• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : الظن (1444هـ) .
              • الموضوع : 184- تحقيق أن العلم عن تقليد ضروري .

184- تحقيق أن العلم عن تقليد ضروري

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

(184)

الملخص

سبق أنّ عضد الدين الإيجي أشكل على حصول العلم من التقليد بأنه إما نظري وإما ضروري وكلاهما منتفٍ فليس الحاصل من التقليد علماً أبداً قال: (ثالثها: أن التقليد لو حصّل العلم فالعلم بأنه صادق فيما أخبر به إما أن يكون ضروريًا أو نظريًا لا سبيل إلى الأول بالضرورة وإذا كان نظريًا فلا بد له من دليل والمفروض أنه لا دليل إذ لو علم صدقه بدليل لم يبق تقليد)([1]) وسبقت أجوبة عن ذلك ونضيف:

أولاً: قسمة العلم إلى ضروري ونظري ليست بحاصرة، فانه مجرد استقراء وهو لا يفيد الحصر، والعلم عن تقليد يصلح مثالاً للقسيم الثالث فانه ليس بضروري (على ما قالوه) وليس بنظري إذ لم يحصل من الكسب والاستدلال والنظر وترتيب المقدمات المعلومة للوصول إلى مجهول، بعبارة أخرى: العلم عن تقليد ليس بضروري لأنه ليس حاصلاً للنفس بنفسه (كالوجدانيات) ولا بتوسط حس (كالمشاهدات) ولا كان بقياس خفي، ولا هو بنظري: إذ لا يتوقف على استدلال ليكون نظرياً. وقد مضى ما يوضحه وسيأتي مزيد.

دلالة الحصر ال عقلي في الضروري والنظري

ثانياً: سلّمنا أن العلم إما ضروري أو نظري ولا ثالث لهما، لكن العلم عن تقليد ضروري، لوجه آخر غير الوجوه السابقة، وهو أن المنطقيين صرحوا بأن العلم إما نظري وهو ما حصل من الكسب والنظر والاستدلال، وإما ضروري وهو غيره، أي ما حصل من غير النظر سواء أكان حساً أم حدساً أم تواتراً أم غيرها، فالعلم عن تقليد مندرج في الضروري، وإن لم يذكروه من أقسامه، فانه حاصل من غير النظر قال في الرسالة الشمسية: (وفيه نظر([2]): لجواز أن يكون الشيء بديهياً ومجهولاً لنا، فإنّ البديهي وإن لم يتوقف حصوله على نظر وكسب، لكن يمكن أن يتوقف حصوله على شيء آخر – من توجّه العقل إليه أو الإحساس به أو الحدس أو التجربة أو غير ذلك – فما لم يحصل ذلك الشيء الموقوف عليه لم يحصل البديهي، فالبداهة لا تستلزم الحصول)([3]).

أقول: يشير بقوله: (مِن توجه العقل إليه) إلى الأوليات (إذ يحصل العلم بها من تصور الطرفين أي المحكوم به والمحكوم عليه مع توجه النفس إلى النسبة بينهما) وتقرب منها الفطريات وهي التي سميت بقضايا قياساتها معها، وبقوله (أو الإحساس به) إلى المشاهدات والوجدانيات المسماة مجموعاً بالحسيات، وبقوله: (أو الحدس) إلى الحدسيات وبقوله (أو التجربة) إلى المجرّبات، وبقوله (أو غير ذلك) إلى كل ما حصل العلم به من غير كسب فيشمل العلم عن تقليد كما يشمل المتواترات.

والوجه في هذا التقسيم الحاصر (إما أن يحصل من كسب ونظر، أو لا) الذي يدرج كل ما حصل لا بالنظر في الضروري، هو أن المنطقي إنما يهمه عصمة الفكر عن الخطأ في الاستدلال من حيث العلّة الصورية، ولذا فانه إنما يبحث عن (الاستدلال والنظر) وما حصل منه كي يضع له ضوابط كشروط الأشكال الأربعة وعكس النقيض والمستوي... إلخ، وفي المقابل فان مطلق العلم الحاصل لا عن نظر، من أي طريق حصل ليس شأنه، لذا أدرج كافة ما لم يحصل من العلوم عن نظر في الضروري، لأنها ليست شأنه بل شأن غيره فالمشاهدات مثلاً كشفُ صحتها من سقهمها شأنُ الطبيب والفيزياوي، والمتواترات شأن الفيلسوف أو عالم الاجتماع، والحدسيات شأن عالم المخ والأعصاب مثلاً ليكتشف أنه مصاب بالهلوسة أو الماليخوليا لتكون حدسياته باطلة، أو لا... وهكذا.

التفصيل: ضروري  لشخص أو في حالة، نظري لآخر أو في حالة أخرى

ثالثاً: وقد يقال: الحق هو التفصيل وأن القضية الواحدة قد تكون ضرورية لشخص أو في حالة، ونظرية لشخص أو في حالة أخرى، خلافاً لما يتوهمه غالب الطلبة من أن القضية إما نظرية بقول مطلق أو ضرورية بقول مطلق.

وما اخترناه هو ما صرح به العديد من المنطقيين:

قال في نقد الآراء المنطقية: (خامساً: انَّ العلم قد يكون بديهياً بالنسبة إلى شخص ونظرياً بالنسبة إلى آخر كحدوث العالم فقد دخل في تعريف البديهي ما هو نظري وبالعكس – وجوابه – إن البداهة والنظرية من الأمور الاعتبارية فهي تختلف باختلاف الاعتبارات والإضافات وقد تقرر في محله أن قيد الحيثية معتبر في تعريف الأمور الاعتبارية وإن لم يذكر فيه، كيف والعلوم الكسبية كلها تحصل لصاحب القوة القدسية بلا نظر فيصدق عليها التعريف للبديهي، وحينئذٍ فلا يبقى شيء من العلوم نظرياً لو تم ذلك)([4]).

وقال في المنطق: (ولأجل هذا قالوا: إن قضية واحدة قد تكون بديهية عند شخص نظرية عند شخص آخر. وليس ذلك إلا لأن الأول عنده من قوة الحدس ما يستغني به عن النظر والكسب، أي ما يستغني به عن الحركتين الأوليين، دون الشخص الثاني، فإنه يحتاج إلى هذه الحركات لتحصل العلوم بعد معرفة نوع المشكل)([5]).

ويوضحه المثال فأن هذه القضية (كل ممكن محتاج إلى مؤثر، لإمكانه) قد تكون نظرية بالنسبة إلى شخص وضرورية بالنسبة إلى شخص آخر:

أما كونها نظرية فلتوقفها على مقدمات نظرية تحتاج إلى إعمال فكر وترتيب مقدمات وذلك لتوقف الحكم بهذه القضية والإذعان بها على:

أ- تصور معنى الممكن، وهو نظري للبعض على الأقل، إذ إما أن يراد به الإمكان الماهوي أو الوجودي، والممكن بالمعنى الأول: هو متساوي النسبة للطرفين (طرفي الوجود والعدم) وبالمعنى الثاني: كون الوجود في حد نفسه رابطاً، أو تعلّقاً أو فقراً محضاً، وكلها تصورات نظرية لغالب الناس.

ب- كما يتوقف الحكم بتلك القضية على التصديق بقضية أخرى نظرية مطلقاً أو لغالب الناس وهي أن (الترجّح بلا مرجّح محال) المتوقف على تصور معنى الترجح وفرقه عن الترجيح، وذلك نظري لكثير من الناس، كما ان (الترجح بلا مرجح محال) نظري لغالبهم إذ يحتاج إلى استدلال عندهم، إذ لو لم يكن محالاً لأمكن القول بأن الممكن لا يحتاج إلى المؤثر نظراً لإمكان ترجح أحد طرفيه.

فارق الحدس عن الفكر

وأما كونها ضرورية للبعض، فذلك فيمن امتلك قوة الحدس، وقد قيل أن الحدس أول درجات الإلهام، فانه ينتقل من تصور تلك القضية إلى الإذعان بها والتصديق دفعةً بها.

وبذلك ظهر أن المقدمات النظرية المطوية التي توجب العلم بالمطلوب النظري، إن أدركها الإنسان بحدس قوي، بحيث حصل الانتقال بحركة واحدة دفعةً، كان من الضروريات، وإلا فمن النظريات، ولذا قال في المنطق: (نعم من له قوة الحدس يستغني عن الحركتين الأوليين، وإنما ينتقل رأساً بحركة واحدة من المعلومات إلى المجهول. وهذا معنى (الحدس)، فلذلك يكون صاحب الحدس القوي أسرع تلقياً للمعارف والعلوم، بل هو من نوع الإلهام وأول درجاته. ولذلك أيضاً جعلوا القضايا (الحدسيات) من أقسام البديهيات، لأنها تحصل بحركة واحدة مفاجئة من المعلوم إلى المجهول عند مواجهة المشكل، من دون كسب وسعي فكري، فلم يحتج إلى معرفة نوع المشكل)([6]).

وقال في نقد الآراء المنطقية: (وأما الحدس فانه لا يوجد فيه هذا الترتيب بين المعلومات بل هو الانتقال الدفعي من المعلومات إلى المجهولات بمعنى انّه ليس فيه قصد توجه النفس لغرض تحصيل المجهول. إن قلت: إذا كان النظر عبارة عن هذين الحركتين فكيف يعرَّف بالترتيب مع أنَّ الترتيب يكون لازماً للحركة الثانية. قلنا: نعم والقدماء كانوا يعرِّفونه بالحركتين المذكورتين ولكن المتأخرين عدلوا عن ذلك فعرَّفوه بالترتيب الذي هو لازم بحسب الوجود للحركتين المذكورتين دون القصد المذكور إذ لا يحمل عليهما وهما لا يحملان عليه حتى يقال: انّه تعريف بالخاصة، ولعل الحق مع المتقدمين إذ إن الحركة الأولى لو تحققت بدون الثانية كما قد يتفق ذلك يلزم أن يكون الشيء بدهياً لعدم احتياجه إلى النظر الذي هو الترتيب وهو باطل إذ يلزمه أن يرتفع الأمان من البديهيات لكثرة الخطأ في البديهي على هذا التقدير لما عرفت من كثرة الخطأ في الحركة الأولى)([7]).

وبذلك ظهر وجه التفصيل في ما نقله الشريف الجرجاني ووجه الإشكال عليه قال: (وذلك لأنّ الحكم قد يكون غير محتاج إلى نظر، ويكون تصوّر المحكوم عليه والمحكوم به محتاجاً إليه، ومثل هذا التصديق يسمّى بديهياً؛ كالحكم بأنّ الممكن محتاج إلى المؤثّر لإمكانه، مع أنّه يصدق عليه أنّه يتوقف على نظر، فيدخل في تعريف النظري ويخرج عن تعريف البديهي، فيبطل التعريفان طرداً وعكساً)([8]) فتدبر.

ومن هنا يظهر أن العلم الحاصل من تقليد، قد يكون نظرياً لبعض الناس وضرورياً للبعض الآخر بحسب الحدس وغيره، كما سيأتي بيانه.

وسيظهر أن التقليد عن علم من مصاديق ذلك، فتدبر.

*              *              *

- بيّن وجه كون حصر البديهيات في الستة استقرائياً لا عقلياً حاصراً.

- عرّف  الحدس واذكر فرقه عن الفكر.

 

وصلى الله على محمد واله ال طاهرين

قال الإمام علي الهادي (عليه السلام): ((مَنْ أَرْضَى الْخَالِقَ لَمْ يُبَالِ بِسَخَطِ الْمَخْلُوقِ، وَمَنْ أَسْخَطَ الْخَالِقَ فَقَمَنٌ([9])‌ أَنْ يُسَلِّطَ اللَّهُ عَلَيْهِ سَخَطَ الْمَخْلُوقِ)) (الكافي: ج1 ص138).

---------------------------------------

([1]) عضد الدين الإيجي، كتاب شرح العضد على مختصر المنتهى الأصولي، دار الكتب العلمية ـ بيروت، ج3 ص631.

([2]) هذا النظر وارد على ظاهر هذه العبارة وإن كان المصنّف قد فسّرها في شرح الكشف بعدم الاحتياج إلى النظر. قال بعض الأفاضل في توجيه هذا التفسير: "يعني لما كان شيء من الأشياء مجهولاً لنا جهلاً محوجاً إلى نظر، فكان ما لا يحتاج إلى نظر معلوماً لنا" – فتأمل (شريف).

([3]) قطب الدين محمد بن محمد الرازي، تحرير القواعد المنطقية في شرح الرسالة الشمسية، منشورات بيدار ـ قم، ص45-46.

([4]) الشيخ علي كاشف الغطاء، نقد الآراء المنطقية وحل مشكلاتها، منشورات آفرند ـ قم، ص81-82.

([5]) الشيخ محمد رضا المظفر، المنطق، مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم، ص26.

([6]) المصدر: ص25.

([7]) الشيخ علي كاشف الغطاء، نقد الآراء المنطقية وحل مشكلاتها، منشورات آفرند ـ قم، ص89-90.

([8]) قطب الدين محمد بن محمد الرازي، تحرير القواعد المنطقية في شرح الرسالة الشمسية، منشورات بيدار ـ قم، ص44.

([9]) القمن: الخليق والجدير.

 

 


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=4459
  • تاريخ إضافة الموضوع : الأحد 6 رجب 1444هــ
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 02 / 22