• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : الظن (1444هـ) .
              • الموضوع : 186- تحديد المراد من (العلم عن تقليد) والإجابة عن إشكالات .

186- تحديد المراد من (العلم عن تقليد) والإجابة عن إشكالات

بسم  الله ا  لرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

(186)

إشكالات وأج وبة

سبق أنّ المختار أن (العلم عن تقليد) علمٌ ومعرفةٌ بدليل صحة الحمل وعدم صحة السلب وغير ذلك، فتشمله الآيات والروايات الدالة على وجوب العلم والمعرفة والإقرار والشهادة والإسلام والإيمان... إلخ، وعلى مدعي لزوم العلم عن طريق خاص، الاجتهاد مثلاً، أن يقيم الدليل، وستأتي أدلتهم ومناقشاتها.

ولكي يرتفع اللبس عن موضوع البحث والدليل عليه، لا بد من الإجابة عن الأسئلة والإشكالات التي أوردها عدد من الطلاب الكرام، إذ بالجواب عنها يتم تصور الموضوع والإذعان، فيما نرى، بالدليل، فلا يبقى مجال للترديد ظاهراً.

التقليد ليس  علماً، لكنه قد يكون طريقاً إليه

فقد قيل: (ربما هذا التمثيل يقرب المقصود من أن التقليد نفسه ليس علماً، لنفترض أن هناك أعمى يقصد مكاناً معيناً وهو لا يعرف الطريق فلو سلم يده بيد بصير فسار به في الطريق فقد قلد الأعمى في المسير، البصيرَ وكما نرى فانه لا يحصل له بذلك العلم بالطريق، لا بالمعلوم بالذات ولا المعلوم بالعرض)([1])

والجواب: أولاً: ليس التقليد علماً دون شك ولم يكن ذلك هو المدعى، كما أن الاجتهاد ليس علماً إذ الاجتهاد لغةً بذل الجهد (وفي المقام: لاستنباط الحكم الشرعي) واصطلاحاً: الملكة التي يقتدر بها على استنباط الأحكام الكلية من الأدلة الشرعية، ولا شيء منهما بعلم كما هو ظاهر، وإنما الكلام عن (العلم عن تقليد([2])) فهو كالكلام عن (العلم عن اجتهاد) كما ان الكلام عن (الظن عن تقليد([3])) هو كالكلام (الظن عن اجتهاد) فكل من الاجتهاد والتقليد طريق إلى الظن أو العلم، فمورد الكلام هو أن التقليد لو أورث العلم فهل هذا العلم مجزى ومبرئ للذمة في أصول الدين، كما هو مجزئ ومبرئ للذمة في الفروع؟ أم لا بد لمن أورثه التقليدُ العلمَ بالواقع أن يجتهد أيضاً، ولا يجزؤه هذا العلم بدعوى وجوبٍ آخر للنظر بنحو الموضوعية، ودعوى انه لا بد للمجتهد أن يرشد العامي العالم بأن الله واحد، على الفرض، عن تقليد إلى أنه لا يكفيك هذا العلم بل لا بد لك من النظر ومن إقامة الأدلة على ما علمته، بوجوب استقلالي؟([4])

الهداية قسمان، و قول المجتهد مرآة للمقلد يرى بها الواقع

ثانياً: الهداية قسمان: إراءة الطريق والإيصال للمطلوب، وليس المقصود من (العلم عن تقليد) ما فرض في السؤال من (لو سلّم يده...) فانه لا علم له حينئذٍ بالبداهة بل ولا ظن له بالواقع إذ لم يخبره به وربما حتى لا وهم له أو احتمال، أي ليس المقصود ما يناظر الإيصال للمقصود بل المقصود ما يناظر إراءة الطريق، والمطابق للمدعى: ماذا إذا سأل الأعمى البصيرَ عن الطريق فقال له انه إلى جهة اليمين، فلو فرضنا حصول القطع للأعمى بذلك وفرضنا مطابقة خبره للواقع، فانه علم دون شك وإن حصل عن تقليد.

بعبارة أخرى: العلم تارة يحصل بالمباشرة وأخرى بالواسطة.

بعبارة ثالثة: العلم أحياناً يكون عبر المرآة وأخرى من دونها، فالمجتهد الذي وصل إلى العلم عبر الاستدلال والاجتهاد عالم لا بواسطة (وإن كان علمه بواسطة العلّة المعدة وهي الاجتهاد) والمقلد الذي قطع من كلام هذا المجتهد بما وصل إليه (كما لو قطع من كلام مقلَّده أن الله واحد وأن الإمام علي (عليه السلام) هو الإمام الأول وأن الأئمة الأربعة عشر (عليهم السلام) معصومون) عالم بتلك الحقائق عبر مرآة المجتهد.

بعبارة رابعة: علم المجتهد حاصل عن اجتهاده وعلم المقلد له حاصل له عن مرآة مجتهده فكما أن الذي يبصر الشجرة مباشرة بعينه المجردة عالم بها، كذلك الذي يبصرها عبر المرآة عالم بها.

وبذلك ظهر الجواب عن (لنفرض أننا أمام مسألة جديدة لا نعرف حكمها مثلاً حكم التعامل بالعملات الإلكترونية فانه في البدء تعرض للشخص حالة الشك، ثم ان المجتهد ينظر في الأدلة فمن خلال النظر في الأدلة يحصل له العلم بالحكم (مثلاً الجواز أو عدم الجواز) فالنظر هنا صار طريقاً لتحصيل العلم، فهل التقليد طريق للعلم؟).

إذ لا ريب انه طريق مرآتي للعلم، ويوضحه: ان المجتهد لو أراد استنباط حكم الطلاق ثلاثا، فبحث عن الروايات فوجد أن (أشهر الروايتين عملاً، بل قيل وروايةً، ففي‌ صحيحي زرارة عن أحدهما عليهما ‌السلام، واللفظ للأول منهما ((سَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ‌ امْرَأَتَهُ ثَلَاثاً فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ أَوْ أَكْثَرَ وَهِيَ طَاهِرٌ؟ قَالَ: هِيَ وَاحِدَةٌ((([5]))([6]) فانه قد يظن حينئذٍ بالحكم الشرعي وقد يقطع به، والعلّة المعدّة للظن اجتهاده، فكذلك حال مقلده لو سأله عن الحكم الشرعي للطلاق ثلاثاً فقال إن الحكم الشرعي هو أنها تقع واحدة، فلو ظن به المقلد أو قطع، كان ظاناً أو عالماً بالحكم الشرعي عبر مرآة قول مجتهده، وأوضح منه ما لو قطع المجتهد أن حكم الشك بين الثلاث والأربع هو البناء على الأربع والصلاة ركعة من قيام احتياطاً أو ركعتين من جلوس، فإذا أخبر به مقلِّده فقطع بالحكم، كان اجتهاده طريقاً إلى علمه هو بالحكم، وكان إخباره لمقلده بذلك طريقاً إلى علمه به، ولا فرق بين العلمين من حيث ذاتهما لفرض مطابقة كليهما للواقع، وقد سبق أن العلّة التامة فكيف بالعلّة المعدّة للشيء لا تدخل في حقيقته وماهيته إذ العلة الفاعلية كالعلة الغائية خارجة عن حقيقة الشيء، وعليه: فالعلم علم من أي طريق حصل بل حتى لو حصل من طيران الغراب وجريان الميزاب فانه علم مادام مطابقاً للواقع.

تحقيقُ حقيق ةِ العلم، سابق رتبة على البحث

وقيل: (وقد يقال: يجب قبل ذلك أن يحدد مقصودنا من العلم فهل هو الانكشاف أو الإذعان بالنسبة).

الجواب:  العلم: القطع المطابق للواقع، ولا تهمنا حقيقته

والجواب أولاً: المراد بالعلم: (القطع المطابق للواقع) ولا يهم بعد ذلك كون حقيقته ماذا؟ وأنها كيفية نفسية أو إضافة أو انفعال أو إضافة إشراقية أو غير ذلك؟ أو انكشاف أو إذعان بالنسبة، كما قال المعترض، فانه على كل الأقوال في حقيقته فانه قطع (أي جزم) مطابق للواقع، والمجتهد ومقلده في ذلك سيان، على فرض إصابة رأيه للواقع.

ثانياً: ومع قطع النظر عن ذلك، فلنفرض أن العلم انكشاف، فإن المجتهد انكشف له الواقع (على فرض الإصابة) عبر آلة الاجتهاد ومقلده انكشف له الواقع عبر مرآة اجتهاد مقلَّده، كما سبق، وكذلك الإذعان بالنسبة (على انه إيمان وليس علماً) فانه قد يذعن بالنسبة عن اجتهاد أو تقليد.

والمقصود من العل م عن تقليد، تقليد المجتهد الجامع للشرائط

بقي: أن المقصود من (العلم عن تقليد) هو العلم عن تقليد المجتهد الجامع للشرائط، فلا يعترض بأن التقليد الأعمى (كتقليد الجاهل لجاهل مثله والابن العامي لأبيه العامي، كما كان شأن المشركين) لا انكشاف فيه ولا مطابقة، إذ نقول:

أنّ فرض الكلام ليس في التقليد الأعمى بل إنما هو([7]) فيما لو كان قطعه مطابقاً للواقع (كما لو اعتقد بوحدانية الله تعالى وقطع بها عن قول أبيه العامي مثله) فإنه علم دون شك، ولا يختلف في ذاته عما لو قطع بالواقع عن اجتهاد، غاية الأمر أن يكون النظر واجباً مستقلاً آخر، وإلا فانه مادام قد علم بالواقع فلا تكليف له تجاهه أكثر من ذلك مادام المستند هو أدلة وجوب المعرفة والعلم، نعم لو وجد دليل على وجوب النظر بنحو الموضوعية وجب، لكنه واجب آخر يحتاج إلى دليل آخر، ويرشد إليه أن الشيخ الطوسي اعتبره واجباً معفواً عن التارك له مادام مقلداً للحق، كما في العدة([8]).

بعبارة أخرى: يكفي أن نلتزم بكون (العلم عن تقليدِ الجامعِ للشرائط) علماً، مبرءاً للذمة ومجزءاً وحجة، خلافاً للمشهور، فإن هذا هو مورد البحث والأخذ والرد بين المشهور وغيرهم، وليس تقليد غير الجامع للشرائط، ويدل على ذلك برهان مقابلتهم بين التقليد في الأصول والتقليد في الفروع، وهو ما أشار إليه في القوانين، قال: (والظّاهر أنّ كلمات الأصوليّين إنّما هي في الأوّلين، وأنّ مرادهم بالتّقليد هو تقليد المجتهد الكامل، نظير التّقليد في الفروع المتداول بينهم المصطلح عندهم، لا مجرّد الأخذ بقول الغير وإن لم يكن مجتهداً، وهذا مختصّ بالّذين زالت غفلتهم وحصل لهم العلم بأنّ اللّازم على المكلّف إمّا الاجتهاد أو التّقليد)([9]) (فالظّاهر أنّ ذلك خارج عن مطرح النّظر لهم في هذا المقام، لأنّهم يقولون:

يجوز التّقليد في الفروع ولا يجوز في الأصول، وموضوع المسألة واحد)([10]).

وسيأتي كلامه (قدس سره) مع بعض التتمات فانتظر ثم سنتطرق لقول المنطقيين بأن علم المقلد ليس يقيناً؛ لأنه بلا جزم فانتظر أيضاً([11]).

*              *              *

قم باستطلاع ميداني لتكتشف بنفسك أن المقلدين كثيراً ما يقطعون من قول مجتهدهم بالحكم الشرعي (أو غيره) وليس انهم يظنون فقط (أي أنهم على قسمين).

وأبحث عن كون بعضهم في بعض تلك الصور مما كان مجتهدهم ظاناً بالحكم ظناً معتبراً لكن المقلد، ممن يحصل له من قوله القطع به، وأجب عن شبهة استحالة زيادة الفرع على الأصل حينئذٍ!

وصلى الله على محمد واله الطاهرين


قال رسول الله (صلى الله عليه واله): ((ثَلَاثٌ مَنْ لَمْ يَكُنَّ فِيهِ لَمْ يَتِمَّ لَهُ عَمَلٌ: وَرَعٌ يَحْجُزُهُ عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ، وَخُلُقٌ يُدَارِي بِهِ النَّاسَ، وَحِلْمٌ يَرُدُّ بِهِ جَهْلَ الْجَاهِلِ))

(الكافي: ج2 ص116).

-----------------------------------------

([1]) المعلوم بالذات هو الصورة الذهنية فانها معلومة للإنسان بنفسها وبحضورها لديه، لا بصورة أخرى؛ وإلا للزم التسلسل، والمعلوم بالعرض هو الأعيان الخارجية إذ يعلم بها الإنسان عبر صورها المنطبعة في الذهن.

([2]) أي العلم الحاصل من التقليد.

([3]) أي الظن الحاصل من التقليد.

([4]) إذ لو كان طريقياً، لكان إيجابه في العالم لغواً أو طلباً للحاصل.

([5]) الشيخ الكليني، الكافي، ج6 ص70-70.

([6]) جواهر الكلام: ج33 ص146-147.

([7]) بالأساس، وسيأتي ما يلحق به.

([8]) الرسائل: ج1 ص555 وعدة الأصول: 1/132 و2/731.

([9]) الميرزا أبو القاسم القمي، القوانين المحكمة في الأصول المتقنة، دار المحجة البيضاء ـ بيروت، ج4 ص358-359.

([10]) المصدر: ص359.

([11]) وسنبحث عن معنى التوقف في تعريف النظر بـ(ما يتوقف على نظر وكسب).

 


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=4465
  • تاريخ إضافة الموضوع : الثلاثاء 8 رجب 1444هــ
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 02 / 22