بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
كان البحث حول الادلة التي سيقت علىوجوب النظر والاستدلال في اصول الدين وذكرنا من الادلة، العقل ثم الآيات بطوائفها الاربعة ثم الروايات حتى وصلنا إلى ختامها وهي الرواية التي استدل بها في الفقه، حيث يقول: (وتدل على وجوب النظر من السنة روايات، منها: انه لما نزل قوله تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) قال النبي (صلى الله عليه وآله)(ويل لمنلاكها بين لحييه ثم لم يتدبرها)
بحوث خمسة في رواية (... ثم لم يتدبرها)
والاستدلال بهذه الرواية ونظائرها يتوقف على بيان مطالب:
المطلب الاول:هل (ويل) ظاهرة في الحرمة ام انها اعم من الحرمة والكراهة.
المطلب الثاني:ماذا يعني (التدبر) وما هي نسبته مع الاجتهاد مورد البحث، كي نرى هل ان الرواية تنطبق على المدعى والمقصود ام لا؟
المطلبالثالث:على فرض وجوب التدبر وانطباقه على المقام، فهل الوجوب نفسي ام غيري؟
المطلب الرابع:ان النظر المدعى دلالة الرواية على وجوبه، هل يجب مكررا؟فقد يقال استنادا لهذه الرواية ان النظر واجب تكراره وان على الانسان ان يرجع إلى القران بين فترة واخرى ويتدبر في آياته مطلقاأويتدبر فيآيات اصول الدينبخصوصها، على الاحتمالين.
المطلب الخامس:لو شككنا في معنى (التدبر) وانه ما هو المراد منه ،فما هو المرجع؟وسوف نبحث هذه المطالب بايجاز لأن بحثها المفصل يستدعي مقاما مطولا
وقبل ذلك لا بد أن نشير إلى أن بحث التدبر في القران، رغم انه مسألة مفتاحية، لا نجده مطروقاً في كتب الفقه والتفسير فيما وجدت، كبحث فقهي، وكذلك ليس هناك كتاب مستقل حول القران الكريم في احكامه الشرعية، نعم للوالد كتاب في موسوعة الفقه بعنوان(حول القران الكريم)لكنه يتطرق لاصول المسائل المرتبطة بالقران، ولا يتكلم عن المسائل الفقهية المرتبطة بأفعال المكلفين.
1- هل (ويل) تدل على الحرمة؟
إنتمامية ما ادعاه الفقه من الاستدلال على وجوب النظر بهذه الرواية يتوقف على مطالب:
المطلب الأول:ان كلمة ويل هل تدل على الحرمة ام هي اعم؟، مثل كلمة اللعن إذ تستخدم في مواطن الحرمة كما استخدمت في الكراهة مثل (ملعون ملعونمن اكل زاده وحده) و(ملعون ملعون من ركب الفلاة وحده) وهي مكروهة بلا كلام بما هي هي، وأما (ويل) فقد يقال انها لا تدل على الحرمة، لأن للويل معاني عديدة:
المعنى الأول: ما قاله سيبويه: (ويل له وويلا له اي قبحا له) والتقبيح اعم من التحريم.
المعنى الثانيللويل هو الحزن، فويل له اي حزن له والحزن اعم.
المعنى الثالث:الذي ذكرته كتب اللغة هو ان الويل يأتي بمعنى التعجب ومنه قول امير المؤمنين عليه السلام (ويل امه، كيلاً بغير ثمن، لو ان له واعيا) متحدثاً صلوات الله عليه عن عالم ضليع في علوم خمسة يفيض علومه على اناس لا يعرفون قيمة العلم فقالالامير هذه الكلمة تعجبا، اي عجباً لهذا العالم الذي يكيل بغير ثمن، أي يعطي العلم للناس بلا ثمن أي بدون أن يطالبهم بثمن ومع ذلك لا يستمعون لهولا يعون كلامه،وأيضاً قوله تعالى: (قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ) و(يَا وَيْلَتَا) أي يا عجباً.
اذن قد يقال ان هذه الرواية (ويل لمن لاكها بين لحييه ثم لم يتدبرها) دلالتها على التحريم غير تامة،فاستناد (الفقه) اليها غير تام، لأن الويل يطلق ويراد منه القبح والتقبيح والحزن وقد يراد به التعجب وغير ذلك، وهم أعم.
لكن الحق ان (ويل) ظاهرها غير ما ذكر وان هذه المعاني المذكورة في كتب اللغة معاني مجازية، وانما المعنى الحقيقي الموضوع له الويل هو الهلاك والعذاب فـ(ويل له) اي هلاك له اي عذاب له، وقد ذكرت لكلمة ويل مصاديق منها(انها وادي في جهنم لو وضعت فيه جبال الدنيا لذابت) وهو تفسير بالمصداق.
والظاهر ان المعنى الموضوع له لكلمة ويلهو الهلاك فويل ظاهره في التحريم وما عدا ذلك يحتاج إلى قرينة على الخلاف وذلك بدليل التبادر وبشهادة التتبع لكلمات اللغويين حيث يصرحون بان الاصل في الويل الهلاك والعذاب ، وأيضاً فإن استقراء تاماً لآيات القران الكريم الواردة فيها كلمة ويل – وهي حوالي اربعين اية– يقودنا إلى أن كل هذه الآيات بأجمعها استخدم فيها الويل بمعنى الهلاك والعذاب، مثل قوله تعالى: ( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) وقوله تعالى: ( فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) وكقوله تعالى: ( وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) إلى اخر الآيات الشريفة، ومن الواضح ان الاستعمال اعم من الحقيقة، لكن إذا تتبعنا مختلف موارد الاستعمال فوجدناها في القران الكريم بالكامل كذلك، وفي غير القران الاعم إذا وجدنا الاغلب شبه المطبق كذلك، ووجدنا ان استخدام ويل بمعنى قبح قليل جداً وفي معنى الحزن اندر ، فان الاستعمال بهذه المثابة يكون علامة للحقيقة،هذا اضافة إلى قرينة رابعة وهي ان المورد يؤيد ان ويل هنا للتحريم، فإن المورد هو الآيات الشريفة التي تتحدث الرواية عنها(ويل لمنلاكها بين لحييه ثم لم يتدبرها)عنها والآيات هي نحو(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً) فان تنزيه الله عن العبثية واجب،واسناد العبثية له حرام بلا شك، والتدبر الموصل لذلك واجب وهكذا لو تدبرنا بقية الآيات الشريفة التالية، فهذه القرينة تعد مؤيداً لوجود ايرادقد يرد عليها، فليتدبر.
اذن الظاهر ان ويل لو استخدمت في لسان المعصوم عليه السلام او اي مولى فان ظاهرهاالتحريم.
اذن من هذه الجهة لا مشكلة، لكن المشكلة من الجهة الثانية وهي كلمة (التدبر) وهذا ما سيتضح في المطلب الآتي.
تحقيق معنى (التدبر)
المطلب الثانيتحقيق معنى (التدبر)، وبه سيتضح ان استدلال الفقه غير تام على المدعى وهو وجوب الاجتهاد في اصول الدين استناداً إلى هذه الرواية (ويل لمن لاكها بين لحييه ثم لم يتدبرها) اما وجه التأمل فيعود للتأمل في كلمة التدبر، فماذا تعني كلمة التدبر في قوله (ولم يتدبرها) – وفي الآيات الشريفة الداعية للتدبر - وما هي نسبة التفكر مع التدبر ومع الاجتهاد؟ ولنبدأ بالنسبةبين التدبر والتفكر فنقول: ان الاحتمالات في معنى التدبر مقيسا للتفكر هي ثلاثة:
الاحتمال الاول:ان النسبة هي التباين، وعلى هذا الاحتمال فالرواية أجنبية عن امكان الاستدلال بها تماما، لذا فان تحقيق هذه المعاني مهم في الاستنتاج.
الاحتمال الثاني:ان تكون النسبة بين التفكر والتدبر هي العموم والخصوص المطلق بان يكون التفكر اعم مطلقاً، والأمر في هذا الاحتمال كسابقه.
الاحتمال الثالث:ان تكون النسبة هي المساوات اي الترادف.
وعلى هذا الاحتمال الاخير فان الاستدلال بالرواية يكون تاما، كما سيتضح.
اما الاحتمال الاول وهو ان النسبة هي التباين،فهو ظاهر كلام الشيخ الطوسي في التبيان وقد ذكره مجمع البحرين بقوله(على ما قيل) (الفرق بين التدبر والتفكر هو ان التدبر تصرف القلب بالنظر في العواقب، اما التفكر فهو تصرف القلب بالنظر في الدلائل) ، وهذا الأخير هو الذي ينطبق على الاجتهاد المبحوث لأنه(استفراغ الوسع في استنباط الاحكام الشرعية الفرعية عن ادلتها التفصيلية) هذا في الفقه، وكذلك في الاصول وغيرها مع حذف الفرعية مع بعض التعديل أيضاً .
فحسب كلام (الطوسي) فان التدبر مباين للاجتهاد،لأن التدبر هو ان تنظر في دُبُر الشيء، اي النظر الى عواقب الامر،فهو أجنبي عن بحثنا وهو بحث الاجتهاد الذي هو بحث عن الدلائل، وعلى هذا فان قوله (ويل لمنلاكها بين لحييه ثم لم يتدبرها) يعني لم ينظر إلى نتائجها وعواقبها وثمراتها ومسببَّاتها واثارها، ولا ربط له ببحث الاجتهاد – مورد البحث، نبحثه وهو انه هل يجب الاجتهاد في اصول الدين اي النظر للدلائل او لا؟هذا حسب ما انتخبه الطوسي في الفرق بين الامرين، وبقي الرأيان الاخران، والذي ارجحه ان التفكر اعم مطلقا من التدبر فالروايةتدل على وجوب التدبر، ولا تكون دليلا على وجوب الاجتهاد وسيأتي البحث عن ذلك ان شاء الله
وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
ضرورة تخصيص كتاب فقهي عن القرآن الكريم
(مما يؤسف له ان (التدبر في القران الكريم) عالم يبحث فقهياً بكافة أبعاده وجوانبه ومسائله رغم وجود آيات عديدة - بغض النظر عن هذه الرواية ونظائرها - تدعو إلى التدبر وتؤكد عليه، كقوله تعالى: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) وقوله تعالى: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) وقوله تعالى: ( كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ) والمستفاد من هذه الآية أن العلة الغائية من القران الكريم هي (التدبر)، لكن مع ذلك وبحسب التتبع الناقص للعبد الفقير ، فانه في العديد من الموسوعات الفقهية والتفسيرية كجواهر الكلام وفقه الصادق وتفسير التبيان ومجمع البيان والميزان لا تجد بحثا عن (التدبر) من حيث حكمه الشرعي وهل هو واجب او مستحب؟ واذا كان واجبا فبأي نحو من انحاء الوجوب ، إلى سائر الاحكام التي ترتبط بالتدبر، وذلك رغم اهمية المسألة و وجود أربع آيات في مادة التدبر بالذات، ثم ما هي نسبة التدبر إلى التفكر المأمور به ايضا في القران الكريم.
وبشكل اعم ينبغي ان يخصص لإحكام القران كتاب فقهي مستقل، كما جعلت كتب للصلاة والصيام والبيع والهبة وغيرها من الكتب الفقهية، من الطهارة إلى الديات، فكان ينبغي ان يكون للقران كتاب فقهي خاص به في الرسائل العملية أو في الموسوعات الفقهية وذلك لان الاحكام الفقهية الفرعية المرتبطة بالكتاب الحكيم كثيرة، إضافة إلى أنه حيث لم يفرز لإحكام القران كتاب، لذا اهملت مسائل كثيرة ومنها هذه المسألة، فان التدبر مثلاً لم يبحث حكمه الشرعي بجوانبه بتفصيل واستيعاب، نعم الوالد في (الفقه) قد تطرق بشكل موجز لهذه المسألة، ولعل فقهاء آخرين تطرقوا لذلك أيضاً مما لم أحط به.
والحاصل أن العديد من المسائل المتعلقة بالقرآن الكريم طرحت في الفقه لكن بشكل مبعثر بدون أن يجمعها جامع مثلا حرمة (مس الكتاب الكريم للمجنب ونظائره) في باب الطهارة، و(التغني بالقران جائز او لا؟) يبحث في باب اخر – كالمكاسب المحرمة - استطرادا و (بيع الكتاب الكريم للكافر يجوز او لا يجوز؟) يبحث في باب اخر، وهكذا، مما بحث فيه بشكل متفرق لكنها ليست مجموعة في كتاب، وهناك مسائل كثيرة غير مطروقة ، مثل مسألة (هل يجوز للمرأة ان تعلم الرجال قراءة القران؟ وهل هو مصداق (فلا يخضعن بالقول) او لا؟). |