• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : الظن (1444هـ) .
              • الموضوع : 206- تحقيق في القصور لدى المجتهد في أصول الدين .

206- تحقيق في القصور لدى المجتهد في أصول الدين

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

(206)

آراء المحقق القمي (قدس سره) ومناقشاتنا

وقال في القوانين: (ومقصوده تعالى أن يعيد بالحكم الخاصّ والطريق الخاصّ)([1]).

أقول: أولاً هذا يخالف ما تبناه من مناقشته لمن ذهب إلى اشتراط الطريق الخاص، كما مضى تفصيله بإسهاب، ثانياً: ان الطريق الخاص إنما يصح الالتزام به في العبادات، وليس الكلام فيها بل الكلام في العقليات من أصول الدين فان الحاكم بها أو المدرك لها العقل، ولا يشترط في الأحكام العقلية أن يوصل إليها من طريق خاص فكيف بالقول بوجوب الوصول إليها بطريق شرعي خاص؟ بل لا يعقل القول بذلك أصلاً.

كما أن من لم يفهم الأدلة النقلية معذور فكذلك من لم يفهم العقلية

وقال: (فإذا لم يقصّر النّبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في الإبلاغ وتكلّم مع قومه بلسانهم في ذلك لكن اتّفق أنّ المخاطب اشتبه في فهم الخطاب وأتى بضدّ الصّواب، فلما لا تقول: إنّ هذا المخاطب مخطئ آثم لأنّ اللّه تعالى أراد منه شيئاً آخر ونصب علماً ودليلاً له، فهو مقصّر وليس بمعذور، فإذا كان غفلة المخاطب واشتباهه في فهم ما شافهه النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بالخطاب بلسانه معذوراً، فلما لا يكون زلّته في فهم أدلّة الإمامة أو النّبوّة مع عدم التّقصير معذوراً)([2]).

وبعبارة أخرى: كما ان المكلف إذا اشتبه في فهم الأدلة النقلية فهو معذور فكذلك إذا اخطأ في فهم الأدلة العقلية على النبوة أو الإمامة (والنقلية منها فيما للنقل فيه مجال كتعيين الإمام من بعده صلوات الله عليه).

بعبارة أخرى: كما أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يقصّر في إبلاغ رسالات الله تعالى، فإذا اخطأنا فلوجهٍ عائد إلينا، لكننا معذورون إذا استفرغنا الوسع ومع ذلك لم نصل، فكذلك الرب تعالى في غرسه المستقلات العقلية في عقولنا فانه لا نقص في جهة فعله بل هو كامل كل الكمال، فإذا اخطأنا فلوجهٍ عائد لنا ولكننا معذورون إذا استفرغنا الوسع ولم نصل.

إشكال وجواب

ثم أشكل القوانين على نفسه ودافع عن المشهور، بقوله: (والقول: بأنّ جعل الخطاب مناطاً للفروع مع قابليّته لوجوه الدّلالة وتفاوت أفهام المخاطبين بسببه دليل على رضاه تعالى بما يظنّه المخاطب من الخطاب ولا يوجب عليه إصابة الحقّ الحقيقيّ، بخلاف ما جعل مناطه العقل الغير القابل لذلك)([3]).

والحاصل: انّ جعل الخطاب (وأغلبه ظواهر و...) مناطاً للأحكام في الفروع، برهان إنّي على رضاه تعالى بالظن النوعي فيها وعدم اشتراطه إصابة الحق النفس أمري.

فأجاب بانه (جزاف من القول، إذ اختلاف العقول في مراتب الإدراك وتفاوتها في المدارك بحيث لا يمكن إنكاره، ومن ينكره فهو مكابر مقتضى عقله)([4]).

والحاصل: ان العقول أيضاً مختلفة في القوة والضعف فأكمل الناس عقلاً رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)وأهل بيته (عليهم السلام) ثم أمثال سلمان... ثم أمثال الحلي والأردبيلي، والعلماء مراتب.. ثمَّ مِن بعدهم متوسطوا الناس وصولاً إلى السفيه ثم المعتوه ثم المجنون، فذو العقل الكامل هو الذي يدرك كل الأحكام العقلية بوضوح دون ذي العقل الناقص فانه قد لا يدرك بعضها (كتجرّده تعالى) أو يدركه إدراكاً ضعيفاً قابلاً للتشكيك بعروض شبهة أو الزوال باستحكامها.

تقوية للقوانين

ويمكن تقوية كلام القوانين، بدواً، بأن الأدلة النقلية بناؤها على الظواهر، دون النصوص إلا النادر، وعلى تفكيك الإرادة الجدية عن الاستعمالية، وعلى المحكمات والمتشابهات والمجملات وغيرها وقد ورد عَنْ سُلَيْمِ بْنِ قَيْسٍ الْهِلَالِيِّ قَالَ قُلْتُ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): ((إِنِّي سَمِعْتُ مِنْ سَلْمَانَ وَالْمِقْدَادِ وَأَبِي ذَرٍّ شَيْئاً مِنْ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَأَحَادِيثَ عَنْ نَبِيِّ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم)غَيْرَ مَا فِي أَيْدِي النَّاسِ، ثُمَّ سَمِعْتُ مِنْكَ تَصْدِيقَ مَا سَمِعْتُ مِنْهُمْ، وَرَأَيْتُ فِي أَيْدِي النَّاسِ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً مِنْ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ، وَمِنَ الْأَحَادِيثِ عَنْ نَبِيِّ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم)أَنْتُمْ تُخَالِفُونَهُمْ فِيهَا، وَتَزْعُمُونَ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ بَاطِلٌ؛ أَفَتَرَى النَّاسَ يَكْذِبُونَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم)مُتَعَمِّدِينَ، وَيُفَسِّرُونَ الْقُرْآنَ بِآرَائِهِمْ؟ قَالَ: فَأَقْبَلَ عَلَيَّ، فَقَالَ: قَدْ سَأَلْتَ فَافْهَمِ الْجَوَابَ: إِنَّ فِي أَيْدِي النَّاسِ حَقّاً وَبَاطِلًا، وَصِدْقاً وَكَذِباً، وَنَاسِخاً وَمَنْسُوخاً، وَعَامّاً وَخَاصّاً، وَمُحْكَماً وَمُتَشَابِهاً، وَحِفْظاً وَوَهَما...))([5]) فذلك هو مبعث عروض الخطأ والالتباس لدى كثير من الفقهاء، إذ قد يطّلع على المحكوم ولا يطّلع على الحاكم أو قد لا يلتفت إلى كونه حاكماً وهكذا، مع انه كان من المقدور أن لا يستعمل الشارع الأقدس إلا النصوص وأن يَصِلَ المخصِّصات والمقيِّدات بالعمومات والمطلقات وأن لا يأتي بالمتشابهات، كي يسد باب الخطأ من جهتها ولكنّه لم يفعل ذلك، ولا يُخِلّ ذلك أبداً بعدله أو حكمته ولم يقل فقيه بانه إغراء بالجهل، فكذلك الحال حيث فعل مثل ذلك في عقول الرجال حيث خلق العقول متفاوتة في الأفهام والإدراكات والمدرَكات ولذا يضلّ من يضلّ ويزلّ من يزلّ تارة عن عمد وقصد وأخرى عن غفلة وجهل وليس ذلك مخالفاً للحكمة والعدل.

وكما في التشريع والنقل متشابهات كذا في التكوين والعقل

والحاصل: انّ وِزان عالم التشريع بما اشتمل عليه من الظواهر والمخصصات المنفصلة والمتشابهات التي ملأت أركانه، وِزان عالم التكوين إذ خلق الله تعالى الناس مختلفين في العقول والمدارك والأفهام والذكاء والغباء، فكل منهما (تكويناً وتشريعاً) مُوقِع في الخطأ واللبس والاشتباه والوهم..

ولكنّ التدبر يقودنا إلى أن ذلك كله لحِكمة بل لِحِكَم:

ومنها: ان ذلك من مقتضيات دار الامتحان، والقاصر يعاد امتحانه يوم القيامة فإن عاند استحق العقاب بسوء اختياره، وإن آمن كان له ذلك ودخل الجنة.

ومنها: ما أشارت إليه الروايات من انه تعالى فعل ذلك في عالم التشريع (المتشابهات ونظائرها) ليضطروا إلى الرجوع إلى أئمة الهدى (عليهم السلام).

المناقشة

ولكنْ قد يناقش كلام القوانين بانه وإن صح في بعض الأدلة النقلية أو العقلية على بعض أصول الدين لكنه لا يصح في البعض الآخر، ألا ترى أن من أدلة إمامة أمير المؤمنين علي (عليه السلام) ونصبه خليفةً للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)مباشرة بأمر الله، حديث الغدير وانه متواتر بأعلى درجات التواتر؛ فلئن كان حديث الطائر المشوي مثلاً غير متواتر فانه يكفي تواتر حديث الغدير، ولئن فرض ان حديث الإنذار {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} (سورة الشعراء: الآية 214) غير متواتر فيكفي تواتر غيره، بل يكفي تواترها مجموعاً مضموناً.

والحاصل: ان العقول وإن كانت متفاوتة، لكنّ المشهور ارتأوا أنّ الله تعالى نصب الحجج العقلية والنقلية بحيث تتم الحجة على كل من له عقل مادام ليس مجنوناً، فلا يصح قوله (فالذي هو حجّة اللّه على عباده هو العقل والتّفكّر والتدبّر مع التّخلية والإنصاف وترك العناد بقدر الوسع والطّاقة والاستعداد)([6]) فتأمل. وسيأتي مزيد بيان.

القوانين: معايب النفس مانع غير اختياري عن الاجتهاد السليم

وقال في القوانين: (والكلام في أنّ المتخالفين في المسألة كلّ منهما يدّعي التّخلية والإنصاف أيضاً، هو الكلام فيما نحن فيه، إذ كلّ منهما في إدراك التّخلية والإنصاف وأنّ نظره‌ وفكره مقرون بهما، مكلّف بما تبلغه‌ طاقته في ذلك، إذ البواعث الكامنة في النّفوس والدّواعي الجالبة لاختيار الطّرائق قد تختفي على النّفوس الكاملة الواصلة أعلى الدّرجات ما لم يبلغ حدّ العصمة، فكيف أ- بالجاهل الذي لم يعرف بعد مواقع الخطأ من دقائق معايب النّفس، ب- والأطفال([7]) في أوائل البلوغ، فإن فهم أنّ محض موافقة الآباء والأمّهات، ممّا يوجب التّثبّط عن البلوغ الى الحقّ ممّا لا يخطر ببال أكثرهم، بل يصعب إزالته غالباً على العلماء المرتاضين الّذين يحسبون أنّهم خلعوا هذه الرّبقة عن أعناقهم فضلاً عمّن دونهم.

وكذلك الكلام في سائر معايب النّفس من حبّ أفكاره الدّقيقة التي استقلّ بها، وعدم تقاعده عن مكافحة الخصوم، وتقيّده بخوف التّضعضع عن درجات العلوم، فإنّ لهذه المعايب دركات تحت دركات لا يتدرّج منها كلّ أحد الى درجات التّصعّد، وربّما يكون منها ما هو أخفى من دبيب النّملة على الصّفا في اللّيلة الظّلماء.

ومن الواضح أنّ التّخلّي عن جميع عروق الأخلاق الرّديّة لا يمكن لكلّ أحد، بل ولا لأكثر العلماء فضلاً عن العوامّ، بل ولا لأحد من النّاس بعد مدّة مديدة من المجاهدات، وربّما يكون نهايتها نهاية العمر، فكيف يقال ببطلان العقائد والأعمال لكافّة النّاس في غالب أعمارهم، بل الظّاهر أنّه مناف لحكم اللّه تعالى ورأفته، بل لعدله.

فظهر من ذلك أنّ مراتب التّكاليف مختلفة، وكلّ ميسّر لما خلق له)([8]).

وحاصله مع إضافةٍ: ان خطأ المجتهدين قد يعود لأمر غير اختياري خارج، وقد يعود لأمر غير اختياري داخل:

أما الأول: فكضياع الكثير من كتب الأحاديث أو حرقها أو دفنها أو إغراقها في الماء أو دفنها خوفاً، ككتب ابن أبي عمير، وبذلك قد يخطأ الفقيه في إصابة الحكم الواقعي لأنه وصل بيده العام ولم يصل إليه المخصص وهكذا.

وأما الثاني: فإن الخطأ قد يكون لوجود معايب في النفس غير اختيارية كـ: حسن ظنه بنفسه، وحب أفكاره الدقيقة، ومن المعروف أن الحب يعمي ويصم فلا يلتفت إلى نواقص أفكاره والإشكالات عليها إذ ينظر إليها بعين الرضا، عكس أفكار الآخرين إذ ينظر إليها بعين السخط، إلى غير ذلك، ولا يتيسر لكل أحد جهاد نفسه واستيصالها كلها، فانه مقدور بعض فقط دون الكل؛ أفترى أن الجبان يمكنه أن يتحول إلى شجاع؛ نعم الأوحدي يمكنه ذلك لا كل الناس وكذا المبتلى بسائر الرذائل كالبخل والحسد والغضب، أي غلبه القوة الغضبية وهكذا.

وإلا للزم بطلان عقائدِ أكثر الناس وأعمالهم

وأضاف القوانين: أن لازم الالتزام بوجوب تخلية النفس عن تلك المعايب كلها، الالتزام:

1- ببطلان أعمال أغلب الناس في أغلب الأوقات، إذ هي غالباً مقترنة بعُجب أو رياء خفي أو غير ذلك، وهل يمكن الالتزام بذلك؟ بل هو، فيما يرى القوانين، مخالف لرأفة الله تعالى بل لعدله.

2- بطلان عقائد أغلب الناس، إذ الأوحدي هو الذي تطابق كل عقائده الواقع، والأوحدي هو الذي يخلي نفسه من كل مؤثر نفسي على اجتهاده العقلي، وذلك غير مقدور للأكثر. هذا.

ولكن كلام القوانين قد يستشكل عليه بوجوه عديدة ستأتي لاحقاً بإذن الله تعالى.

*              *              *

- فكّر في مؤيدات لمبنى صاحب القوانين وفكّر في ردود عليه.

- هل يشجع كلام القوانين على التسامح في الاجتهاد والتساهل فيه وعلى أن يكون الفقيه حينئذٍ جربزياً؟ وقد ذكر صاحب القوانين في موضع آخر أنّ من شرائط الاجتهاد أن لا يكون جربزياً؟

وصلى الله على محمد واله الطاهرين


قال الإمام موسى الكاظم (عليه السلام): ((عَجِبْتُ لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْمَوْتِ كَيْفَ يَفْرَحُ، وَعَجِبْتُ لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْقَدَرِ كَيْفَ يَحْزَنُ، وَعَجِبْتُ لِمَنْ رَأَى الدُّنْيَا وَتَقَلُّبَهَا بِأَهْلِهَا كَيْفَ يَرْكَنُ إِلَيْهَا، وَيَنْبَغِي لِمَنْ عَقَلَ عَنِ اللَّهِ أَنْ لَا يَتَّهِمَ اللَّهَ فِي قَضَائِهِ وَلَا يَسْتَبْطِئَهُ فِي رِزْقِه‏)) (الكافي: ج2 ص59).

-------------------------------

([1]) الميرزا أبو القاسم القمّي، القوانين المحكمة في الأصول، إحياء الكتب الإسلامية ـ قم، ج4 ص355.

([2]) المصدر.

([3]) المصدر.

([4]) المصدر.

([5]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج1 ص62.

([6]) الميرزا أبو القاسم القمّي، القوانين المحكمة في الأصول، إحياء الكتب الإسلامية ـ قم، ج4 ص355.

([7]) أ و ب إضافة منّا.

([8]) الميرزا أبو القاسم القمّي، القوانين المحكمة في الأصول، إحياء الكتب الإسلامية ـ قم، ج4 ص355-356.

 


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=4515
  • تاريخ إضافة الموضوع : الثلاثاء 21 شعبان 1444هــ
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 02 / 22