بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(228)
تحليل الطوسي لتعارض الروايات:
وقد قام الشيخ الطوسي(قدس سره)بدراسة قضية تعارض الروايات من منظار عقلائي، بل انه احتكم إلى حكم العقل في حل معضلة التعارض على مختلف المستويات، مما يؤكد على قدرته الفكرية والاجتهادية الكبرى فَبِحَقٍّ هو من ينبغي أن يطلق عليه المفكر والمجتهد، وذلك ضمن النقاط التالية:
مع فرض كون المتكلم حكيماً ملتفتاً
الأولى: ان الفرض هو أن المتكلم حكيم (ونضيف وانه ملتفت)، وكلا الأمرين مما لا ريب فيه في كلام الله تعالى وفي أحاديث الرسول وسائر المعصومين (عليهم السلام)، فان غير الحكيم يمكن أن يتكلم بكلامين متعارضين متهافتين، أما الحكيم فلا، كما أن الحكيم غير الملتفت قد يتناقض كلاماه، أما الملتفت فلا.
فإذا كانا قطعيين فيجب القول بالنسخ أو التأويل أو التخيير
الثانية: اننا إذا وجدنا كلامين متعارضين بالتباين، من الحكيم الملتفت، فإما أن يكونا قد وصلا إلينا عبر العلم (كالمتواتر) أو لا، أي عبر الظن كخبر الثقة، فإن كان الأخير رجعنا إلى المرجِّحات، وإن كان الأول، فحيث اننا علمنا بانه حكيم ملتفت، فاننا نعلم بالبرهان اللمي ان الكلامين ليسا متناقضين بل لا بد، عقلائياً، من حملهما أو أحدهما على احدى المحامل الثلاث الآتية متسلسلة:
1- إذا كان أحدهما متقدماً زمناً والآخر متأخراً، فلا بد من كون الثاني ناسخاً للأول والذي يعني أن الأول كان مؤقتاً منذ آن تشريعه.
2- وإذا انا متقارنين فإما أن يمكن الجمع بينهما بوجهٍ وبنحوِ تأويل فهو وإلا فالتخيير كما سيتضح.
قال: (فأمّا العمومان إذا تعارضا([1]): فلا يخلو من أن يكون طريق إثباتهما العلم أو لا يكون كذلك:
فإن كان طريق إثباتهما العلم، يصحّ وقوعهما من حكيم على وجه، ولا يصحّ على آخر، فما يصحّ وقوعه منه فوجوه:
أحدها: أن يقترن بهما التّاريخ، وأنّ أحدهما متقدّم والآخر متأخّر، فيحكم بأنّ المتأخّر ناسخ والمتقدّم منسوخ.
والثّاني: أن يمكن الجمع بينهما على وجه من التّأويل.
والثّالث: أن يكونا وردا مورد التّخيير.
فهذه الوجوه الّتي يصحّ أن يقع العمومان المعلومان عليه من الحكيم.
ومتى خلا من ذلك بان يعدم([2]) التاريخ ولا يصح الجمع بينهما لتضادهما علم أنه لم يرد التخيير فإنه لا يجوز وقوعهما من حكيم لأنه يؤدى إلى أن يدل الدليل على خلاف ما هو دليل عليه وذلك لا يجوز على حال)([3]).
الوجه العقلائي في تأويل المتباينين
وتوضيح المحمل الثاني والثالث مع بعض الإضافات: انه إذا ورد كلامان متباينان متناقضان بحسب الظاهر من الحكيم الملتفت فحيث انه كذلك، أي حكيم ملتفت، فلا بد أن يؤول الكلامان أو أحدهما، بحمل أحدهما على بعض الأفراد أو الحصص وبحمل الآخر على بعض الحصص الأخرى، وذلك بالبحث عن قرائن عامة عقلية أو عقلائية أو شرعية عامة أو خاصة تدل على ذلك التأويل الرافع للتعارض والمقتضي للجمع، وإلا كان من الجمع التبرعي والجمع التبرعي وإن نفع كلامياً لدفع دعوى تناقض الحكيم؛ فانه مع احتمال أن يريد من كل منهما غير ما أراد من الآخر، لا مجال لرميه بالتناقض خاصة إذا كان دأبه التفكيك بين الإرادتين الجدية والاستعمالية، وأما إذا لم يكن من دأبه ذلك فغاية ما للطرف الآخر أن يقول هو أن ظاهر كلامه التناقض ولكن لا يمكنه الحكم به واقعاً([4])، والحاصل: انه وإن نفع كلامياً لكنه لا ينفع فقهياً إذ لا يمكن التعويل في إثبات الأحكام على الجموع التبرعية، كما يشهد بها عنوانها.
ويمكن التمثيل للقرائن العامة بما لو قال: (لا تقتل الكفار) وقال: (اقتل الكفار) فاننا إذا لجأنا إلى مسلمات الفقه والروايات الأخرى في حكم الكفار باعتبارها قرائن عامة حافة بالكلام، لظهر بوضوح بداهة حمل (لا تقتل الكفار) على الذميين ونظائرهم، كالمحايدين على القول بذلك، وحمل (اقتل الكفار) على الحربيين، أو حمل (لا تقتلهم) على قتلهم بالخنق والسّم، لمسلمية المردوعية عن ذلك في الشرع، وحمل (اقتلهم) على بالسيف ماداموا مستحقين.
الوجه العقلائي للتخيير
فهذا إن أمكن التأويل مع شاهد عليه، فإما ان لم يمكن كان الحكم التخيير، كما لو قال: (إتق الظالم) وقال: (لا تتق الظالم) فان مجموعهما يفيد كون التقية رخصة وليست عزيمة، وبعبارة أخرى: يفيد أنّ لكلٍّ من الفعل والترك ملاكاً تاماً لذا صح الأمر بلحاظ تمامية ملاكه، وصحّ النهي بلحاظ تمامية ملاكه أيضاً، وحيث اجتمعا تخيّر بينهما فقوله (لا تتّقِ الظالم) لأن في التقية تفويتاً للمصلحة الملزمة الكامنة في الصلاة مُسبِلاً، وقوله (إتّقِ) لأن فيها إحرازاً للمصلحة الملزمة بحفظ المال مثلاً من وضع ذلك الظالم يده عليه إذا علم انه شيعي، أو من ضربه وجرحه، وذلك في صورة تكافؤ المصلحتين.
أو، بوجه آخر، دلّ قوله (افعل ولا تفعل) على الإباحة، وذلك إذا ورد (افعل) في مقام توهم الحظر، وورد (لا تفعل) في مقام توهم الوجوب.
تنبيهٌ: والتخيير على الأول اقتضائي وعلى الثاني لا اقتضائي.
وإذا كانا ظنيين فالمرجع المرجحات
قوله: (فأمّا إذا كان طريق إثباتهما الآحاد، فإنّه يرجع في العمل بأحدهما إلى التّرجيح، وقد قدّمنا([5]) ما يرجّح به أحد الخبرين على الآخر بما يرجع إلى إسناده أو متنه، فأغنى عن الإعادة)([6])
فذلك هو المدخل لربط آرائه هنا([7]) بآرائه السابقة([8]) فلنقتطف موجز أهم ما قاله سابقاً:
تسلسل المرجحات لدى الطوسي
قال: (فأما الأخبار إذا تعارضت وتقابلت فإنه يحتاج في العمل ببعضها إلى ترجيح، والترجيح يكون بأشياء:
منها: أن يكون أحد الخبرين موافقاً للكتاب أو السنة المقطوع بها والآخر مخالفاً لهما، فإنه يجب العمل بما وافقهما وترك العمل بما خالفهما.
وكذلك إن وافق أحدهما إجماع الفرقة المحقة والآخر خالفه، وجب العمل بما يوافق إجماعهم وترك العمل بما يخالفه.
فإن لم يكن مع أحد الخبرين شيء من ذلك، وكانت فتيا الطائفة مختلفة، نظر في حال رواتهما فما كان راويه عدلاً وجب العمل به وترك العمل بما لم يروه العدل، وسنبيّن القول في العدالة المراعاة في هذا الباب.
فإن كان رواتهما جميعا عدلين، نظر في أكثرهما رواة عمل به وترك العمل بقليل الرّواة.
فإن كان رواتهما متساويين في العدد والعدالة، عمل بأبعدهما من قول العامة([9]) ويترك العمل بما يوافقهم.
وإن كان الخبران يوافقان العامة أو يخالفانها جميعاً نُظِرَ في حالهما...)([10]).
وهنا إيضاحات:
أولاً: ان الكلام هنا مبني على استقرار التعارض، وأما المقاطع السابقة فكانت مبنيّة على صورة إمكان رفعه (بالنسخ أو التأويل أو التخيير) فإذا ثبت التعارض واستقرّ فلا بد من اللجوء إلى المرجّح.
اختلاف تسلسل المرجحات لديه عن المقبولة والمرفوعة
ثانياً: ان المرجحات هي خمسة بالتسلسل الذي ذكره(قدس سره)ولكن هذا التسلسل يخالف في الجملة، ظاهراً أو لولا التخريج، التسلسل المذكور في مقبولة عمر بن حنظلة كما يخالف التسلسل المذكور في مرفوعة زرارة.
أما تسلسل المقبولة فهو بعكس الثلاثة الأولى أي انها بدأت بالعدالة وأخواتها ثم الإجماع ثم موافقة الكتاب ومخالفة العامة معاً، ثم عادت للمرجح الخامس المذكور في كلام الطوسي فيما أهملت الرابع، وأضافت الاميلِيّة ثم الإرجاء.
والمقبولة هي: داود بن الحصين عن عمر بن حنظلة عن أبي عبد الله (عليه السلام): قال: ((قُلْتُ: فِي رَجُلَيْنِ اخْتَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَجُلًا فَرَضِيَا أَنْ يَكُونَا النَّاظِرَيْنِ فِي حَقِّهِمَا، فَاخْتَلَفَا فِيمَا حَكَمَا، وَكِلَاهُمَا اخْتَلَفَ فِي حَدِيثِنَا؟
قَالَ: الْحُكْمُ مَا حَكَمَ بِهِ أَعْدَلُهُمَا وَأَفْقَهُهُمَا وَأَصْدَقُهُمَا فِي الْحَدِيثِ وَأَوْرَعُهُمَا وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى مَا يَحْكُمُ بِهِ الْآخَرُ.
قَالَ: قُلْتُ: فَإِنَّهُمَا عَدْلَانِ، مَرْضِيَّانِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، لَيْسَ يَتَفَاضَلُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ؟
قَالَ: فَقَالَ: يُنْظَرُ إِلَى مَا كَانَ مِنْ رِوَايَتِهِمَا عَنَّا فِي ذَلِكَ الَّذِي حَكَمَا بِهِ الْمُجْمِعِ عَلَيْهِ أَصْحَابُكَ، فَيُؤْخَذُ بِهِ مِنْ حُكْمِنَا، وَيُتْرَكُ الشَّاذُّ الَّذِي لَيْسَ بِمَشْهُورٍ عِنْدَ أَصْحَابِكَ، فَإِنَّ الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ حُكْمُنَا لَا رَيْبَ فِيهِ، وَإِنَّمَا الْأُمُورُ ثَلَاثَةٌ: أَمْرٌ بَيِّنٌ رُشْدُهُ فَمُتَّبَعٌ، وَأَمْرٌ بَيِّنٌ غَيُّهُ فَمُجْتَنَبٌ، وَأَمْرٌ مُشْكِلٌ يُرَدُّ حُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلي الله عليه وآله وسلم): حَلَالٌ بَيِّنٌ وَحَرَامٌ بَيِّنٌ وَشُبُهَاتٌ بَيْنَ ذَلِكَ، فَمَنْ تَرَكَ الشُّبُهَاتِ نَجَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، وَمَنْ أَخَذَ بِالشُّبُهَاتِ ارْتَكَبَ الْمُحَرَّمَاتِ وَهَلَكَ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُ.
قُلْتُ: فَإِنْ كَانَ الْخَبَرَانِ عَنْكُمْ مَشْهُورَيْنِ، قَدْ رَوَاهُمَا الثِّقَاتُ عَنْكُمْ؟
قَالَ: يُنْظَرُ فَمَا وَافَقَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَخَالَفَ الْعَامَّةَ أُخِذَ بِهِ.
قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ وَجَدْنَا أَحَدَ الْخَبَرَيْنِ مُوَافِقاً لِلْعَامَّةِ وَ الْآخَرَ مُخَالِفاً لَهَا بِأَيِّ الْخَبَرَيْنِ يُؤْخَذُ؟
قَالَ: بِمَا يُخَالِفُ الْعَامَّةَ، فَإِنَّ فِيهِ الرَّشَادَ.
قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ فَإِنْ وَافَقَهُمَا الْخَبَرَانِ جَمِيعاً؟
قَالَ: يُنْظَرُ إِلَى مَا هُمْ إِلَيْهِ أَمْيَلُ حُكَّامُهُمْ وَقُضَاتُهُمْ، فَيُتْرَكُ وَيُؤْخَذُ بِالْآخَرِ.
قُلْتُ: فَإِنْ وَافَقَ حُكَّامَهُمْ وَقُضَاتَهُمُ الْخَبَرَانِ جَمِيعاً؟
قَالَ: إِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَأَرْجِهْ حَتَّى تَلْقَى إِمَامَكَ، فَإِنَّ الْوُقُوفَ عِنْدَ الشُّبُهَاتِ خَيْرٌ مِنَ الِاقْتِحَامِ فِي الْهَلَكَاتِ))([11]).
كما يخالف تسلسله(قدس سره)تسلسل المرفوعة إذ بدأت بالمشهور (اي المجمع عليه) وهو ثاني مرجحاته(قدس سره)ثم بالأعدل وهو ثالثها لديه، ثم بموافقة ومخالفة العامة وهو خامس مرجحاته، ثم بالاحتياط ثم التخيير.
عوالي اللآلئ روى العلامة مرفوعاً إلى زرارة بن أعين، قال: ((سَأَلْتُ الْبَاقِرَ (عليه السلام) فَقُلْتُ جُعِلْتُ فِدَاكَ يَأْتِي عَنْكُمُ الْخَبَرَانِ أَوِ الْحَدِيثَانِ الْمُتَعَارِضَانِ فَبِأَيِّهِمَا آخُذُ؟ فَقَالَ (عليه السلام) يَا زُرَارَةُ خُذْ بِمَا اشْتَهَرَ بَيْنَ أَصْحَابِكَ وَدَعِ الشَّاذَّ النَّادِرَ، فَقُلْتُ: يَا سَيِّدِي إِنَّهُمَا مَعاً مَشْهُورَانِ مَرْوِيَّانِ مَأْثُورَانِ عَنْكُمْ، فَقَالَ (عليه السلام): خُذْ بِقَوْلِ أَعْدَلِهِمَا عِنْدَكَ وَأَوْثَقِهِمَا فِي نَفْسِكَ، فَقُلْتُ إِنَّهُمَا مَعاً عَدْلَانِ مَرْضِيَّانِ مُوَثَّقَانِ، فَقَالَ: انْظُرْ مَا وَافَقَ مِنْهُمَا مَذْهَبَ الْعَامَّةِ فَاتْرُكْهُ وَخُذْ بِمَا خَالَفَهُمْ، قُلْتُ: رُبَّمَا كَانَا مُوَافِقَيْنِ لَهُمْ أَوْ مُخَالِفَيْنِ فَكَيْفَ أَصْنَعُ؟ فَقَالَ: إِذَنْ فَخُذْ بِمَا فِيهِ الْحَائِطَةُ لِدِينِكَ وَاتْرُكْ مَا خَالَفَ الِاحْتِيَاطَ، فَقُلْتُ: إِنَّهُمَا مَعاً مُوَافِقَانِ لِلِاحْتِيَاطِ أَوْ مُخَالِفَانِ لَهُ فَكَيْفَ أَصْنَعُ؟ فَقَالَ (عليه السلام): إِذَنْ فَتَخَيَّرْ [فَتَخَيَّرُ] أَحَدَهُمَا فَتَأْخُذُ بِهِ وَتَدَعُ الْآخَرَ))([12]).
وفي رواية انه (عليه السلام) قال إذاً فأرجه حتى تلقى إمامك فتسأله.
وجه اختلاف تسلسله (قدس سره)
وقد يقال: إنّ الشيخ مشى في ترتيب المرجحات على مقتضى الطريقة العقلائية فانها كما يبدو على نفس التسلسل الذي ذكره، فإن صح سند المقبولة ودلالتها كانت حاكمة، على أن في دلالتها كلاماً إذ المرجّح الأول قيل انه في الحَكمين في باب القضاء لا الروايتين، وقيل في موافقة الكتاب انه مرجح مضموني لا سندي لذا لم تذكره الرواية، وقال الآخوند ان المرجحات يراد بها (ان هذا مرجح وذاك مرجح) لا التسلسل فانه مجرد ترتيب في الذكر.. وقيل غير ذلك مما لا يهمنا تنقيحه فان الشاهد من ذلك كله هو الأمر الثالث:
الطوسي: التخطئة دون التفسيق
ثالثاً: ان مبنى كلامه كله، كما يظهر بأدنى تدبر، على التخطئة وان الحقّ واحد والدالّ عليه واحد، فمن أصابه أصاب وإلا اخطأ، فانه على مبنى التصويب لا وجه لمحاولة الجمع بين الروايتين بالنسخ الذي يعني أن الأول كان حكماً مؤقتاً في ظرفه وان الثاني حكم جديد لظرفه وكذا لا وجه، على القول بالتصويب للجوء إلى التأويل الذي يعني أنّ كل حكم مقيد بقيود وانهما حكمان لهما موضوعان مختلفان.
ولكن يبقى التفسيق، وقد سبق الفرق بين اختلافنا مع العامة الموجب، لدى الطوسي لتفسيقهم حيث خالفوا الحق، وبين اختلافنا فقهياً في داخل الدائرة الشيعية غير الموجب للتفسيق، فبعد أن بنى(قدس سره)على انّ الحق في الحالتين واحد والمصيب واحد وغيره مخطئ، فرّق بين الفريقين في الحكم بفسق المخالف المذهبي دون المخالف الفقهي؛ وذلك لأن الحق في المسائل العقائدية (العقدية) واضح عليه دليل واضح فمنكره من علماء العامة إما معاند أو جاهل مقصِّر (بنظره (قدس سره)) فهذا موضع إجماع الطوسي ومحلّه من انه لا يوجد مقصر في أصول الدين، وأما المسائل الفقهية فأدلة كثيرة منها غير قاطعة ولا واضحة تماماً بل هي ظنيات لذا فان الحق وإن كان عند الله تعالى في أحدها، إلا أن المخالف ليس بفاسق لأنه أعمل وسعه فاخطأ وكان من الممكن أن يخطئ عن قصور لعدم ظهور الحق تماماً.
وتأويل ما يلزم من عدم تأويله طرح الآخر، ثم التخيير
الرابعة: وقال: (وإن كان الخبران يوافقان العامة أو يخالفانها جميعا نظر في حالهما:
فإن كان متى عمل بأحد الخبرين أمكن العمل بالخبر الآخر على وجه من الوجوه وضرب من التأويل، وإذا عمل بالخبر الآخر لا يمكن العمل بهذا الخبر، وجب العمل بالخبر الّذي يمكن مع العمل به العمل بالخبر الآخر، لأن الخبرين جميعا منقولان مجمع على نقلهما، وليس هناك قرينة تدل على صحة أحدهما، ولا ما يرجح أحدهما به على الآخر فينبغي أن يعمل بها إذا أمكن ولا يعمل بالخبر الّذي إذا عمل به وجب إطراح العمل بالخبر الآخر.
وإن لم يمكن العمل بهما جميعا لتضادهما وتنافيهما وأمكن حمل كل واحد منهما على ما يوافق الخبر (الآخر) على وجه، كان الإنسان مخيرا في العمل بأيهما شاء)([13]).
أقول: والتخيير هنا ظاهري، فالحق، في مرحلة الظاهر فيه، وأما في مرحلة الثبوت والواقع، فالمصيب واحد وغيره مخطئ، ولا مجال للتفسيق بعد عدم ظهور أدلة الحق، كما سبق.
وصلى الله على محمد واله الطاهرين
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ((إِنَّ هَذِهِ الْقُلُوبَ تَمَلُّ كَمَا تَمَلُّ الْأَبْدَانُ فَابْتَغُوا لَهَا طَرَائِفَ الْحِكَمِ))
(نهج البلاغة: الحكمة 91).
------------
([1]) أي بالتباين التام.
([2]) في النسختين «يقدم» والصحيح ما أثبتناه، والمقصود منه العدم أي لم يقترن بهما التاريخ، وهو قسيم الصورة الأولي.
([3]) الشيخ الطوسي، العدة في أصول الفقه، تیزهوش ـ قم: ج1 ص397-398.
([4]) وإن كان له ان يفحمه ظاهراً. فتأمل.
([5]) راجع كلام المصنّف عمّا ترجَّح به الأخبار في صفحة 143.
([6]) الشيخ الطوسي، العدة في أصول الفقه، تیزهوش ـ قم: ج1 ص398.
([7]) العدة في أصول الفقه: ج1 ص397.
([8]) العدة في أصول الفقه: ج1 ص141.
([9]) مما يوضح فلسفة ذلك ما ورد عن الإمام الصادق جعفر بن محمد عليه السلام من قوله: ((إِنَّ عَلِيّاً (عليه السلام)لَمْ يَكُنْ يَدِينُ اللَّهَ بِدِينٍ إِلَّا خَالَفَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ إِلَى غَيْرِهِ)) (وسائل الشيعة: ج27 ص116).
([10]) الشيخ الطوسي، العدة في أصول الفقه، تیزهوش ـ قم: ج1 ص147-148.
([11]) الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم: ج3 ص8.
([12]) ابن أبي جمهور الاحسائي، عوالي اللآلئ، دار سيد الشهداء (عليه السلام)ـ قم: ج4 ص133.
([13]) الشيخ الطوسي، العدة في أصول الفقه، تیزهوش ـ قم: ج1 ص148.
|