بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ملخص ما تقدم
وصل البحث إلى ان المولى تارة لا يكون في مقام البيان بشكل مطلق وتارة يكون في مقام البيان، وعلى الأخير فانه تارة يكون في مقام البيان التنجيزي وأخرى في مقام البيان التعليقي، اذن هي أقسام ثلاثة وليست قسمين؛ فان المطلق ينعقد إطلاقه إذا تمت مقدمات الحكمة، ومن مقدمات الحكمة ان يكون المولى في مقام البيان، لكن كونه في مقام البيان على قسمين، وهذه المسألة عامة الابتلاء وتحتاج إلى إنضاج اكثر، توضيح ذلك:
توضيح البيان التنجيزي والتعليقي
ان مقام البيان تارة يكون منجزا؛ بان لا تكون هناك حالة انتظارية فيه وراء الانشاء ووراء الإيجاب أو التحريم، وتارة تكون هنالك حالة انتظارية، بان يكون في مقام البيان لكن يكون تنجز البيان وعليته متوقفة على تحقق شرط وهو الفحص واستفراغ الوسع.
ثم ان المولى اذا كان في مقام الإفتاء أو الحكم ، فانه لا يصح منه إلا ان يكون بيانه منجزا، اما اذا كان في مقام التعليم فيجب ان يكون في مقام البيان، لكن البيان في الجملة لا البيان بالجملة، أي البيان التعليقي لا التنجيزي، وبتعبير ثالث البيان الإجمالي لا البيان التفصيلي، إذن عندنا لا بيان وعندنا بيان إجمالي وعندنا بيان تفصيلي، وعليه فانه لا يصح ان لا يكون في مقام البيان اي الإهمال بقول مطلق، لأن الإهمال أو الإجمال بقول مطلق لا ينسجم مع مقام التعليم، لأنهما مقام الهروب ومقام التقية وما أشبه.
تطبيق الأقسام الثلاثة على أدلة (المعرفة)
وبعد تمهيد هذه المقدمة ووضوحها نأتي إلى المقام والى الآيات والروايات التي تدل على وجوب المعرفة، لنبحث عن انها من اي الأقسام الثلاثة؟، فهل المولى لم يكن في مقام البيان مطلقا بان يكون في مقام الاهمال المطلق والإجمال المطلق بان يكون المولى عند قوله (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ)مثلاً في مقام الإهمال والإجمال المطلق، لا يعقل ذلك، وكذا قوله تعالى: ( وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)وهنا بيت القصيد في ما يرتبط بالمعرفة، فانه لا يعقل القول بان الآية في مقام الإهمال المطلق بل هي في مقام البيان بلا شك، عكس قوله تعالى: (ك هـ ي ع ص)حيث انها في مقام الاجمال وبعكس العديد من الآيات المتشابهة، ثم بعد ذلك نقول ان المولى كان في مقام البيان التنجيزي لا البيان التعليقي، عكس قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)فليس المولى هنا ليس في مقام الإهمال والإجمال المطلق لبداهة انه هنا لا يريد ان يضيعنا في متاهةٍ لتقية أو غيرها وإنما هو في مقام البيان، لكن هل هو في مقام البيان المنجز او المعلق؟ الظاهر
المستقلات العقلية، كمقام الفتوى، بيانها منجّز
انه في مقام البيان المعلق كما سيتضح لاحقاً.
اذن الفرق بين (أَقِمْ الصَّلاةَ)وبين (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ)أو (قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ)الفرق هو ان الأخيرة (قُلْ انْظُرُوا)في مقام البيان المنجز، وهذا إطار جديد نوعي يضاف للإطار العام الذي ذكرناه، فان الإطار العام السابق كان: إنّ المولى ان كان في مقام الحكم أو الفتوى فالمقام لا بد ان يكون مقام البيان التنجيزي المطلق، وان كان في مقام التعليم فهو مقام البيان التعليقي، وأما الإطار الثاني الذي سيوضح البحث أكثر فهو إطار المستقلات العقلية، ومبحثنا يندرج في هذا الإطار وان دخل في ذلك الإطار أيضاً، وفي ذلك مزيد تأكيد لمناقشتنا مع صاحب القوانين.
توضيح ذلك: انه كلما كان المولى في مقام إنشاء حكم يرتبط بالمستقلات العقلية البعض يعتبره إرشاداً ونعتبره إنشاء، ولا فرق من حيث ثمرة البحث ههنا ان نقول كلما كان المولى مرشدا لمستقل عقلي أو منشئاً لما استقل به العقل (لا فرق) أي كلما كان مصب إرشاد المولى أو مصب حكمه، المستقل العقلي فانه لابد ان يكون المولى في مقام البيان المنجز الفعلي من كل الجهات، كمقام الفتوى
والحاصل: ان مقام الفتوى هو مقام البيان التنجيزي وكذلك مقام بيان المستقلات العقلية إرشادا أو حكما فانه أيضا هو مقام البيان التنجيزي. والأمثلة كثيرة منها المقام (أدلة وجوب المعرفة) ومنها قوله تعالى: (لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ)و(اعْدِلُوا)وغيرها فان الآية في مقام البيان التنجيزي بقول مطلق، فلا يتوقف الأمر بعد سماعك لهذه الكلمة، على فحص او بحث عن المخصصات والمقيدات؛ لأن المستقل العقلي مما يستقل به العقل ولا يستقل العقل بأمر إلا بعد الإحاطة بكافة جوانبه، وهذا إرشاد لذلك المستقل أو أمر به فلا حالة انتظارية، وبوجه آخر: لأن المستقلات العقلية هي موضع الابتلاء وكل ما كان الحكم الصادر من المولى منشئا في حال الابتلاء فان تأخير ذكر قيد أو شرط خلاف الحكمة فلابد فيما لو كانت شروط او قيود، من ذكرها في الوقت نفسه فلو لم تذكر لدل على العدم.
اذن القضية ليست مهملة بالاصطلاح المنطقي السابق، بل هي من المحصورات التي هي بقوة المسورة بسور الكلية القطعية وان لم يذكر فيها لفظ كل، وكافة المستقلات العقلية من هذا القبيل.
ومن هذا القبيل قوله تعالى: (لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ)فانه بعد معرفة ان الشيطان هو العدو للانسان فالعقل يستقل بالمنع عن إتباع خطوات الشيطان سواء أكان الكلام من الشارع إنشاء أو إرشاد على الرأيين فتأمل وقوله: (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)و(وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)في المعارف هي مما يستقل العقل بحرمته فالاية هذه في موطن مستقل عقلي فهي في مقام البيان التنجيزي لا التعليقي فلا شرط ولا حالة انتظارية بل المقام مقام بيان مطلق بالجملة، أي مقام بيان تفصيلي لا اجمالي.
المخترعات الشرعية بيانها تعليقي
على العكس مما لو تعلق الامر بمخترع شارعي كالصلاة والصيام والحج مثل (كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ)فان المقام وإن لم يكن مقام الاهمال المطلق بل هو مقام بيان، لكنه ليس مقام بيان تفصيلي حتى يكون ذلك أن تمضي ولا تبحث عن الاجزاء والشروط والموانع؛ بل المقام هو منطقة وسطى فانه في مقام بيان اصل التشريع الان، اما التفاصيل من شرط او جزء فان نفيها موقوف على الفحص، ولابد من ملاحظة الدقة في ما ذكر إذ لا نقول انه في مقام بيان اصل التشريع مع كونه مهملا بقول مطلق للتفاصيل، بل نقول انه في مقام بيان اصل التشريع منجزّا، وفي مقام بيان التفاصيل معلّقا.
ومن هنا ننتقل إلى ان ما ذكر هو مصداق مؤطر جديد لما ذكرت من ان المولى قد يكون في مقام البيان من جهة دون جهة اخرى، وهذا كان مصداقاً لذاك: ان يكون في مقام بيان أصل التشريع منجزا فان (كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ)تفيد تشريع أصل الصيام بلا كلام لكن الشرائط المشكوكة والموانع المحتملة وشمول الصيام لمثل الكف عن الغبار الخفيف مثلاً، وسائر التفاصيل فهذه هل بينها المولى في قوله هذا؟
والجواب: انه بينها ولم يبينها، وهذا معنى كونه بياناً تعليقياً؛ اما لم يبينها فلأنه لم يذكرها تفصيلا واما انه بينها فلأنه مهدّ وصنع المقتضي لبيانها فانه عندما شرّع الصيام فقد جعل المقتضي الذي لو انضم اليه الفحص تم الإطلاق فيصح نفي كل مشكوك الجزئية والشرطية استناداً لمجموعهما اذن فقد بين اقتضاءا لا تنجيزا، فلم يبيّن بالفعل ولكنه بيّن بالقوة، فلولا (كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ)لما كان مجال للبحث عن ان هذا شرط او لا؟ وهل ان هذا مفطر او لا؟ اذن كتب عليكم الصيام كانت نافعة لنفي مشكوك الجزئية او الشرطية لكن نفعها معلق على الفحص فهي نافعة مع الفحص وغير نافعة بلا فحص، وكل الماهيات المخترعة من هذا القبيل، وهذا البيان يحتاج لمزيد بحث نتركه لمحله.
وبذلك اتضح ان الفرق بين المستقلات العقلية والمطلقات كـ(أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا)و(كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ)هو هذا، وان كليهما في مقام البيان الا ان احدهما بيانه تنجيزي والآخر بيانه تعليقي، اما آيات المعرفة فلأنها من المستقلات العقلية فالمقام مقام البيان التنجيزي وبتعبير اخر هي نظير مقام الحكم والفتوى، لا مقام التعليم المهمل في الجملة .
ما هي الثمرة من هذه المباحث؟
وسنذكر في البحث القادم الثمرة في هذا البحث المنوّع إضافة إلى ما في هذه البحوث من الموضوعية إلى كونها بحوثاً بحد ذاتها مبنائية في غاية الأهمية، أي بحث مقام التعليم ومقام الفتوى، وبحث مقام البيان التنجيزي والتعليمي، فانهما مبحثان مبنائيان مهمان سيالان ولم يوفّ حقهما من البحث بهذا التأطير في الأصول فيما نعلم، نعم بعض الفقهاء خاصة من المدرسة التفكيكية ومن المحدثين بحثوا مسألة مقام الفتوى ومقام التعليم بعض البحث ولكنه أيضاً لم يوف حق البحث.
إضافة إلى ذلك لا بد أن نأتي إلى الثمرة في خصوص مبحثنا، فانها تظهر في صورة الشك في القدرة بأنواعه الثلاثة كما سيأتي لكن نستبق ذلك بذكر وجه الاشكال على الثمرة؛ بعد وضوح ان القدرة لا شك في اشتراطها، ونمثل بمثال لتوضيح الاشكال الآتي ولتقويته ثم نرده حتى تظهر فوائد الثمرات أكثر فانه تعالى قال: (لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)فالاستطاعة قيد الوجوب وليست قيد الواجب، - عكس الاستقبال للصلاة، مثلاً فانها قيد الواجب وكذا الإحرام للحج - فبدون الاستطاعة لا وجوب للحج، وحيث انه لا يصح التمسك بالعام في الشبهة المصداقية فلو شككت انني مستطيع او لست بمستطيع فهل استطيع التمسك بإطلاق الآية؟ نقول: لا لأنها مصادرة إذ إنني شاك في تحقق الموضوع، وعليَّ اولا ان اثبت انني مستطيع لكي يشملني قوله تعالى: (لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)فكيف أتمسك بـ(ولله....) لإثبات الحكم على مشكوك الاستطاعة؟ لا يمكن التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، فكلما شككنا في القدرة وعدمها لا نستطيع التمسك بالعام، لكن هذا بالضبط هو موطن نقاشنا مع صاحب القوانين في ثلاث ثمرات سنذكرها ترتبط بالشك ثم سنذكر تخلصاً آخر، لبعض الاصوليين، من هذه الشبهة بوجه ثاني، لكن ما نذكره نراه مقدما رتبة على الوجه الذي التجأ إليه في (المصباح)، كما سيأتي بإذن الله تعالى.
وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين |