بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(225)
هل روايات أصحاب الأعراف متعارضة؟
تنبيه: قد يقال بأن الروايات في أصحاب الأعراف متعارضة، إذ يظهر من بعضها، كهذه الرواية، ان أصحاب الأعراف هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، وقد يظهر من بعضها الآخر وبعض الآيات الشريفة، انهم الأنبياء والأوصياء والشفعاء فان ظاهر مثل قوله تعالى: {وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسيماهُمْ} (سورة الأعراف: الآية 46) هو ذلك؟
والجواب: انه لا تعارض إذ لا مفهوم لأي منهما في نفي مدلول الآخر، على انه لو كان ثمّتَ مفهومٌ لتقدم عليه منطوق الأخرى، والمستظهر هو: انّ كل واحدة من الطائفتين تثبت وجود أحد الفريقين، فكلاهما على الأعراف دون تعارض، ويمكن أن نمثَّل لذلك، من الدنيا بالنقطة الحدودية، إذ قد يوقف فيها المردد أمرهم والذين لا يمتلكون هوية مثلاً حتى يبت في أمرهم، كما يوجد فيها الضباط والذين بيدهم الأمر والنهي والبت والفصل وجاء في تفسير الأصفى: ({وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ}. أعراف الحجاب أي: أعاليه: رجال من الموحدين العارفين المعروفين. {يَعْرِفُونَ كُلاًّ} من أهل الجنة والنار {بِسيماهُمْ}: بعلامتهم التي أعلمهم الله بها، لأنهم من المتوسمين أهل الفراسة. قال: " الأعراف كثبان([1]) بين الجنة والنار، يوقف عليها كل نبي وكل خليفة نبي مع المذنبين من أهل زمانه، كما يقف صاحب الجيش مع الضعفاء من جنده، وقد سبق المحسنون إلى الجنة "([2]) الحديث.
وفي رواية: " نحن على الأعراف نعرف أنصارنا بسيماهم، ونحن الأعراف الذين لا يعرف الله عز وجل إلا بسبيل معرفتنا، ونحن الأعراف يوقفنا الله عز وجل يوم القيامة على الصراط "([3]). وفي لفظ آخر: " نوقف بين الجنة والنار، فلا يدخل الجنة إلا من عرفنا وعرفناه، ولا يدخل النار إلا من أنكرنا وأنكرناه "([4]). وفي رواية: " إنهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، فقصرت بهم الأعمال، وإنهم لكما قال الله "([5]). وزيد في أخرى: " فإن أدخلهم النار فبذنوبهم، وإن أدخلهم الجنة فبرحمته "([6])
أقول: لا تنافي بين الروايتين: لان هؤلاء القوم يكونون مع الرجال الذين على الأعراف، وكلاهما أصحاب الأعراف كما دل عليه الحديث الأول)([7]).
محتملات ثلاثة أخرى فيمن استوت حسناته وسيئاته
وقد سبق: (بقي: ان لزرارة أن يستشكل بوجود شقوق ثلاثة أخرى لا يتم استدلال الإمام (عليه السلام) إلا بنفيها ولذا نتبرع له بها، ونسعى للجواب عنها على ما يظهر لنا من الآيات والروايات والعقل.
توضيحه: ان جوهر كلام الإمام (عليه السلام) يبتني على هذا المضلّع الثلاثي:
من استوت حسناته وسيئاته ! فليس بمؤمن ولا كافر ! فلا يدخل الجنة (لعدم إيمانه) ولا النار (لعدم كفره).
وقد انتقل الإمام (عليه السلام) من الأمر الأول (استواء الحسنات والسيئات) إلى الأمر الثاني (فلا هو مؤمن ولا كافر).
ولكن زرارة يمكنه أن يعترض بوجود احتمالات ثلاثة أخرى فيمن استوت حسناته وسيئاته وانه مع وجودها لا يصح الاستدلال بالاستواء على انه ليس بمؤمن ولا كافر، إذ يكون من الاستدلال باللازم الأعم على خصوص أحد الملزومات.
والخيارات الثلاثة الأخرى هي ما سيأتي غداً بإذن الله تعالى)([8]).
وأما الاحتمالات أو الإشكالات الثلاث الأخرى فهي:
1- الاستواء لكونه مؤمناً وكافراً؛ لتعدد الجهة
الإشكال الأول: انه قد يقال: بأن استواء حسناتهم وسيئاتهم، لم يكن لكونهم قسماً ثالثاً لا مؤمنين ولا كافرين، بل قد يكونون، على العكس، مؤمنين وكافرين، وذلك بتعدد الجهة بان يكون أحدهم كافراً من جهة ومؤمناً من جهة أخرى، وبذلك يوجد فيه مقتضيان أحدهما للحسنات والآخر للسيئات، فإذا كان كل من المقتضيين مساوياً للآخر في الدرجة، تولّدت عنهما سيئات وحسنات متساوية.
الجواب: الإيمان حقيقة ارتباطية
ويمكن الجواب: بأنّ الإيمان حقيقة ارتباطية وكذا الكفر، فلا يعقل كونه من جهةٍ مؤمناً ومن أخرى كافراً، فان الإيمان كالعدالة حقيقة ارتباطية إذ الفرد إما عادل بمعنى ذو الملكة أو لا، أما كونه عادلاً من جهة وغير عادل من جهة أخرى فلا يتعقل مادامت العدالة هي الملكة فانها إما موجودة وإما معدومة، كما انه كالصلاة في مثال آخر فانها إما صحيحة أو لا، ولا يصح القول بانها صحيحة من جهة، لأنه رَكَعَ مثلاً، وباطلة من جهة أخرى، لأنه لم يسجد مثلاً، إذ كل أركان الصلاة وإن كان لها جهة رجحان ذاتي لكونها عبادة في حد ذاتها فتكون من الأقل والأكثر الاستقلاليين، لكنها بما هي محققة للصلاة وأجزاء لها، حقيقة ارتباطية واحدة، بعبارة أخرى: الغرض المترتب على الصلاة والمصلحة القائمة بها بما هي صلاة، لا يتحقق إلا بالأركان كلها مطلقاً وبالأجزاء إذا لم يجهلها، فأجزاء الصلاة بالنسبة إلى محقق الغرض منها حقيقة ارتباطية، فلا يصح القول بانها صحيحة من هذه الجهة دون تلك.
بوجه آخر: الصحة هي مطابقة المأتي به للمأمور به، وبالإخلال بركن واحد لا يتحقق هذا المفهوم، وهو لبساطته غير قابل للتفكيك.
2- لتزاحم مقتضِيين فيه: الإيمان والشهوات
الإشكال الثاني: انه قد يقال: ان استواء حسناتهم وسيئاتهم، قد يكون لتزاحم مقتضِيين قويين اجتمعا فيهم، وهما الإيمان المقتضي للطاعات، والشهوات المقتضية للسيئات، فقد استوى طرفا سلسلتي الأثر لاستواء طرفي المؤثر، أي ان استواء الحسنات والسيئات كان لاستواء مقتضيها من الإيمان والشهوات فليس الاستواء إذاً دليلاً على كونهم لا مؤمنين ولا كافرين، بل هو أعم منه ومن تزاحم المقتضيين الآنفين.
الجواب: فهو على هذا مؤخّر ومطهّر لا مُرجَأ
ويمكن الجواب: بانّ مقتضى ذلك التأخير والتطهير، لا الإرجاء والتغيير.
توضيحه: ان المستفاد من الأدلة النقلية ان المؤمن إذا عصى، فانه يُطهّر من ذنوبه بما يبتلى به من مصائب الدنيا فإن لم تفِ بها، طُهِّر بآلام الاحتضار ثم القبر والبرزخ ثم بأهوال يوم القيامة، فإن لم تفِ جميعها بها أدخل في النار إلى مدة وفي بعض الروايات إلى سبعين ألف سنة ثم تستنقذهم السيدة الزهراء (عليها السلام)([9]).
والحاصل: ان المؤمن لا يخلد في النار، وانه سيدخل الجنة، مآلاً، حتماً لكن بعد تطهيره من الذنوب إذ لكل ذنب عقوبة محددة دنيوياً وعقلائياً، وأما الخلود في النار فهو عقوبة الشرك بالله تعالى، أما مع الإيمان به تعالى وبرسوله فانه يدخل الجنة بعد تصفيته من ذنوبه، أو انه إن كان إيمانه ناقصاً، بعدم قبوله الولاية مثلاً، فانه يكمل إيمانه، بما يُرى من الآيات فيؤمن، فيدخل الجنة حينئذٍ.
إذاً: إذا كان منتهى إيمانه وشهواته، حسنات وسيئات متساوية، فانه لإيمانه يستحق دخول الجنة ولمعاصيه يستدعي التطهير، فهو، إذاً، تأخير وتطهير أي تأخير في دخول الجنة، وتطهير من موانعها، فبعد ذلك يدخل الجنة.
أما القسم الثالث، الذي ليس بمؤمن ولا كافر، فانه يُرجأ وليس مجرد انه يُؤخَّر ويُطهّر إذ لا مقتضِي لدخوله الجنة، فان المقتضي هو الإيمان والفرض انه ليس بمؤمن، إذن هو مرجأ، والإرجاء كما سبق ثبوتي، أي انه مرجأ لأمر الله، فإن تعلّق أمرُ الله تعالى بتغيير جوهره من لا مؤمن ولا كافر إلى مؤمن، بتصرف تكويني (رحمة منه له) أو بارائته الآيات والبينات في الآخرة بما يخرج به عن كونه لا هذا ولا ذاك، إلى مؤمن، خرج من القسم الثالث إلى القسم الأول.
والحاصل: ان الإرجاء المذكور في الآية الشريفة {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ} (سورة التوبة: الآية 106) بما ضممناه في الدرس السابق في توضيح معناه من القرائن في الآية ومن الروايات، يعني الإرجاء الثبوتي، أي انه ليس تأخير إعلام ولا تأخير إدخال إلى الجنة فقط، بل هو فوق ذلك تأخير تقرير مصير مستند إلى تغيير جوهرٍ وحقيقة، كما سبق بشواهده الثلاثة فراجع وتدبر وتأمل والله العالم.
وعليه فاستواء حسناته وسيئاته هو نتيجة كونه غير مؤمن ولا كافر، بل قسماً ثالثاً، مرجأ لأمر الله.
3- الاستواء لضعف إيمانه
الإشكال الثالث: الاستواء قد يكون لضعف إيمانه، لذا كثرت معاصيه حتى ساوت سيئاته.
الأجوبة:
ويمكن الجواب بوجوه:
1- لا يعقل ذلك لأن لأحد الطرفين فقط مقتضٍ
1- صغرىً، بانه لا يعقل تساوي حسناته وسيئاته، إذ الفرض ان الإيمان وإن كان ضعيفاً مقتضٍ للحسنات، والطرف الآخر (أي السيئات) لا مقتضي له فكيف يعقل تساوي حسناته وسيئاته؟ فإن قلت مقتضيه الشهوات؟ قلت: ذلك ما قد سبق الجواب عنه فإن أعيد الأمر إليه أعيد الجواب عليه، وإلا كان هذا هو الجواب.
2- كما لا يعقل لأن الإيمان أرجح ميزاناً
2- صغرىً أيضاً، انه لا يعقل تساوي حسناته وسيئاته، مع قطع النظر عن الجواب السابق؛ إذ (الإيمان) نفسه من الحسنات وهو أرجحها ميزاناً فمادام مؤمناً ولو بإيمان ضعيف فإنّ كِفة حسناته مجموعاً (بما فيها إيمانه) ترجح على كفة سيئاته مجموعاً، وذلك أي أرجحية الإيمان من كل حسنة، كعكسه أي اسوأية الكفر من كل سيئة هو مقتضى الآيات والروايات ولذا قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاء} (سورة النساء: الآية 48 و116) وقال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فيها خالِدُونَ} (سورة البقرة: الآية 257).
3- أدنى درجات الإيمان، لا يجامع الإرجاء
3- سلّمنا، لكنّ أدنى درجات الإيمان يكفي لدخول الجنة، كما سبق في الدرس السابق، وحينئذٍ فلا يكون مُرجَأً بل يكون مؤخراً مطهراً، وقد فرض مرجأً فلا بد أن يكون قسماً ثالثاً، فتدبر تعرف.
هل الإرجاء من البداء؟
تنبيه: يمكن إدراج (الإرجاء) في (البداء) فانه حيث استحال بمعناه الظاهر (وهو انه بدى لله أي ظهر له) لاستلزامه الجهل على الله تعالى، فسّره العديد من المتكلمين بالإبداء أي انه تعالى يبدي لأوليائه (وأحياناً مطلقاً) ما خفي علينا، فهو تفسير إثباتي محض للبداء، لكنّ الظاهر ان هذا التفسير وإن صح كامتناع سابقه، لكنه غير كامل والكامل من تفسيره هو أن يقال: انه بداء ثبوتي أيضاً، لا بمعنى انه ظهر على الله تعالى بعد أن كان مخفياً لاستحالته، بل ان (بدى) بمعنى (تغير) واقعاً (فابدى) الله لأوليائه ذلك، وذلك واضح نظراً لمتواتر الروايات الدالة على أن أجل زيد مثلاً قد يكون حاضراً إلا أنه يتغير ويؤجَّل إذا تصدق أو وصل رحمه فالأمر دائر بين قضيتين: إن لم يتصدق مات اليوم وإن تصدق مات بعد عشرين سنة، فالبداء بمعنى تغير وقت موته بتغير فعله (بصدقة أو صلة رحم) صحيح، لكنه حيث خفي علينا سمي بداء بلحاظنا فهو إبداء من الله تعالى لنا وبداء ثبوتاً كالشخص نفسه، وليس ظهوراً لله تعالى.
وصلى الله على محمد واله الطاهرين
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ((إِنَّ الدُّنْيَا عَيْشُهَا قَصِيرٌ، وَخَيْرُهَا يَسِيرٌ، وَإِقْبَالُهَا خَدِيعَةٌ، وَإِدْبَارُهَا فَجِيعَةٌ، وَلَذَّاتُهَا فَانِيَةٌ، وَتَبِعَاتُهَا بَاقِيَةٌ)) (غرر الحكم: ص127).
----------------
([1]) الكثبان جمع كثيب: التل من الرمل. القاموس المحيط 1: 126 (كثب).
([2]) مجمع البيان 3 - 4: 423، وجوامع الجامع 1: 438 - 439، عن أبي عبد الله عليه السلام، والقمي 1: 231 ما يقرب منه.
([3]) الكافي 1: 184، الحديث: 1، عن أمير المؤمنين عليه السلام، وفيه: " يعرفنا الله " بدل: " يوقفنا الله ".
([4]) بصائر الدرجات: 497، الباب: 16، الحديث: 6، عن أمير المؤمنين عليه السلام.
([5]) الكافي 2: 408، الحديث: 1، عن أبي جعفر عليه السلام.
([6]) المصدر: 381، الحديث: 1، عن أبي عبد الله عليه السلام.
([7]) الفيض الكاشاني، التفسير الأصفى، مركز الإعلام الإسلامي ـ قم: ج1 ص373.
([8]) الدرس (223).
([9]) فتأمل.
|