثيراً ما يمكنه تشخيص الأعلم، من غير توقف على كونه مجتهداً، عكس الجاهل العامي المحض، وقوله حجة لأنه، أي المطّلع، يصدق عليه انه أهل خبرة، مطلقاً أو في الجملة، عكس العامي المحض، ولا ينحصر أهل الخبرة في المجتهد فمن اطلع على المباني في الأعلم وان منها مثلاً الأكثر دقة أو تشقيقاً أو الأكثر إحاطة بالمدارك والقواعد والأشباه والنظائر، فانه على هذا المبنى أو ذاك يمكنه، كثيراً ما، أن يميّز الأعلم من غيره، وإن لم يكن مجتهداً في تحديد المبنى ولا في غيره.
وللمطّلع تطبيق القواعد الفقهية دون الجاهل
ومنها: ان المطّلع يمكن إيكال تطبيق كثير من القواعد الفقهية إليه، كقاعدة ما يضمن وقاعدة ما لا يضمن، من غير توقف فيها على الاجتهاد فيها بل كثيراً ما يكفي ان يعطى القاعدة ويفهمها فانه يمكنه حينئذٍ تطبيقها على جميع أو بعض صغرياتها، عكس العامي المحض الذي لا يفهم عادة القاعدة ولو فهمها لما أمكنه، عادة، تطبيقها، كالمثال السابق وكعدم رفع حديث (لا ضرر) لما ورد مورد الضرر، والحاصل: ان فهم القاعدة وتطبيقها لها غير موقوف على الاجتهاد من جهة، كما انه مما لا يتيسر للعامي من جهة أخرى.
وتكفي معرفة الدليل في العقائد، ولا يتعين الاجتهاد
ومنها: المقام: إذ قد يصار في مسألة وجوب المعرفة بأصول الدين إلى رأي جديد وهو بان يقال بوجوب أن تكون عن استدلال، وإن لم تكن عن اجتهاد، ويقال بعدم كفاية التقليد، بعبارة أخرى: قد يفصّل بان العامي المحض ليس بريء الذمة بمجرد التقليد بل عليه المعرفة، وان المطّلع على الأدلة بريء الذمة وإن لم يكن علمه بها عن اجتهاد، ويوضحه ما سبق من مثال المطّلع على دليل الاستصحاب والقارئ للمعالم أو الرسائل فانه مطلع غير مجتهد وهو أعلى مرتبة من الجاهل دون شك، كما يوضحه مثال الطالب في كلية الطب فانه مطلع لكنه عادة غير مجتهد، ومع ذلك فهو أعلى رتبةً من العامي المحض بالبداهة..
وفي المقام: قد يقال: بوجوب إطلاع المكلف على دليل أو أكثر، من غير ان يلزم كونه مجتهداً فيه ومن دون أن يكفيه التقليد في المسألة دون أن يعرف دليلاً من أدلتها، ولا مجال للقول بانه مادام قد اطلع على الدليل فهو مجتهد؛ إذ سبق ان الاجتهاد ملكة وليس كل مطلع على الدليل مجتهداً.. ألا ترى، إذا أردت التمثيل بمثال من المقام، انه لو اطلع على أن دليل وحدانية الله تعالى هو: {لَوْ كانَ فيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتا} (سورة الأنبياء: الآية 22) فانه لا يكون بمجرد ذلك حاصلاً على ملكة الكلام والاستدلال والجواب، ربما، حتى عن أبسط الشبهات؟ فمثلاً: هل الآية دليل على وحدانية واجب الوجود كما قال بذلك قوم، أو هي دليل على وحدانية الخالق كما قال بذلك قوم، والثاني أعم من الأول إذ قد يكون، بحسب الفرض والإشكال، الخالق والإله المعبود واحداً لكن يكون واجب الوجود، غير الخالق بالفعل، متعدداً، وعلى أي فان المجتهد هو الذي يمكنه الجواب عن الشبهات دون مجرد المطّلع على الدليل.
المسألة غير منقحة لدى القوم، وهناك خلط
إذا عرفت ذلك عرفت أن المسألة غير منقحة في كلام القوم، وأن هناك خلطاً قد حدث بين المطّلع والمجتهد، وأن بعضهم صرح بتعيّن الاجتهاد في أصول الدين لكنه استدل عليه ببعض الأدلة الدالة على وجوب الإطلاع على الأدلة، من غير أن تدل على وجوب الاجتهاد.. ولننقل أولاً بعض عبارات الشيخ والشيخ كاشف الغطاء ليتضح أنهم لم يفرزوا بين الأمرين ثم لننقل ثانياً بعض استدلالاتهم ليتضح تحقق الخلط بإقامة دليل يفيد لزوم الإطلاع والاستدلال به على لزوم الاجتهاد.
قال الشيخ (قدس سره): (والأقوال المستفادة من تتبع كلمات العلماء في هذه المسألة، من حيث وجوب مطلق المعرفة، أو الحاصلة عن خصوص النظر، وكفاية الظن مطلقاً، أو في الجملة، ستة.
الأول: اعتبار العلم فيها من النظر والاستدلال)([1]) والظاهر انه([2]) من عطف البيان والظاهر منه ومن تتمات كلامه، خاصة بملاحظة المقابلة مع التقليد عند نقله سائر الأقوال انه يريد به الاجتهاد لا مجرد الإطلاع ومعرفة الدليل فقط، فإن التقليد المصطلح يقابل الاجتهاد المصطلح فإن أراد ذلك ورد عليه أن بعض أدلته وأدلته المشهور التي أقامها على وجوب الاجتهاد إنما يدل على وجوب مجرد الإطلاع على الدليل من دون أن يدل على وجوب الاستدلال عن اجهاد.
وإن أراد التفكيك (النظر، أي الاجتهاد، والاستدلال، أي الإطلاع على الدليل أو العكس، وجب عليه البيان كما وجب عليه تفكيك الأدلة.
وقال الشيخ (قدس سره): (أما حكمه التكليفي، فلا ينبغي التأمل في عدم جواز اقتصاره على العمل بالظن، فمن ظن بنبوة نبينا محمد (صلى الله علبه واله) أو بإمامة أحد من الأئمة صلوات الله عليهم فلا يجوز له الاقتصار، فيجب عليه - مع التفطن لهذه المسألة - زيادة النظر)([3]) فإن قصد الاجتهاد، كما هو الظاهر، ورد ما سبق من أن بعض أدلتهم لا تدل إلا على لزوم الإطلاع على الدليل، وإن قصد مجرد الإطلاع على الأدلة صح فيما نرى لكنه غير مبين في كلامه كما انه مغاير لمبنى المشهور بل الظاهر انه مخالف لمختلف عباراته.
وقال كاشف الغطاء (قدس سره): (والذي يمكن أن يستدل به أو استدل به على كفاية التقليد في العقائد وجوه:
أحدها: أن حرمة التقليد وعدم كفايته إنما هو من جهة وجوب النظر شرعاً. ووجوب النظر شرعاً باطل لأن وجوب النظر والاستدلال شرعاً موقوف على ثبوت الشرع فلو ثبت الشرع بالنظر دون غيره لتوقف ثبوت الشرع على النظر دون غيره)([4]) والشاهد ان المدعى كفاية التقليد، والدليل أن النظر والاستدلال الذي يراد به الاجتهاد قد اعتبر باطلاً (بدليل الدور المدعى) فثبت كفاية التقليد، مع انه حسب تقسيمنا الثلاثي فان عدم وجوب الاجتهاد أعم من كفاية التقليد المحض إذ قد يجب عليه الإطلاع ومعرفة الدليل فقط.
ويؤكد ذلك كله استدلالاتهم فمنها مثلاً: (إن النبي (صلى الله علبه واله) كان يكتفي في الإسلام بالشهادتين من دون تكليف المسلم بالاستدلال و النظر.
وجوابه: أن ذلك لا يدل على اكتفائه بالتقليد؛ وذلك لأن شهادة التوحيد يدل عليها ما هو المرتكز في الأذهان من الدليل الإجمالي، وهو أنه لو كان فيهما آلهة إلا اللّه لفسدتا، وشهادة النبوة تدل عليها المعجزات المتواترة والآيات البينة فليس ذلك إقرار وتدين بلا برهان)([5]) لأن المدعى هو وجوب الاجتهاد وأما الدليل فلا يدل على أكثر من لزوم الإطلاع، فإن معرفة الدليل الإجمالي ومعرفة الآية وبرهانها أعم من امتلاك الملكة والقدرة على الاستنباط والاجتهاد. فتدبر جيداً.
* * *
-اذكر: ثمرات وفوارق ثلاثة أخرى بين المطّلع والعامي الجاهل المحض.
- سؤال: هل هناك فرق بين العامي المحض وبين المطّلع (الفاضل) في الموضوعات الصِّرفة أيضاً أو الفرق خاص بالموضوعات المستنبطة؟
- هل تجد رواية تعضد ما ادعيناه من تثليث الأقسام؟
وصلى الله على محمد واله الطاهرين
روي عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) قوله في حديث مخاطباً أبا خالد الكابلي: ((يَا أَبَا خَالِدٍ إِنَّ أَهْلَ زَمَانِ غَيْبَتِهِ الْقَائِلِينَ بِإِمَامَتِهِ وَالْمُنْتَظِرِينَ لِظُهُورِهِ أَفْضَلُ أَهْلِ كُلِّ زَمَانٍ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَعْطَاهُمْ مِنَ الْعُقُولِ وَالْأَفْهَامِ وَالْمَعْرِفَةِ، مَا صَارَتْ بِهِ الْغَيْبَةُ عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمُشَاهَدَةِ، وَجَعَلَهُمْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ بِمَنْزِلَةِ الْمُجَاهِدِينَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله علبه واله) بِالسَّيْفِ، أُولَئِكَ الْمُخْلَصُونَ حَقّاً وَشِيعَتُنَا صِدْقاً، وَالدُّعَاةُ إِلَى دِينِ اللَّهِ سِرّاً وَجَهْراً، وَقَالَ (عليه السلام): انْتِظَارُ الْفَرَجِ مِنْ أَعْظَمِ الْفَرَج)) (الاحتجاج: ج2 ص317).
--------------------------------
([1]) الشيخ مرتضى الأنصاري، فرائد الأصول، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم: ج1 ص553.
([2]) (عطف الاستدلال على النظر).
([3]) الشيخ مرتضى الأنصاري، فرائد الأصول، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم: ج1 ص569.
([4]) الشيخ علي كاشف الغطاء، النور الساطع في الفقه النافع، منشورات طليعة النور ـ قم، ج2 ص121.
([5]) المصدر: ص122.
|