• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : الظن (1444هـ) .
              • الموضوع : 202- الواجب بنظره معرفة الحق أو المعرفة بنظره .

202- الواجب بنظره معرفة الحق أو المعرفة بنظره

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

(202)

4- أن ينهاه عن طريقٍ، فيعصيه، فيخطئ

الصورة الرابعة: ان ينهى المولى عبده عن طريقٍ، كالتقليد، فيعصيه ويسلكه، فيخطئ، كمقلَّدة الكَفَرَةِ مثلاً، فانه يستحق العقاب وذلك لوجهين:

وجهان لاستحقاق المخطئ للعقاب

الأول: لتفويته الملاك الملزم، ولو بتعجيز نفسه، فانه بتركه النظر وسلوكه طريق تقليد آبائه الكفرة الذي أوصله إلى القطع بباطلهم وإن كان عاجزاً فعلاً عن معرفة الحق لفرض قطعه وعدم احتماله للخلاف كي يحقق، لكنه يستحق العقاب لتفويته الملاك الملزم باختياره؛ ألا ترى انه لو وجب عليه إنقاذ الغريق وكان قادراً عليه بركوب القارب والوصول إليه في عرض البحر وانتشاله، فانه إذا تعمد إغراق القارب بما أفقده القدرة على إنقاذه، فانه مستحق عقلاً للعقاب، لأنه وإن كان عاجزاً فعلاً والعاجز غير مكلف، لكنه حيث كان قادراً حدوثاً وكان الواجب مطلقاً والملاك ملزماً، فانه يجب عليه حفظ القدرة عقلاً فإذا أعجز نفسه فعلاً، فانه يستحق العقاب بسوء اختياره، جزماً.

والحاصل: ان العاجز حدوثاً وبقاءً، غير مكلف لفقده القدرة التي هي الشرط العام للتكليف، أما القادر حدوثاً فانه يجب عليه إذا كان الملاك ملزماً حفظ القدرة، والفرق بين المقام ومثل الحج أن القدرة شرط في المقام لتنجز التكليف وهو قد تنجز حين حصولها، أما الحج فانها شرط للتكليف.

الثاني: لمخالفته الأمر المولوي الملزم (أو للمستقل العقلي) فانه كان مقدوراً له أن لا يسلك طريق التقليد (الذي اعجزه سلوكه عن معرفة الحق) وأن يسلك طريق النظر (الذي يوصله للحق) لكنه بسوء اختيار سلك ذاك وترك هذا فاستحق العقاب بإيمانه بالباطل. نعم بعد سلوكه طريق التقليد، لا يمكنه أن لا يخطئ (أي في الكثير من الناس الذين يورثهم تقليد آبائهم القطع) وليس بمقدوره أن يعدل إلى الرأي المقابل لفرض انه قاطع غير محتمل للخلاف، لكن مناط استحقاق الثواب كما سبق ليس القدرة الفعلية بل الأعم من القدرة المفوَّتة.

الثمرات الثلاث للتفصيل إلى الصور الأربع

ثم أنّ الثمرة في التفصيل والتشقيق إلى الصور الأربع، تظهر في ثلاثة مواطن: في استحقاق الثواب، وفي كونه مقصراً أو قاصراً، وفي استحقاق العقاب:

أما في استحقاق الثواب فان الفرق يظهر بين الصورتين الأوليين أ- فإذا أمره بالنظر فنظر فأصاب، استحق الثواب على الإطاعة والمعرفة ب- إذا أمره بالنظر فنظر فاخطأ، إستحق الثواب على الإطاعة والانقياد دون المعرفة لفرض عدم حصولها فكيف يستحق عليها الثواب؟.

لا يقال: التفريق بأمر غير اختياري، خلاف العدل؟

إذ يقال: سبق الجواب عنه بأن المصيب إنما أصاب بطيّه المقدمات الاختيارية فوصل للصواب فاستحق الثواب، وغيره لا يستحق عليه الثواب لأنه من السالبة بانتفاء الموضوع، ولذا قالوا (للمصيب أجران وللمخطئ أجر واحد) فانه وإن لم يرد في روايات الخاصة، فيما وصل إلينا، وورد في روايات العامة، إلا أن الفحول تلقوه بالقبول وهو مقتضى الأصول: فأجرا المصيب هما الأجر على سلوك الطريق والأجر على المعرفة، وأجر المخطئ لا يتعدى الأجر على سلوك الطريق.

بل قد يقال: كلاهما اختياري أما المصيب فواضح (إذ طوى المقدمات المقدورة باختياره وأما غيرها فقد مضى تفصيله في ضمن الصور الثلاث) وأما غير المصيب فليس عدم إصابته لا اختيارياً، بل هو اختياري معلول لما اختاره في العوالم السابقة، فالفرق ان هذا (المصيب) سلك هذا المسار باختياره في العالم السابق وعالم الدنيا، وذاك (المخطئ) سلك هذا المسار باختياره في عالم سابق، وإن كان قهري الحصول له في هذا العالم. فتدبر.

سلّمنا، لكنها شبهة في مقابل البديهة؛ لوضوح انك إذا أمرت عبدك بتعليم ابنك الأول فطوى المقدمات باختياره وعلّمه فانه يستحق ثواباً أكثر من عبدك الآخر الذي أمرته بتعليم ابنك الثاني فسلك المقدمات الاختيارية لكنه لأمر خارج عن اختياره لم يمكنه تعليمه فإنه وإن استحق الثواب؛ لسعيه لكنه لا يستحق ثواب التعليم؛ لعدمه.

وأما في كونه مقصراً أو قاصراً، فان الفرق يظهر في الصورة الثانية والرابعة، فانه إذا أمره بالنظر فنظر كما ينبغي فاخطأ، كان قاصراً إذ فعل ما أمره كما أمره، وأما لو نهاه عن التقليد (أو النظر فرضاً) فعصى وقلّد فاخطأ فانه مقصر حيث خالف أمر مولاه (أو حكم عقله) فاخطأ.

وأما استحقاقه العقوبة وعدمه، فهو في الصورتين الثانية والرابعة متفرعا على الفرق السابق لوضوح استحقاقه للعقاب في الصورة الأخيرة دون الثانية هذا.

فقد ظهر بما مضى عدم تمامية إطلاق القوانين بقوله: (وأمّا مجرّد الموافقة لنفس الأمر والمخالفة بمحض الاتّفاق، فلا يوجب الفرق كما لا يخفى، فكما أنّ المقلّدين المتخالفين المأجورين لا يؤاخذ أحدهما بمخالفة نفس الأمر في الفروع وكذا المجتهدان المتخالفان فيها، فكذا المجتهدان المؤدّيان حقّ النّظر، المتخالفان في الأصول)([1]) نعم كلامه ناظر لبعض الصور لا إليها جميعاً أي إلى صورة امتثالهما ما أمر كما أمر، فأصاب أحدهما واخطأ الآخر، والأمر فيه كما قال (قدس سره) وقرّر، وأن الفارق في الأجر الواحد والأجرين أو الأقل والأكثر من الثوابين.

هل الواجب (إصابة الحق النفس أمري) أو (إصابة الحق بنظره)؟

فقد اتضح حتى الآن أن ملاك المنجزية الإصابة وملاك المعذرية اللاإصابة لا عن تقصير، ولكن يستجد ههنا سؤال آخر وهو أن ملاكها ومدار التكليف هل هو (إصابة الواقع) أي (إصابة الواقع بما هو هو) أو (إصابة الواقع بنظره)؟

قال في القوانين: (والقول: بأنّ المطلوب إذا كان واحداً في الأصول فيجب على اللّه نصب الدّليل عليه وإلّا لزم الظّلم واللّغو والعبث فمن لم يصبه فقد قصّر، إنّما يتمّ إذا ثبت وجوب إصابة الحقّ والواقع في نفس الأمر، بل المسلّم إنّما هو إصابة الحقّ في نظره مع عدم التّقصير والتفريط).

وبعبارة أخرى: المشهور قالوا انه يجب على كل مكلف معرفة الحق والواقع في أصول الدين كما هو، ولكن ارتأى القوانين أن الواجب هو معرفة الحق بنظره.

وقد ارتأى المشهور أنه مادام الواجب عقلاً على كل إنسان معرفة الحق والواقع كما هو، فانه يجب، عقلاً، على الله تعالى أن ينصب عليه الدليل الواضح وإلا لكان تكليفه بالمعرفة تكليفاً بما لا يطاق وكان ظلماً قبيحاً إذ كيف يصل إلى الحق من دون دليل واضح؟

وعليه فإذا لم يصل شخص إلى الحق، اكتشفنا بالبرهان الإنّي كونه مقصراً لا قاصراً (لأن الله نصب الدليل الواضح فلا يكون عدم وصوله إلى الحق إلا لتقصيره) وينتج منه ان جميع الضالين مقصرون يستحقون النار.

لكنّ صاحب القوانين فراراً من هذا الإشكال، وحيث انه يرى وجود القاصرين لجأ إلى حل المعضلة بإنكار القضية الأولى فقال الواجب عقلاً هو (الوصول إلى الحق بنظره) وقد وصل إليه بنظره فهو معذور وإن خالف الواقع، فليس الواجب على الله تعالى نصب الدليل الواضح للكل لذا يخطئ كثير ممن يخطئ قصوراً.

بعبارة أخرى: (ليس الواجب عقلاً الوصول إلى الحق) ليقال انه إذا وجب الوصول إلى الحق وجب على الله نصب الدليل التام ومع نصبه لا يعقل وجود القاصر؟

وسيأتي منّا حلَّ المعضلة بوجه آخر([2]) مع الالتزام بمبنى المشهور، كما سيأتي الجواب عن مدعى القوانين إذ نرى تبعاً للمشهور أن الواجب تحصيل الحق لا تحصيل الحق بنظره.

وصلى الله على محمد واله الطاهرين


قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ((مَنْ رَأَى مَوْضِعَ كَلَامِهِ مِنْ عَمَلِهِ قَلَّ كَلَامُهُ إِلَّا فِيمَا يَعْنِيهِ)) (الكافي: ج2 ص116).

-------------------------

([1]) الميرزا أبو القاسم القمّي، القوانين المحكمة في الأصول، إحياء الكتب الإسلامية ـ قم، ج4 ص353.

([2]) كفاية نصب الدليل الشأني أو النوعي، وغيره.

 


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=4505
  • تاريخ إضافة الموضوع : الاثنين 13 شعبان 1444هــ
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 02 / 22