بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(187)
المنطقيون: العلم عن تقليد ليس بيقين لإمكان زواله
سبق أنّ المختار هو أن المعرفة الواجبة في أصول الدين أعم من العلم عن اجتهاد والعلم عن تقليد والظن المعتبر، وقد مضت بعض الأدلة على دعوى شمولها للعلم عن تقليد وبعض الإشكالات والأجوبة عليها، ونضيف: أُشكل على ذلك بما قاله المنطقيون من أن العلم عن تقليد ليس من اليقينيات لأنه يمكن زواله بزوال اعتقاده بوثاقة مقلَّده أو عدالته أو اجتهاده وبتغير نظر المجتهد نفسه.. قال في المنطق: (والمقصود باليقين هنا([1]) هو هذا المعنى الاخير ، فلا يشمل الجهل المركب ولا الظن ولا التقليد وان كان معه جزم.
توضيح ذلك ان اليقين بالمعنى الاخص يتقوم من عنصرين([2]):
(الاول) أن ينضم إلى الاعتقاد بمضمون القضية اعتقاد ثان ـ إما بالفعل أو بالقوة القريبة من الفعل ـ أن ذلك المعتقد به لا يمكن نقضه. وهذا الاعتقاد الثاني هو المقوّم لكون الاعتقاد جازماً أي اليقين بالمعنى الأعم.
و(الثاني) أن يكون هذا الاعتقاد الثاني لا يمكن زواله. وإنما يكون كذلك إذا كان مسبباً عن علته الخاصة الموجبة له فلا يمكن انفكاكه عنها.
وبهذا يفترق عن التقليد لأنه إن([3]) كان معه اعتقاد ثان فان هذا الاعتقاد يمكن زواله، لأنه ليس عن علة توجبه بنفسه، بل إنما هو من جهة التبعية للغير ثقةً به وإيماناً بقوله، فيمكن فرض زواله، فلا تكون مقارنة الاعتقاد الثاني للأول واجبة في نفس الأمر)([4]).
وقال في المنظومة: (وحدّ اليقين وتعريفه وهو القطع وبتٌّ أي اليقين مساوقهما أنّه تصديق جازم مطابق ثبت فباعتبار التصديق لم يشمل الشك والتخييل والتوهم وسائر التصورات وباعتبار الجزم خرج التصديق الظني وباعتبار المطابقة خرج الجهل المركب وباعتبار الثبات التقليد)([5])
وفي الشمسية: (واليقين هو اعتقاد الشيء بأنّه كذا مع اعتقاده بأنّه لا يمكن أن يكون إلا كذا، اعتقاداً مطابقاً لنفس الأمر غير ممكن الزوال. فبالقيد الأول يخرج الظنّ، وبالثاني الجهل المركّب، وبالثالث اعتقاد المقلِّد)([6])
الأجوبة:
وحيث أن هذا الرأي المنطقي هو الأساس، أو الذي يصلح كأساس، لالتزام عدد من الأصوليين بأن العلم عن تقليد ليس معرفة ويقيناً وعلماً لأنه يمكن زواله، لذا كان لا بد من مناقشة هذا الرأي المنطقي، فأقول: لو لم يقصد من الكلام كله والشروط مجرد الاصطلاح؛ فانه بحسب ما اصطلح عليه لكن لا تبنى عليه المسائل النفس أمرية، فانه يمكن مناقشته بوجوه:
اليقين غير الاعتقاد
الأول: أن اليقين غير الاعتقاد، ويكفي قوله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} (سورة النمل: الآية 14) وقد سبق تفصيله وأن النسبة بينهما هي من وجه، فراجع.
اليقين أمر بسيط غير مركب
الثاني: ان قولهم بتركّب، أو تقوّم، اليقين من أمرين (أن ينضم إلى الاعتقاد بمضمون القضية اعتقاد ثان) غير تام فان المستظهر أن اليقين أمر بسيط وهو العلم أو أعلا مراتبه([7]) وإنما يلزمه ما سماه بالاعتقاد الثاني أي يلزمه الاعتقاد بأنه لا يمكن نقضه، أي يلزمه عدم احتمال الخلاف أو هو منتزع عنه، وليس مركباً أو متقوماً من اعتقادين، وذلك نظير الوجوب حيث أن المستظهر أنه أعلى درجات الطلب وليس حقيقة مركبة من الطلب مع المنع من النقيض ليكون المستحب هو الجزء الأول فقط.
بعبارة أخرى: اليقين هو شدة الاعتقاد أو أعلى درجاته كالوجوب الذي هو شدة الطلب، وليس مركباً من اعتقادين، والأصح: انه شدة الانكشاف أو شدة الكاشفية أو ما أشبه وليس شدة الاعتقاد فانه إما معه من وجه كما سبق أو غاية الأمر انه يلزمه.
ما يكون عليه الشيء، لا يدخل في حقيقته
الثالث: ان قوله: (والثاني: أن يكون هذا الاعتقاد الثاني لا يمكن زواله) غير صحيح إذ لا شيء من الحالات المستقبلية بداخلةٍ في حقيقة الشيء، فالعلم علمٌ إن كان ثمَّتَ جزمٌ مطابق للواقع وأما وجوده في مرحلة علته المحدثة وأنه كيف سيكون في المستقبل وانه سيبقى على ما هو عليه أو لا، فليس مقوّماً له.
بعبارة أخرى : قوام الشيء بفعليته لا بشأنيته، ألا ترى أن الشجاع حقاً شجاع وكذا الجبان حقاً جبان، والكريم حقاً كريم والبخيل بخيل مع قطع النظر عن أنه كيف سيكون في المستقبل وانه سينقلب أو لا، ولذا آتى الله تعالى بلعم بن باعورا الاسم الأعظم لأنه، بالفعل، وصل إلى أعلى درجات الإيمان ولو كان وصفه المستقبلي دخيلاً في حقيقة إيمانه لما آتاه الله اسمه الأعظم قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} (سورة الأعراف: الآية 175) فلاحظ دلالة مفردة {فَانسَلَخَ}.
والحاصل: سواء ءأمكن زواله أو لا فانه هو هو وليس غيره.
الرابع: قوله: (لأنه ليس عن علة توجبه بنفسه) غير صحيح، حيث فرّق به بين الاجتهاد والتقليد، إذ لا شيء من النظر والاجتهاد، كالتقليد، علةً موجبة للاعتقاد والعلم بنفسه؛ لبداهة أن النظر والاجتهاد علة معدة لا أكثر وليس علة تامة.
بعبارة أخرى: المقصود من (بنفسه) إن أريد العلية التامة وذاتي باب البرهان فخطأ إذ:
ذاتيّ شيء لم يكن معلّلا وكان ما يسبقه تعقّلا
وكان أيضاً بيّن الثبوت له وعرضيّه اعرفن مقابله([8])
بعبارة أخرى: أدل دليل على عدم ذاتيته له ولا علّية ذاك له، تخلّفه، إذ ما أكثر ما ينظر ويتفكر ويجتهد في الأدلة لكنه لا يحصل له العلم بل ولا، أحياناً، الظن بالمستدلِّ عل يه.
الاجتهاد والتقليد سيّان في إمكان فرض الزوال، وفي فعليته
الخامس: أن قوله (فيمكن فرض زواله) يقلب عليه إذ العلم الحاصل من اجتهاد أيضاً يمكن فرض زواله، بتغير اجتهاده، أو بعروض شبهة.
بعبارة أخرى: لا يخلو إما أن يقال: بأن العلم عن اجتهاد لا يمكن فرض زواله، عكس التقليد أو يقال: انه لا يزول فعلاً، والفعلية أعم من الفرض، إذ قد لا يزول شيء ولا يفارق شيء شيئاً فعلياً لكنه يمكن فرض زواله ككافة الأعراض المفارقة وإن أتصف بها الشخص طوال عمره كالشجاعة والبياض عكس الفردية والزوجية.
أما الأول: فقد سبق أن كليهما (العلم عن اجتهاد أو تقليد) يمكن فرض زواله، بل يدل عليه ما يأتي أيضاً.
وأما الثاني: فيكذبه الوجدان، إذ كما قد يزول القطع الحاصل عن تقليد، بزوال عدالة مقلّده أو وثاقته، أو اجتهاده أو بتغير رأيه، يمكن أن يزول نظر المجتهد بأجالة الفكر مرة أخرى وتدبره في المسألة أو لدى طرح إشكال جديد عليه أو اكتشافه لوجه جديد أو دليل مستجد.
الكيل بمكيالين في الضرورة بشرط المحمول
السادس: ان كليهما إن لوحظ بنحو الضرورة بشرط المحمول، لم يمكن زواله، وإلا أمكن زوال كل منهما.
بعبارة أخرى: لا يصح الكيل بمكيالين: بأن يعتبر العلم عن اجتهاد مما لا يمكن فرض زواله؛ إذ قد اعتبر العلم عن اجتهاد بنحو الضرورة بشرط المحمول أو الضرورة بشرط ثبات العلة المعدة أي بشرط عدم تغير اجتهاده وعدم حدوث مستجد من دليل أو شبهة، بينما اعتبر العلم عن تقليد لا بنحو الضرورة بشطر ثبات العلة المعدة (أو المحمول) مع أن وِزانهما واحد. ويوضحه أكثر ان قوله: (وإنما يكون كذلك إذا كان مسبباً عن علته الخاصة الموجبة له فلا يمكن انفكاكه عنها) جارٍ في العلم عن تقليد تماماً فانه مسبب عن علته الخاصة وهي قول الغير كما ان الاجتهاد مسبب عن علته الخاصة وهو نظره، وحيث كان تقليده له تابعاً لاجتهاده، أي المقلَّد، فكما يمكن زوال هذا بزوال علته، ولا يمكن زواله مع عدم زوالها فكذا حال الآخر. هذا.
هل المراد بـ(يتوقف) الامتناع أو الترتب؟
وقد سبق: أن العلم عن تقليد قد يكون ضرورياً، وقد استدللنا عليه وأجبنا عن الإشكالات عليه بما لعله لا مزيد عليه، ولكن نضيف وجهاً آخر وهو: انهم عرفوا النظري (بالعلم الذي يتوقف على كسب وسعي ونظر) فلا بد أن يسأل عن المراد من التوقف أهو الامتناع أو الترتّب؟
فإن قالوا نقصد به الامتناع، أي أن النظري هو الذي يمتنع أن يحصل بدون كسب وسعي ونظر، ورد عليه النقض بالعلوم النظرية الحاصلة للأنبياء من الوحي، بل والعلوم الحاصلة لكل بشري من الحدس، وقد سبق: أنّ الحدسيات من الضروريات رغم أنها قد تكون متوقفة على مقدمات نظرية لكنه حيث طواها دفعةً واحدة تكون ضرورية، والحاصل: أن النظري إن عُرِّف بما يمتنع أن يحصل من غير نظر نقض بمطلق ما يحصل بإلهام وحدس أو حتى بمنام أو رمل أو اسطرلاب أو حتى بأي طريق غير عقلائي.
وإن قالوا نقصد الترتّب، أي أن النظري هو ما ترتّب بالفعل على نظر وسعي وفكر مع قطع النظر عن الإمكان والامتناع، أفاد المطلوب بأتمّ الوجوه؛ إذ هو ما حققناه من أن النظري لشخص قد يكون ضرورياً لشخص آخر فانه إن حصل له العلم من ترتيب المقدمات كان نظرياً وإن حصل من الحدس (بدون ترتيب) كان ضرورياً وقد سبق بيانه، بل الظاهر ان مبنى المنطقيين عليه فراجع ما سبق، ومما يوضح ما ذكرناه ما جاء في (نقد الآراء المنطقية): ("عرَّفوا النظري بالعلم الذي يتوقف حصوله على نظر وكسب". ويرد عليهم إيرادات خمسة:
أولاً: إنَّ التصورات والتصديقات لا يتوقف حصولها على النظر والكسب لأن صاحب القوة القدسية تكون الأشياء كلها بديهية عنده وكل إنسان يمكنه أن يحصل القوة القدسية بالمجاهدة النفسانية والرياضة القلبية فإذن كل إنسان لا تتوقف تصوُّراته وتصديقاته على النظر لأنه يمكنه أن يحصلها بالقوة القدسية وهي ممكنة له.
- وجوابه- ما عرفته منا من أن المراد بالتوقف هو الترتب لا امتناع الحصول إلا به وهذا المعنى متعارف إرادته من التوقف فإنه يقال: هذا المعلول متوقف على هذه العلة مع أنه له علة أخرى تقوم مقامها)([9]). وللبحث صلة بإذن الله تعالى.
* * *
- اكتب الأجوبة الستة التي ذكرناها وصُغها بعباراتك.
وصلى الله على محمد واله الطاهرين
عن مفضل بن عمر قال: قلا أبو عبد الله (عليه السلام): ))يَا مُفَضَّلُ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْلَمَ إِلَى خَيْرٍ يَصِيرُ الرَّجُلُ أَمْ إِلَى شَرٍّ، انْظُرْ أَيْنَ يَضَعُ مَعْرُوفَهُ، فَإِنْ كَانَ يَضَعُ مَعْرُوفَهُ عِنْدَ أَهْلِهِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ يَصِيرُ إِلَى خَيْرٍ، وَإِنْ كَانَ يَضَعُ مَعْرُوفَهُ عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ {لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} )) (الكافي: ج4 ص31).
-----------------------------------------
([1]) راجع الحاشية : ص ١١١ ، وشرح الشمسية : ص ١٦٦ ، وشرح المنظومة : ص ٨٨ ، والقواعد الجلية : ص ٣٩٤.
([2]) أقول: بل من عناصر ثلاثة:
الأول : اليقين بالمعنى الأعم، وهو الاعتقاد الجازم.
الثاني : كونه مطابقا للواقع ، لا جهلاً مركباً.
الثالث : ثباته وعدم إمكان زواله بأن لا يكون عن تقليد.
وإنما ذهب المصنف إلى تقوّمه من عنصرين، من جهة أن اليقين بالمعنى الأعم عنده هو ما كان مطابقا للواقع، وأن الجهل المركب ليس عنده من العلم. وقد مر ما فيه.
([3]) الظاهر: (وإن كان...).
([4]) الشيخ محمد رضا المظفر، المنطق، مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم، ج1 ص327-328.
([5]) الملا هادي السبزواري، شرح المنظومة، مؤسسة انتشارات دار العلم ـ قم، ص88.
([6]) قطب الدين محمد بن محمد الرازي، تحرير القواعد المنطقية في شرح الرسالة الشمسية، منشورات بيدار ـ قم، ص458.
([7]) بل الاعتقاد أيضاً حقيقة تشكيكية ذات مراتب من اعتقاد قوي وضعيف وما بينهما وأقوى وأضعف.
([8]) الملا هادي السبزواري، منظومة ملا هادي السبزواري، نشر ناب ـ تهران: ج1 ص154.
([9]) الشيخ علي كاشف الغطاء، نقد الآراء المنطقية وحل مشكلاتها، منشورات آفرند ـ قم، ص82-83.
|