• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : الطهارة (1446هـ) .
              • الموضوع : 011- الطهارة عدم اعتبار أو اعتبار العدم أو... ــ تعارض استصحاب عدم المجعول مع عدم الجعل، على القولين .

011- الطهارة عدم اعتبار أو اعتبار العدم أو... ــ تعارض استصحاب عدم المجعول مع عدم الجعل، على القولين

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(11)


3- الطهارة اعتبار العدم
ومنها[1]: ما ذهب إليه المحقق التبريزي (قدس سره)، من أن الطهارة هي اعتبار العدم لا عدم الاعتبار (فهذا بتعبيرنا عن مقصوده) وأما تعبيره فهو انها (اعتبار الخلو عن الخبث)[2]، قال: (ولا يخفى أن الطهارة من الخبث كالطهارة من الحدث حكم وضعي فيكون أمراً اعتبارياً كالخبث وليست طهارة شي‌ء مجرد عدم اعتبار النجاسة فيه بل اعتبار خلو الشي‌ء عن الخبث كما يشهد بذلك خطابات كيفية تطهير المتنجسات كما هو الحال في الحلية أيضاً في مقابل الحرمة فليست حلية شي‌ء مجرد عدم اعتبار حرمته بل هي اعتبار عدم حرمته.
ودعوى عدم الحاجة إلى هذا الاعتبار بعد اعتبار النجاسة كدعوى عدم الحاجة إلى اعتبار الحلية بعد اعتبار الحرمة للمحرمات، مدفوعة بأن الأمر الاعتباري يكفي فيه الأثر والخروج عن اللغوية، فاعتبار الطهارة لغير النجاسات للردع عن ما عندهم في بعض الأشياء من عدها من الأخباث والقذارات كما يرى من‌ العادات عند بعض المجتمعات حتى من المتشرعة)[3].


المحتملات الثلاثة
أقول: هنالك محتملات ثلاث في الطهارة: عدم الاعتبار وهو ما اختاره العناوين، واعتبار العدم (أو اعتبار الخلو) وهو ما اختاره الشيخ التبريزي، والثالث هو ما نختاره وهو انها أمر وجودي، وليست عدم الاعتبار ولا مجرد اعتبار الخلو بل إذا قلنا بأن الطهارة ضد النجاسة وانهما وجوديان، فقد نقول بكونهما واقعيين كما سيأتي وقد نقول بكونهما اعتبارين مجعولين، فكما أن النجاسة اعتبار لأمر يتحقق به، وهو شيء لا عدم ولا اعتبار عدم الطهارة، فكذا الطهارة اعتبار لأمر تتحقق به وهو شيء، لا عدمٌ ولا اعتبار الخلو من النجاسة أو الخبث.
وينبغي أولاً توضيح كلامه وتقريبه: اننا لو تصورنا دائرتين: في الأولى منهما توجد النجاسات والمحرمات، وفي الدائرة الثانية توجد سائر الأشياء، فعلى القول بأن النجاسة عدمُ اعتبارٍ فإن الشارع جعل النجاسة (وشرّعها) على ما في الدائرة الأولى وسكت عن الدائرة الثانية أي لم يجعل شيئاً فهذا عدم الاعتبار، وأما على الرأي الثاني فإن الشارع اعتبر خلو ما في الدائرة الثانية من الخبث، وأما على الرأي الثالث الذي نختاره: فإن الشارع اعتبر وجود صفة وعَرض أو شيء له تقرر في عالم الاعتبار وهو الطهارة. (واعتبره أي أوجده في صقعه) والحلية هي اعتبار الحلية وليست عدم اعتبار الحرمة ولا اعتبار عدم الحرمة.
وقوله: (ودعوى عدم الحاجة إلى هذا الاعتبار بعد اعتبار النجاسة) أي بعد اعتبارها في أمور معينة، فإذا اعتبر النجاسة في أمور معينة أغنى ذلك عن أن يعتبر شيئاً في الدائرة الأخرى (المسماة بالطاهرة).
وقوله (للردع عن...) بعبارة أخرى: يكفي في فائدة اعتبار الخلو  واعتبار عدم الحرمة، التأكيد والردع لأن الناس يرون أشياء عديدة قذرة مثل بول الشاة والبقر وكذا المخاط وبلل الفرج والمقعد، لكن الشارع لا يراها قذرة (أي لا يراها نجسة أي انه قال بطهارتها).
وحيث ان اعتقاد الناس بذلك شديد فلا يكفي في الردع مجرد السكوت، (وجعل النجاسة على الدائرة الأولى فقط والسكوت عن الدائرة الثانية) بل يلزم، تأكيداً وردعاً، النطق بحال الدائرة الثانية عبر اعتبار خلوها عن الخبث أي انه اعتبرها خالية عن الخبث وعندنا عبر اعتبار طهارتها أي اعتبر صفة معنوية لها.


والمرجع الارتكاز وظواهر الأدلة
وعلى أي فإن المرجع في ذلك الارتكاز وظواهر الأدلة، فإن الارتكاز على أن الطهارة أمر وجودي (وليست مجرد عدم الاعتبار أو اعتبار الخلو) كما ذهب إليه بعض الأعلام، قال السيد السبزواري: (الثالث: الظاهر كونهما أمرين وجوديين متضادين كالبياض والسواد لا أن يكون أحدهما وجوديّاً والآخر عدميّاً، لإباء المرتكزات عنه، فإنّهم يرون النظافة والقذارة وجوديين، كما لا يخفى على من راجع إليهم)[4]، وقال الشهيد الصدر: (وتنقسم الطهارة إلى أصناف متعدِّدة، بانقسام الدنس الذي ترفعه وتقوم بالتنزيه عنه. وهذه الأصناف للأدناس وإن اختلفت في الحقيقة، إلَّا أنها ذات فهم معنوي واحد، ما دام الشعور بالدنس مشتركاً بينها جميعاً. على أن اختلاف الدنس في الحقائق، لا يعني اختلاف الطهارة في الحقيقة، لأنها تعني معنى واحداً، وهو ارتفاع الدنس مهما كان جنسه. سواء فهمنا منها معنى عدميّاً وهو ارتفاع الدنس وانعدامه، أو معنى وجوديّاً حاصلًا بعد ذلك الانعدام. وهو الصحيح الموافق للارتكاز العرفي والعقلي معاً. فإنَّ النزاهة والنظافة ذات معنى مفهوم قائم بذاته، غير أنه حاصل بسبب زوال الدنس وانعدامه)[5]. وسيأتي نقل قول الشيخ (قدس سره) وغيره.


طوائف الأخبار المستظهر منها كون الطهارة أمراً وجودياً
كما تدل عليه ظواهر الأدلة بحسب ما يفهمه الناس منها وهي طوائف:
ومنها: ما ورد فيه لفظ الطهور كما فيما روي: ((أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) كَانَ يَقُولُ عِنْدَ النَّظَرِ إِلَى الْمَاءِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ الْمَاءَ طَهُوراً وَلَمْ يَجْعَلْهُ نَجِساً))[6]، فإن ظاهره أن كليهما مجعول بوِزان واحد وانهما إيجابيان.
لا يقال: العطف عطف بيان؟
إذ يقال: بعد أن الأصل عطف المباين على المباين وعطف البيان خلاف الأصل، ان ظاهر الرواية كون كل من الطهارة والنجاسة مجعولين بوِزان واحد وأن الله تعالى جعل الطهارة للماء ولم يجعل النجاسة لها، فهما ضدان وقد جعل هذا ولم يجعل ذاك.
ومنها: ما ورد فيه لفظ طَهُرَ، فعن أبي عبد الله في حديث، قال: ((قُلْتُ: يَسِيلُ عَلَيَّ مِنْ مَاءِ الْمَطَرِ أَرَى فِيهِ التَّغَيُّرَ وَأَرَى فِيهِ آثَارَ الْقَذَرِ، فَتَقْطُرُ الْقَطَرَاتُ عَلَيَّ وَيَنْتَضِحُ عَلَيَّ مِنْهُ، وَالْبَيْتُ يُتَوَضَّأُ عَلَى سَطْحِهِ فَيَكِفُ عَلَى ثِيَابِنَا؟ قَالَ: مَا بِذَا بَأْسٌ لَا تَغْسِلْهُ، كُلُّ شَيْ‏ءٍ يَرَاهُ مَاءُ الْمَطَرِ فَقَدْ طَهُرَ))[7]، إذ العرف يفهم من ((فَقَدْ طَهُرَ)) معنى قائم بالشيء، إيجابي وأما القول بانه يعني (اعتبار خلو الشيء عن الخبث) فهو غريب عن الأفهام العرفية ولعله مما لا يخطر ببال أحدهم بل قد يصعب عليهم تصوره!
وما ورد فيه لفظ يطهِّر فعن ابن أبي يعفور، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ((قُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ مَاءِ الْحَمَّامِ، يَغْتَسِلُ مِنْهُ الْجُنُبُ وَالصَّبِيُّ وَالْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ وَالْمَجُوسِيُّ؟ فَقَالَ: إِنَّ مَاءَ الْحَمَّامِ كَمَاءِ النَّهَرِ يُطَهِّرُ بَعْضُهُ بَعْضاً))[8]، فإن ظاهر يطهر إيجابي أي يُوجِد فيه الطهارة، لا سلبي: (عدم اعتبار النجاسة) ولا (اعتبار الخلو من الخبث).
وكذا ما ورد عن محمد بن إسماعيل بن بزيع، قال: ((كَتَبْتُ إِلَى رَجُلٍ أَسْأَلُهُ أَنْ يَسْأَلَ أَبَا الْحَسَنِ الرِّضَا (عليه السلام) عَنِ الْبِئْرِ تَكُونُ فِي الْمَنْزِلِ لِلْوُضُوءِ فَيَقْطُرُ فِيهَا قَطَرَاتٌ مِنْ بَوْلٍ أَوْ دَمٍ أَوْ يَسْقُطُ فِيهَا شَيْ‏ءٌ مِنْ غَيْرِهِ كَالْبَعْرَةِ أَوْ نَحْوِهَا، مَا الَّذِي يُطَهِّرُهَا حَتَّى يَحِلَّ الْوُضُوءُ مِنْهَا لِلصَّلَاةِ؟ فَوَقَّعَ (عليه السلام) فِي كِتَابِي بِخَطِّهِ: يُنْزَحُ مِنْهَا دِلَاءٌ))[9].
ومنها: ما وردت فيه صفة، كالقاهرية والغلبة، المستظهر منها كون الطهارة أمراً إيجابياً، فعن عبد الله بن سنان قال: ((سَأَلَ رَجُلٌ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) وَأَنَا حَاضِرٌ عَنْ غَدِيرٍ أَتَوْهُ وَفِيهِ جِيفَةٌ؟ فَقَالَ: إِنْ كَانَ الْمَاءُ قَاهِراً وَلَا تُوجَدُ مِنْهُ الرِّيحُ فَتَوَضَّأْ))[10] فإن قاهريته هي سبب اعتصامه واعتصامه سبب بقائه طاهراً.
وفيه: انه أعم إذ يحتمل كون الاعتصام سبب عدم تنجسه لذا يصح الوضوء به.
ولكن يرد عليه: ان صحة الوضوء وصحة الصلاة رتبت على طهورية الماء لا على عدم تنجسه، وظاهر الطهورية والطاهر انه عنوان وجودي فعن أبي جعفر (عليه السلام) ((لَا صَلَاةَ إِلَّا بِطَهُور))[11] الظاهر في أمر وجودي لا عدمي وعن الإمام الصادق (عليه السلام) ((الصَّلَاةُ ثَلَاثَةُ أَثْلَاثٍ: ثُلُثٌ طَهُورٌ، وَثُلُثٌ رُكُوعٌ، وَثُلُثٌ سُجُودٌ))[12] فإن من خلاف الظاهر جداً أن يراد: ثلث عدم نجاسةٍ...
وعن أبي جعفر (عليه السلام): ((إِذَا دَخَلَ الْوَقْتُ وَجَبَ الطَّهُورُ وَالصَّلَاةُ وَلَا صَلَاةَ إِلَّا بِطَهُورٍ))[13] إذ يبعد جداً كون المراد وجب عدم الحدث، لكنّ الروايات الماضية عن الطهارة من الحدث فهي نافعة لإثبات كونه وجودياً، لا لخبث، فتدبر وتأمل.
وعن شهاب بن عبد ربه قال: ((أَتَيْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) أَسْأَلُهُ: فَابْتَدَأَنِي فَقَالَ: إِنْ شِئْتَ فَاسْأَلْ يَا شِهَابُ وَإِنْ شِئْتَ أَخْبَرْنَاكَ بِمَا جِئْتَ لَهُ؟
قُلْتُ: أَخْبِرْنِي جُعِلْتُ فِدَاكَ، قَالَ: جِئْتَ لِتَسْأَلَنِي عَنِ الْجُنُبِ يَغْرِفُ الْمَاءَ مِنَ الْحُبِّ بِالْكُوزِ فَيُصِيبُ يَدُهُ الْمَاءَ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ، قَالَ: وَإِنْ شِئْتَ سَلْ وَإِنْ شِئْتَ أَخْبَرْتُكَ قَالَ: قُلْتُ أَخْبِرْنِي، قَالَ: جِئْتَ تَسْأَلُ عَنِ الْجُنُبِ يَسْهُو وَيَغْمُرُ يَدَهُ فِي الْمَاءِ قَبْلَ أَنْ يَغْسِلَهَا، قُلْتُ: وَذَاكَ جُعِلْتُ فِدَاكَ، قَالَ: إِذَا لَمْ يَكُنْ أَصَابَ يَدَهُ شَيْ‏ءٌ فَلَا بَأْسَ بِذَاكَ، سَلْ وَإِنْ شِئْتَ‏ أَخْبَرْتُكَ، قُلْتُ: أَخْبِرْنِي قَالَ: جِئْتَ لِتَسْأَلَنِي عَنِ الْجُنُبِ يَغْتَسِلُ فَيَقْطُرُ الْمَاءُ مِنْ جِسْمِهِ فِي الْإِنَاءِ أَوْ يَنْضَحُ الْمَاءُ مِنَ الْأَرْضِ فَيَقَعُ فِي الْإِنَاءِ، قُلْتُ: نَعَمْ جُعِلْتُ فِدَاكَ، قَالَ: لَيْسَ بِهَذَا بَأْسٌ كُلِّهِ، فَاسْأَلْ وَإِنْ شِئْتَ أَخْبَرْتُكَ، قُلْتُ: أَخْبِرْنِي قَالَ: جِئْتَ لِتَسْأَلَنِي من [عَنِ‏] الْغَدِيرِ يَكُونُ فِي جَانِبِهِ الْجِيفَةُ أَتَوَضَّأُ مِنْهُ أَوْ لَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَتَوَضَّأْ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ، إِلَّا أَنْ يَغْلِبَ عَلَى الْمَاءِ الرِّيحُ وَجِئْتَ لِتَسْأَلَ عَنِ الْمَاءِ الرَّاكِدِ مِنَ الْبِئْرِ، قَالَ: فَمَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَغْيِيرٌ أَوْ رِيحٌ غَالِبَةٌ، قُلْتُ: فَمَا التَّغْيِيرُ؟ قَالَ: الصُّفْرَةُ، فَتَوَضَّأْ مِنْهُ، وَكُلَّمَا غَلَبَ عَلَيْهِ كَثْرَةُ الْمَاءِ فَهُوَ طَاهِرٌ))
[14].
فالطهارة معلولة غلبة كثرة الماء فهي أمر وجودي، فتأمل.


ومنها: ما وردت فيه لفظة الطيّب فعن زرارة قال: ((قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام): بِئْرٌ قَطَرَتْ فِيهَا قَطْرَةُ دَمٍ أَوْ خَمْرٍ؟ قَالَ: الدَّمُ وَالْخَمْرُ وَالْمَيِّتُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ فِي ذَلِكَ كُلُّهُ وَاحِدٌ، يُنْزَحُ مِنْهُ عِشْرُونَ دَلْواً، فَإِنْ غَلَبَ الرِّيحُ نُزِحَتْ حَتَّى تَطِيب‏))[15]، فإن الطيب عند العرف معنى قائم بذاته إيجابي، والمراد منه، على المشهور عند القدماء، ما يقابل النجاسة فالطيب هو الطاهر، نعم يراد غيره بعد انقلاب الشهرة، وعليه: فالطيب يغايرها ويزيد عليها.
نعم، بناءً على أن الطهارة والنجاسة لم تستعمل في لسان الشارع إلا في معانيها العرفية، وبناءً على كون الطهارة عند العرف مرادفة للنظافة والنزاهة، فقد يقال بأن النظافة عندهم عدم القذارة والنزاهة كذلك وليست أعراضاً ثبوتية، فتأمل؛ إذ لو تم استظهارنا السابق من الروايات كان حاكماً ولأن النظافة عند العرف أمر فوق عدم القذارة إذ العرف يرى أضداداً ثلاثة: القذارة، عدمها وذلك في المتوسط، والنظافة وهي فوق مجرد عدم القذارة، فمن غسل يده الدّسمة، بالماء، لم يكن قذراً عندهم لكنه لا يعبر عبر بالنظيف إلا لو غسلها بالصابون مثلاً. فتأمل وانتظر تتمة للبحث.
وستأتي مناقشة قوله: (ولا يخفى أن الطهارة من الخبث كالطهارة من الحدث حكم وضعي فيكون أمراً اعتبارياً كالخبث...) إذ سيأتي أن الأحكام الوضعية قسمان، واقعي تكويني واعتباري.


الطهارة من الحدث
وأما الطهارة من الحدث فأمرها أوضح إذ الظاهر كونها أمراً إيجابياً لشدة ظهور مثل قوله (عليه السلام) ((أَنَّ الْوُضُوءَ عَلَى الْوُضُوءِ نُورٌ عَلَى نُور))[16]، فإن النور أمر وجودي، ولئن شك في كون الظلام وجودياً واحتمل كونه عدم الضياء فإن النور لا شك في انه أمر وجودي، وحمله على الوضوء ظاهر في كونه كذلك، فإن المراد من نور على نور انه طهور على طهور أو هو معروضه، وخلافه (كاعتبار الخلو عن الحدث) خلاف الظاهر جداً، وقوله (عليه السلام) ((الطُّهْرُ عَلَى الطُّهْرِ عَشْرُ حَسَنَات‏))[17] فإنه بعيد جداً أن يراد: عدم النجاسة على عدم النجاسة عشر حسنات!


هل الطهارة والنجاسة واقعيان أم اعتباريان؟
البحث الخامس: هل الطهارة والنجاسة أمران واقعيان كشف عنها الشارع أو انهما أمران اعتباريان محضاً؟ أم هنالك تفصيل كما سيأتي؟.


الثمرة: معارضة استصحاب عدم الجعل لاستصحاب المجعول
وقبل الخوض في ذلك لا بد من بيان ثمرة الخلاف، فقد قيل: بان الثمرة تظهر في جريان معارضة استصحاب عدم الجعل لاستصحاب المجعول، على القول بكونهما اعتباريين مجعولين، دون القول بكونهما تكوينيين إذ ليست النجاسة، على هذا، مجعولة شرعاً، ليجري استصحاب عدم جعلها، قال في فقه الشيعة: (فالمعروف فيه هو التمسك باستصحاب النجاسة. ولا يرد عليه الإشكال بتعدد الموضوع بتوهم أن المحكوم بالنجاسة سابقاً هو الماء المتغير، وما يشك في بقاء النجاسة له غير المتغير، لاندفاعه بأن الموضوع في نظر العرف هو الماء والتغير من حالاته، وإنما الشك من جهة أن التغير هل هو علة للنجاسة حدوثاً وبقاء أو حدوثاً فقط، كما حقق في محله.
نعم يرد عليه ما ذكرناه في مباحثنا الأصولية من الإشكال على الاستصحاب في الشبهات الحكمية من جهة معارضته دائماً باستصحاب عدم الجعل أزلاً بالنسبة إلى الزمان المشكوك فيه.
ففي المقام: يكون استصحاب النجاسة إلى ما بعد زوال التغير معارضاً باستصحاب عدمها[18] في هذا الحال، فالمرجع بعد التساقط بالمعارضة قاعدة الطهارة)[19].
توضيحه: ان عالم الجعل يختلف عن عالم المجعول، فالأول عالم الإنشاء والثاني عالم الـمُنشَأ[20] والإنشاء قائم بالفاعل فإنه فعله، وأما المنشأ فهو صفة قائمة بالقابل، فإنّ جَعْل النجاسة هو فِعل الشارع إذ هو إيجادُ اعتبارٍ (بناءً على انها اعتبارية) أو إيجادُ أمرٍ تكويني (بناءً على انها أمر واقعي) وأما النجاسة فهي صفة للبول والغائط مثلاً والتنجس صفة لليد الملامسة لها، فهذا إذاً غير ذاك.
وحينئذٍ: فقد يشك في المجعول الموجود سابقاً انه لا زال (أو المجعول المعدوم سابقاً انه انقلب) وقد يشك في سعة جعل الشارع وانه جعل النجاسة واسعة بحيث تشمل الحد المشكوك أو ضيّقة لا تشمله، فالضيّق قدر متيقن والأكثر مشكوك فالأصل عدمه.


مثال: الكر الزائل تغيره من قبل نفسه
ومثاله الكر الذي زال تغيره من قبل نفسه[21] فإنه إذا استظهر الفقيه شمول إطلاق ((إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ كُرّاً لَا يُنَجِّسُهُ شَيْ‏ءٌ))[22] له فهو وإذا استظهر العدم فهو[23].
وأما إذا تحير وشك فلا ينعقد الإطلاق لديه فالمرجع حينئذٍ الأصول العملية فنقول هنا استصحابان:
أ- استصحاب المجعول يعني استصحاب النجاسة السابقة التي كانت موجودة حال التغير فنستصحبها بعده.
ب- استصحاب عدم الجعل إذ يشك في سعة جعل الشارع وانه هل جعل النجاسة واسعة بحيث تشمل الكر الذي زال تغيره من قبل نفسه أو لا، والأصل العدم.
وحينئذٍ يتعارضان ويتساقطان، حسب عبارة فقه الشيعة الآنفة، ويرجع إلى قاعدة الطهارة.
لكن الصحيح عدم تمامية ذلك لوجوه أربعة آتية.
وبناءً على عدم الصحة فإن الفرق السابق غير صحيح أي ان استصحاب عدم الجعل لا يجري سواء أقلنا بأن النجاسة أمر تكويني (فلا يجري استصحاب عدم الجعل، لأن التكويني لا يعقل جعله تشريعاً) أم قلنا بان النجاسة أمر اعتباري، إذ لا يجري استصحاب عدم الجعل أيضاً (لوجوه أربعة) فيبقى استصحاب المجعول (أي وجود نجاسة الكر الزائل تغيره) بدون معارض، نعم إن تم ذلك تم الفرق وظهرت الثمرة.
 
أسئلة:
- هل الحِلّيّة أمر غير جواز الأكل وشبهه؟
- انتقد استظهارنا من الروايات كون الطهارة صفة وعرضاً، أو أيّده وقوّه.
- اشرح بعباراتك معنى استصحاب عدم الجعل.
- أوضح بعباراتك كيفية تعارض استصحاب المجعول مع استصحاب عدم الجعل.
- اذكر مثالاً آخر لذلك غير الكر الزائل تغيّره من قبل نفسه.

- عن أبي بصير قال: ((سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) عَنْ حَدِّ الْعِبَادَةِ الَّتِي إِذَا فَعَلَهَا فَاعِلُهَا كَانَ مُؤَدِّياً، فَقَالَ: حُسْنُ النِّيَّةِ بِالطَّاعَةِ)) الكافي: ج2 ص85.
 


وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

-------------------------------------

[1] من الوجوه التي يردّ بها على قول صاحب العناوين بأن الطهارة هي عدم النجاسة.
[2] وإن أمكن تفسير الخلو بمعنى إيجابي، نظير الكف والإمساك في الصوم مقابل الترك ولكن الظاهر ان قصده ما ذكرناه (اعتبار العدم) على أن أياً منهما أريد فهو رد على (العناوين).
[3] الميرزا جواد التبريزي، دروس في مسائل علم الأصول، دار الصديقة الشهيدة (سلام الله عليها) ـ قم: ج5 ص187-188.
[4] السيد عبد الأعلى السبزواري، مهذب الأحكام في بيان الحلال والحرام، دار التفسير ـ قم: ج1 ص120.
[5] السيد محمد الصدر، ما وراء الفقه، الناشر: المحبين للطباعة والنشر: ج1 ص54.
[6] الشيخ الحر العاملي، وسائل الشيعة، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) ـ قم: ج1 ص135.
[7] الشيخ الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج3 ص13.
[8] الشيخ الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج3 ص14.
[9] الشيخ الطوسي، الاستبصار، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج1 ص44.
[10] الشيخ الحر العاملي، وسائل الشيعة، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) ـ قم: ج1 ص141.
[11] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مؤسسة النشر الإسلامية التابعة لجماعة المدرسين بقم المقدسة: ج1 ص58.
[12] الشيخ الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامي ـ طهران: ج3 ص273.
[13] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مؤسسة النشر الإسلامية التابعة لجماعة المدرسين بقم المقدسة: ج1 ص33.
[14] محمد بن حسن الصفار، بصائر الدرجات، مكتبة المرعشي النجفي ـ قم: ج1 ص239.
[15] الشيخ الحر العاملي، وسائل الشيعة، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) ـ قم: ج1 ص179.
[16] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مؤسسة النشر الإسلامية التابعة لجماعة المدرسين بقم المقدسة: ج1 ص41.
[17] الشيخ الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج3 ص72
[18] أي عدم جعلها في حال ما بعد الزوال.
[19] السيد محمد مهدي الموسوي الخلخالي، فقه الشيعة، مؤسسة الآفاق: ج1 ص93.
[20] وقد يقال ان الثاني (عالم المجعول) يراد به عالم الفعلية، وله تفصيل أشرنا إليه في بحث سابق.
[21] وقد يلحق به ما زال تغيره بتصفيق الرياح أو بإلقاء مادة كيماوية فيه، وفصّل بعض.
[22] الشيخ الطوسي، تهذيب الأحكام، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج1 ص150.
[23] وجههما: 1- دعوى ظهور (إذا بلغ) في الحدوث، فلا يصدق على الكر الذي زال تغيره عنوان إذا بلغ. 2- دعوى ظهور كونه كناية عن المعنى الاسم مصدري وان إذا بلغ يعني إذا كان الماء كراً، والكر بعد زوال التغير كرّ.

 


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=4589
  • تاريخ إضافة الموضوع : الثلاثاء 04 ربيع الثاني 1446هـــ
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 02 / 22