بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
كان البحث حول الادلة التي سيقت على وجوب النظر والاستدلال في اصول، ومنها الروايات، وكان منها تلك الروايات التي تدل على وجوب التدبر، وذكرنا ان تمامية الاستدلال بها موقوف على تحقيق معنى التدبر ونسبته مع التفكر والاجتهاد.
1- التدبر مباين للتفكر
وقد تقدم الاحتمال الاول وان النسبة بين التدبر من جهة والتفكر من جهة ثانية وكذلك الاجتهاد هي التباين, وكان هذا هو صريح رأي الشيخ الطوسي في التبيان وتبعه المرحوم الطبرسي في مجمع البيان, واما الوالد في الفقه فقد ذهب إلى التباين لكن بوجه اخر؛ حيث ارتأى بان التفكير هو ملاحظة عمق الشيء واما التدبر فهو ملاحظة ما خلف الشيء وما وراءه ,اذن على حسب رأي الفقه فالتفكر هو ملاحظة عمق الشيء فاذا لاحظ الانسان سطح الجدار مثلاً بنظرة مبدئية اولية فلا يسمى هذا تفكيرا اما اذا تعمق فيه ليكتشف ان الجدار مركب من ذرات وكل ذرة مركبة من الكترون وبروتون وهكذا فهذا تفكير,والحاصل: إن تحليل الشيء إلى أجزائه، نوع تفكير وهذ التفسير يختلف عن تفسير الطوسي حيث ارتأى ما خلاصته ملاحظة دلائل الشيء(تصرف القلب بالنظر في الدلائل), وعلى اي تقدير فأن هذا الرأي نتيجته ان التفكير مباين للتدبر.
هذا هو الاحتمال والرأي الاول وعلى هذا الرأي فأن ادلة التدبر لا تفي بايجاب الاجتهاد لأن الاجتهاد يعني البحث عن الدلائل(استفراغ الوسع في الوصول إلى الحكم الشرعي الاصلي في الاصول ، او الفرعي في الفقه عن ادلتها التفصيلية،واما في العقائد اذ لا حكم شرعي هنالك فالاجتهاد هو استفراغ الوسع في استكشاف الواقع الخارجي, وان الله عادل وواحد مثلا كما هو كذلك إلى غير ذلك ).
2- التدبر مرادف للتفكر
الاحتمال الثاني:ان يقال بان التدبر مرادف للتفكر, ولعل هذا ظاهر لسان العرب ومجمع البحرين واخرين ممن فسروا التدبر بالتفكر قالوا(تدبر الامر التفكر فيه) او (التفكير فيه) فالتفكر على هذا مساو للتدبر ,فلو ذهبنا إلى هذا الرأي فان كافة الادلة التي تدل على وجوب التدبر ومنها الرواية الشريفة المتقدمة(ويل لمن لاكها بين لحييه ثم لم يتدبرها)فهي تدل على وجوب الاجتهاد والتفكر اي البحث عن الادلة والدلائل.
3- التدبر أخص مطلقا
الاحتمال الثالث: يذهب إلى ان التفكر اعم مطلقا من التدبر ,وسيأتي وجهه, وبناءا على هذا فأن ادلة التدبر ايضا ستكون اجنبية عن اثبات وجوب الاجتهاد في اصول الدين؛لأنها – عليه - تدل على وجوب حصة خاصة من التفكير وهي حصة التدبر، وهذه الحصة تختلف عن الاجتهاد المراد اثباته، بالتباين، وان كان الاجتهاد اللغوي اعم من الاجتهاد المصطلح عليه،بعبارة أخرى: الاجتهاد المبحوث عن وجوبه وما هو موضوع لحكمنا,هو خصوص حصة خاصة من التفكير وهو ما يرتبط بالبحث عن الادلة, فاذا كان التدبر اخص مطلقا من التفكر وأريد به النظر لعواقب الأمور، فان ادلة وجوبه لا تتكفل بوجوب الاجتهاد المصطلح الذي هو موضوع الحكم.
تقييم الآراء
لكن الظاهر ان التفسير الثاني(الترادف بين التدبر والتفكر) هوتفسير مسامحي، وتفسير بالأعم، وما اكثر المسامحات في كتب اللغة, حيث ان بناء اللغوي ليس على ذكر الحد التام ولا على الرسم ولا تقيد له بذكر الجنس والفصل بل لا يرى كلمته ذلك، وانما مهمة اللغوي الدلائل والعلائم بان يعطي كلمة توضح معنى الكلمة المجهولة لديك فقد تكون تلك الكلمة المفسرة والموضحة بنحو الجنس والفصل,وقد تكون بنحو الخاصة,وقد تكون بنحو لازم اعم لكنه يفيد تقريب المطلب إلى الذهن,كما في ما اشتهر تسميته بـ(شرح الاسم) معرِّف الوجود شرح الاسم وليس بالحد ولا بالرسم, وكما في قولك سعدانه نبت وهكذا.
اما دليلنا على ان التدبر اخص مطلقا من التفكير:
فهو خصوصية المادة في (التدبر) حيث ان المادة تقيد المراد من التدبر فان المادة هي(الدبر) فالتدبر من باب التفعّل ويعني ان تنظر في دبر الشيء وما وراءه اي نتائجه ومسببَّاته وليس اسبابه التي هي امامه,اذن المادة قيدتنا، فالتدبر يعني ان يبذل الانسان جهده لكي يرى ما خلف الشيء ونتائجه.
اما التفكير فهو اعم ودليلنا الصدق وان الحمل الشائع الصناعي تام في مختلف التقلبات الذهنية المختلفة,اي ان ملاحظة عمق الشيء, كما ذكره الفقه, تفكير ويصدق عليه انه فكَّر,فلو ان شخصا حلل رواية في ما يسمى (فقه الحديث) فهذا تفكير بدون شك إذ حلّلها إلى مفردات ودرس وضع كل مفردةٍ على حِدَة او حلل الكلمة إلى هيئة وعلى ما تدل,والى مادة وعلى ما تدل, فهذا تفكير بلا شك، فالتعمق وتحليل الشيء إلى اجزاءه تفكير، كما ان البحث عن الدلائل تفكير، وهكذا مختلف انواع التصرفات الفكرية,فقد يصل الانسان من الكل إلى الجزء وقد يتحرك من الجزء إلى الكل, وقد يتحرك من الشيء إلى المحيط, وقد يتحرك من المحيط إلى الشيء,فهذه كلها يصدق عليها التفكير, فالإنسان مثلا لو لاحظ شخصا منسوبا إلى المحيط به وكيف هي علاقته وتأثيره وتأثره مع جيرانه واصدقائه ومع اعدائه فحللها فهذا تفكير, مع ان هذا ليس الا ملاحظة الشيء بالنسبة إلى ما هو قسيم له.
والحاصل: ان ملاحظة الشيء بالنسبة إلى ما هو في عرضه وبالقياس إلى ما هو في عمقه وبالقياس إلى ما هو في طولَيه, السابق الذي هو الدلائل واللاحق الذي هو التدبر، هذه كلها يصدق عليها بالحمل الشائع الصناعي تفكير, ولا يصح السلب بدون كلام,فالتفكير اعم من التدبر, وبناءا على هذا فان ادلة التدبر غير وافية بإيجاب التفكير الاجتهادي كما اتضح .
هل التدبر وجوبه نفسي او غيري؟
البحث الاخر:ان التدبر على فرض وجوبه فهل وجوبه نفسي ام هو غيري؟
الوالد في الفقه ذكر شقوقا ثلاثة قد تبدو بادئ النظر محل تأمل, يقول : (وهل يجب التدبر نفسيا اوغيريا او الامر ارشادي ,احتمالات لا يبعد الوجوب كفاية غيريا)اما توضيح هذا التقسيم الثلاثي فهو: ان الوجوب الغيري حسب اختلاف المباني في المقدمة , تارة يكون قسيما للأمر الارشادي او للوجوب الارشادي وتارة يكون قسما,وحيث ان الوالد له مبنى خاص لذا يرى انه قسيم وليس قسما,توضيح ذلك بإيجاز:هل مقدمة الواجب واجبة ام لا؟قولان:
موطن النزاع في وجوب المقدمة
لكن قبل ذلك لابد ان نحلل ما هو موطن النزاع ومعنى الوجوب المتنازع فيه,وهو سيحدد ان الوجوب الغيري قسم من الارشادي او قسيم له.
الاحتمال الاول في معنى الوجوبان يكون هو اللابدية العقلية وعليه فمعنى مقدمة الواجب واجبة ام لااي هل لابد منها عقلا للوصول إلى ذيها,وهذا المعنى ليس موطن نقاش اذ الكل مجمع عليه ولأن قوام المقدمية بذلك والا للزم الخلف.
الاحتمال الثاني هو الوجوب الاستقلالي المطلق للمقدمة اي الوجوب الاستقلالي بقول مطلق,وهذا المعنى ليس موطن خلاف إذ لم يقل احد ان مقدمة الواجب واجبة استقلالا بقول مطلق، اي بقطع النظر تماما عن ذيها،بل هذا خلف.
انما موطن النزاع في (الوجوب الاستقلالي التبعي) حسب رأي المحقق القمي في القوانين او في (الوجوب الترشحي التبعي) حسب رأي الميرزاالنائيي الذي يستشكل عل المحقق القمي في مبناه, فموطن النزاع في احد هذين المبنيين,الوجوب الاستقلالي التبعي المزيج منهما او الوجوب الترشحي التبعي.
وسواءً انتخبنا رأي المحقق القمي أمالنائيني، فهنا يجري البحث وان هذا الوجوب الاستقلالي التبعي بتعبير القمي هل هو من صنع الشرع اي بجعله فهو مولوي فهو قسيم للارشادي,وهو ما ذكره الفقه ,او ان هذا الوجوب الاستقلالي التبعي ليس بصنع الشارع ولا بجعله بل لا يمكن له ان يجعله بل هو بكشف العقل او بحكمه فهو على هذا قسم من الارشادي,فحسب هذين المبنيين يكون الوجوب المقدمي اما ارشاديا واما مولويا,والوالد يرى ان الوجوب المقدمي وجوب شرعي مولوي يترتب عليه الثواب كما انه يوجب القرب، وللحديث صلة.
وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين |