بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(191)
ملاحظات أخرى على كلام القوانين وإضافات
قال في القوانين: (وطريقه([1]): أنّ كلّ عاقل يراجع نفسه يرى أنّ عليه نعماء ظاهرة وباطنة، جسميّة وروحانيّة ممّا لا يحصى كثرةً ولا يشكّ ولا يريب أنّها من غيره.
فهذا العاقل إن لم يلتفت إلى منعمه ولم يعترف له بإحسان ولم يذعن بكونه منعماً ولم يتقرّب الى مرضاته، يذمّه العقلاء ويستحسنون سلب تلك النّعمة عنه، وهذا معنى الوجوب العقليّ.
وأيضاً إذا رأى العاقل نفسه مستغرقة بالنّعم العظام، يجوّز أنّ المنعم بها قد أراد منه الشّكر عليها، وإن لم يشكرها يسلبها عنه، فيحصل له خوف العقوبة، ولا أقلّ من سلب تلك النّعم، ودفع الخوف عن النّفس واجب مع القدرة، وهو قادر على ذلك، فلو تركه كان مستحقّا للذّم)([2]).
لا يصح إرجاع وجوب الشكر إلى خوف العقوبة
ولكن قد يورد عليه، إضافة إلى ما سبق، انه ليس من الصحيح إرجاع وجوب شكر النعمة إلى وجوب دفع الخوف عن النفس أو الضرر المحتمل، فلا حاجة لتعليل الأول بالثاني؛ بل لا يصح لو أريد نفي استقلال العقل به بما هو هو، إذ الظاهر أنّ للعقل حكمين مستقلين وانه يحكم بوجوب شكر المنعم بعنوانه، غير منوط ذلك بحكمه الآخر بوجوب دفع الضرر المحتمل؛ ولذا يرى وجوب نصرة من أنقذ الشخص من الموت والدفاع عنه، شكراً لإنعامه عليه، وإن لم يحتمل الضرر من عدم نصرته له.
خمسة أدلة عقلية على وجوب النظر
كما ينبغي إكمال الاستدلال على وجوب النظر، بأنه مما يحكم به العقل لجهات خمس، وليس لجهتي وجوب دفع الضرر المحتمل ووجوب شكر النعمة فقط، إذ ثالث أحكام العقل: وجوب النظر أداءً لحق المولوية فإن المولى بما هو مولى تجب إطاعته وهو المسمى بحق الطاعة، كما تجب معرفته قضاءً لحق المولوية، ورابعها: ما أضفناه في أبحاث سابقة من الاستحقاق الذاتي فانه جل اسمه حتى مع قطع النظر عن كونه مولى لنا ومنعماً علينا وعن انه يحتمل التضرر بترك معرفته وعبادته، يستحق أن يعرف ويعبد [ولكِن وَجَدتُكَ أهلاً لِلعِبادَةِ فَعَبَدتُكَ]([3]) وخامسها: جلب المنفعة البالغة، إذ نرى حكم العقل بوجوبه إذا كانت المنفعة بالغة ولم يكن مزاحم أو مانع، عكس من يرى مجرد حسنه([4]).
وتقريب الاستدلال بالوجوه السابقة: انّ الإنسان يحتمل، على أضعف الوجوه، من ترك النظر تفويته للمنفعة البالغة (المحتملة على أقل التقادير) كما يحتمل تفويته للاستحقاق الذاتي (المحتمل) وتضييعه لحق المولى المحتمل وجوده ومولويته، وقد سبق ان الاحتمال ههنا كافٍ في حكم العقل من غير أن يتوقف على العلم.
الحكام الأربعة بوجوب النظر
ثمّ ان الحاكم بكل تلك الخمسة، حكام أربعة هم العقل والعقلاء والفطرة والشرع، وحكم العقلاء لا يعود بالضرورة إلى حكم العقل إذ قد ينشأ من التواضع لمصالح رأوها أو لعادات وتقاليد أو جرياً للسنة أو شبه ذلك فتأمل. والفطرة غير العقل، شرعاً وعرفاً ودقّةً، فان معادلها وهو الغريزة موجود في الحيوان، عكس العقل، وأما حكم الشرع، فأجنبي عن البحث ههنا إذ البحث ههنا عن الدليل العقلي على وجوب النظر.
العراقي: قاعدة قبح العقاب بلا بيان واردة على الحكم بوجوب الشكر
ولكن قد يعترض على الاستدلال بقاعدة شكر المنعم على وجوب النظر بوجوه:
ومنها: ما (ينسب للمرحوم آغا ضياء العراقي من ورود هذه القاعدة على حكم العقل بوجوب شكر المنعم و وجوب المعرفة)([5]).
المناقشات: 1- حاكمة لا واردة
ويرد عليه: لو صح ما نقل عنه أولاً: فنّياً، انّه لا يصح التعبير بالورود بل غاية الأمر الحكومة إذ لا يعقل معنى محصل لورود قاعدة قبح العقاب بلا بيان على حكم العقل بوجوب شكر المنعم، إذ الورود هو (أن يزيل أحد الدليلين موضوع الدليل الآخر حقيقةً لكن بعناية التعبد)([6]) ومن البديهي أن قبح العقاب بلا بيان لا يزيل موضوع (شكر المنعم واجب) ولا متعلقه فانه لا يزيل الشكر موضوعاً ولا المنعِم متعلَّقاً، بل غاية الأمر حكومة القاعدة على (وجوب شكر المنعم).
2- الصحيح العكس: ورود قاعدة الشكر على قاعدة القبح
ثانياً: ان الصحيح هو ورود قاعدة وجوب شكر المنعم، على قاعدة قبح العقاب بلا بيان، لأن حكم العقل بوجوب شكر المنعم بيانٌ.
بعبارة أخرى: انه إما أن يراد بالبيان في قبح العقاب بلا بيان، البيان العقلي أو يراد البيان الشرعي، أو كلاهما مراد؟ والمستظهر الأخير لأن العقل حجة من باطن، ووجوب شكر المنعم من المستقلات العقلية، وكفى بها بياناً وعلى أي فان البيان الشرعي متحقق ثابت كقوله تعالى: {...أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ... }(سورة لقمان: الآية 14) وقوله جل اسمه: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} (سورة النمل: الآية 19).
والبيان العقلي مسلّم، لما سبق من أن شكر النعمة واجب عقلاً جزماً، بل ان شكر المنعم بالنعم الجسيمة اللامتناهية وإن كان محتملاً، واجب عقلاً ولو تعليقياً بمعنى وجوب الفحص عنه فإن ثبت أنه منعم وجبت معرفته بصفات جماله وجلاله ووجبت إطاعته، وإلا سقط التكليف من باب السالبة بانتفاء الموضوع.
{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ} تعضد (قبح العقاب بلا بيان)
لا يقال: قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} (سورة الإسراء: الآية 15).
الأجوبة: 1- الكلام في الأدلة العقلية
إذ يقال: أولاً: الكلام في الأدلة العقلية، قبل ثبوت الشرع، على وجوب النظر، وانّ وجوب دفع الضرر المحتمل ووجوب شكر النعمة يفيان بالوجوب، فلا يصح الاستدلال بالدليل الشرعي، قبل ثبوت أصل وجود الشارع.
2- القاعدة حول القبح والآية حول الوقوع
ثانياً: الظاهر اختلاف الآية عن القاعدة إذ القاعدة تتكلم عن (القبح) والآية الشريفة تتحدث عن الفعلية والوقوع لا عن القبح، أي ان الله تعالى لا يعذب قبل بعثة الرسل وإبلاغهم الأحكام، على ما بلغ بطريق آخر كالعقل، لا أنه يقبح عليه التعذيب على ما بلغ بغير طريق الرسل.
بعبارة أخرى: ظاهر الآية الامتنان، وهو إنما يكون مع الاستحقاق وإلا فمن دونه لا يعقل الامتنان إذ أي امتنان للمولى على عبده بعدم تعذيبه، مع كون تعذيبه قبيحاً عليه؟.
3- والآية عن عذاب الاستئصال
ثالثاً: وقال عدد من الفقهاء والمفسرين ان الآية إنما تتحدث عن عذاب الاستئصال أو العذاب الدنيوي بقرينة السياق فلاحظ تمام الآيات {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً * وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا * وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} (سورة الإسراء: الآية 15-17)
بشهادة السياق
قال في تفسير الميزان: (ظاهر السياق الجاري في الآية وما يتلوها من الآيات بل هي والآيات السابقة أن يكون المراد بالتعذيب التعذيب الدنيوي بعقوبة الاستئصال، ويؤيده خصوص سياق النفي {وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ} حيث لم يقل: ولسنا معذبين ولا نعذب ولن نعذب بل قال : {وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ} الدال على استمرار النفي في الماضي الظاهر في أنه كانت السنة الإلهية في الأمم الخالية الهالكة جارية على أن لا يعذبهم إلا بعد أن يبعث إليهم رسولا ينذرهم بعذاب الله.
ويؤيده أيضاً أنه تعالى عبر عن هذا المبعوث بالرسول دون النبي فلم يقل حتى نبعث نبياً، وقد تقدم في مباحث النبوة في الجزء الثاني من الكتاب في الفرق بين النبوة والرسالة أن الرسالة منصب خاص إلهي يستعقب الحكم الفصل في الأمة إما بعذاب الاستئصال وإما بالتمتع من الحياة إلى أجل مسمى، قال تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} (يونس: ٤٧) وقال: {قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى} (إبراهيم : ١٠).
فالتعبير بالرسول لإفادة أن المراد نفي التعذيب الدنيوي دون التعذيب الأخروي أو مطلق التعذيب.
فقوله: {وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} كالدفع لما يمكن أن يتوهم من سابق الآيات المنبئة عن لحوق أثر الأعمال بصاحبها وبشارة الصالحين بالأجر الكبير والطالحين بالعذاب الأليم، فيوهم أن تبعات السيئات أعم من العذاب الدنيوي والأخروي سيترتب عليها فيغشى صاحبها من غير قيد وشرط.
فأجيب أن الله سبحانه برحمته الواسعة وعنايته الكاملة لا يعذب الناس بعذاب الاستئصال وهو عذاب الدنيا إلا بعد أن يبعث رسولا ينذرهم به وإن كان له أن يعذبهم به لكنه برحمته ورأفته يبالغ في الموعظة ويتم الحجة بعد الحجة ثم ينزل العقوبة فقوله: {وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} نفي لوقوع العذاب لا لجوازه.
فالآية ـ كما ترى ـ ليست مسوقة لإمضاء حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان بل هي تكشف عن اقتضاء العناية الإلهية أن لا يعذب قوما بعذاب الاستئصال إلا بعد أن يبعث إليهم رسولا فيؤكد لهم الحجة ويقرعهم بالبيان بعد البيان.
وأما النبوة التي يبلغ بها التكاليف ونبين بها الشرائع فهي التي تستقر بها المؤاخذة الإلهية والمغفرة، ويثبت بها الثواب والعقاب الأخرويان فيما لا يتبين فيه الحق والباطل إلا من طريق النبوة كالتكاليف الفرعية، وأما الأصول التي يستقل العقل بإدراكها كالتوحيد والنبوة والمعاد فإنما تلحق آثار قبولها وتبعات ردها الإنسان بالثبوت العقلي من غير توقف على نبوة أو رسالة.
وبالجملة أصول الدين وهي التي يستقل العقل ببيانها ويتفرع عليها قبول الفروع التي تتضمنها الدعوة النبوية، تستقر المؤاخذة الإلهية على ردها بمجرد قيام الحجة القاطعة العقلية من غير توقف على بيان النبي والرسول لأن صحة بيان النبي والرسول متوقفة عليها فلو توقف هي عليها لدارت.
وتستقر المؤاخذة الأخروية على الفروع بالبيان النبوي ولا تتم الحجة فيها بمجرد حكم العقل، وقد فصلنا القول فيه في مباحث النبوة في الجزء الثاني وفي قصص نوح في الجزء العاشر من الكتاب، وفي غيرهما. والمؤاخذة الدنيوية بعذاب الاستئصال يتوقف على بعث الرسول بعناية من الله سبحانه لا لحكم عقلي يحيل هذا النوع من المؤاخذة قبل بعث الرسول كما عرفت. وللمفسرين في الآية مشاجرات طويلة)([7]).
المناقشة
أقول: مع قطع النظر عن المناقشة في بعض قرائنه، فانه قد يناقش كبرىً، بأن السياق القرآني لا يقيّد مطلقاته وعموماته، فانه على فرض حجيته أضعف الظهورات كما صرح به المحقق الاشتياني في بحر الفوائد، كما قد يناقش صغرىً بأن السياق الذي ذكره غير واضح الدلالة على مدعاه أو فقل: انه من أضعف السياقات، فتدبر.
وللبحث تتمة بإذن الله تعالى.
* * *
اذكر قرائن على كون الآية الكريمة {وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} خاصة بعذاب الدنيا أو عذاب الاستئصال، وقرائن معاكسة دالة على نفي مطلق العذاب.
اكتب بحثاً عن أنواع الوجوب الأربعة (العقلي، العقلائي، الفطري، الشرعي) وملاكاتها والفوارق بينها.
وصلى الله على محمد واله الطاهرين
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ((بِئْسَ الغَريمُ النَّوْمُ يُفْني قَصيرَ الْعُمْرِ وَيُفَوِّتُ كَثيرَ الْأَجْرِ)) (غرر الحكم ص310).
--------------------------------------
([1]) أي طريق إثبات وجوب المعرفة بالعقل.
([2]) الميرزا أبو القاسم القمي، القوانين المحكمة في الأصول، دار إحياء الكتب الإسلامية ـ قم، ج4 ص369-370.
([3]) ابن ابي جمهور الاحسائي، عوالي اللآلئ، ج1 ص404.
([4]) يراجع تفصيل الأخذ والرد حول هذه الخمسة في بحوث الاجتهاد والتقليد السابقة عام 1432هـ وغيرها.
([5]) الشيخ علي كاشف الغطاء، النور الساطع في الفقه النافع، ج2 ص101.
([6]) يراجع كتاب الحكومة والورود، للأستاذ ص8 و514.
([7]) العلامة الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، منشورات إسماعيليان، ج13 ص57-59.
|