بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(12)
إشكالات على معارضة استصحاب عدم الجعل
ولكن قد أورد، أو يمكن أن يورد، على معارضة استصحاب عدم الجعل لاستصحاب المجعول، بوجوه:
تعارض الاستصحابين الفوقانيين
الأول: ان ههنا ثلاث استصحابات، لا استصحابان، وهي: استصحاب المجعول (نجاسة هذا الكر الزائل تغيّره من قبل نفسه) وفوقه استصحابان: استصحاب عدم جعل النجاسة (أو عدم جعل الحرمة) واستصحاب عدم جعل الطهارة (أو عدم جعل الحلية)، فيتساقطان فيرجع إلى استصحاب المجعول من غير أن يعارضه استصحاب عدم جعل النجاسة (لأنه سقط في رتبة سابقة بالتعارض).
وذلك تام بناءً على كون الطهارة والنجاسة مجعولين (وكذا الحرمة والحلية)، ولكن إذا قلنا بأن النجاسة مجعولة ان الطهارة فهي عدم النجاسة[1] فلا؛ لما سبق تقريره عن صاحب العناوين، ولكن سبق الجواب بوجوه خمسة فيتعارض الاستصحابان حينئذٍ.
وأما بناءً على كونهما تكوينيين، فلا يجري استصحاب عدم الجعل مطلقاً إذ لا جعل، فيبقى استصحاب المجعول دون معارضٍ.
استصحاب عدم الجعل لا هو حاكم ولا معارض
الثاني: ان استصحاب عدم الجعل حاكم على استصحاب المجعول، لأنه سبب والأصل السببي مقدم على المسببي، فلا يعارضه استصحاب المجعول كي يتساقطا ونرجع لقاعدة الطهارة، بل المرجع أولاً وأخيراً استصحاب عدم جعل النجاسة.
لكن قد يقال: ان استصحاب عدم الجعل لا هو حاكم (كما أشرنا إليه الآن) ولا هو معارض (كما قاله فقه الشيعة)، وذلك بناءً على عدم حجية الأصل المثبت؛ وذلك لأن الجعل والمجعول الاعتباريين، هما كالكسر والانكسار الحقيقيين فإن الكسر عِلّة الانكسار ولذا تقول: كسرته فانكسر، ولا يتوهم ان الكسر عين الانكسار والجعل عين المجعول كما زعمه بعضهم، إذ ذلك غير معقول لأن الكسر قائم بالفاعل، الكاسر، وكذا الجعل قائم بالجاعل، أما الانكسار والمجعول فهو قائم بالقابل (وهو الإناء ونجاسة ماء الكر المتغير مثلاً) ولا يعقل أن يكون القائم بالفاعل عين القائم بالقابل[2].
والحاصل: أحدهما علّة والآخر معلول ولذا صح: كسرتُه فانكسر (وجعل المولى الحرمة أو النجاسة فوجدت) ولا يصح العكس (انكسر فكسرته، أو وُجِدت الحرمة فجعلها المولى) كما لا تصح المساواة (كسرته فكسرته، أو انكسر فانكسر).
وحينئذٍ: فالانكسار والمجعول معلول للكسر والجعل، والمعلول لازم تكويني للعلّة، والأصل لا يثبت لوازمه العقلية والعادية، فلا يصح إجراء أصل عدم الجعل لإثبات عدم المجعول (عدم النجاسة) كي يحكُمَ على، أو يعارِض، استصحابَ المجعول. اللهم إلا أن يدعى أن الواسطة خفية، وهو ضعيف إذ العرف يفرّق بين العلّة والمعلول بوضوح. فتأمل؛ إذ الحرمة أو النجاسة التي هي المعلول حكم شرعي يراد نفيه باصالة عدم الجعل فلم تترتب عليه بواسطة المعلول، لتكون هناك واسطة عقلية تكوينية بل هي المعلول نفسه وهي المترتب على أصالة عدم جعل الحرمة وأصالة عدم جعل النجاسة وهي حكم شرعي ترتبت على الأصل دون وسيط.
والحاصل: ان المنفي بالأصل يصح أن يكون حكماً شرعياً (كما في أصل عدم الحرمة في المجعول) ويصح أن يكون لازماً شرعياً للمنفي بالأصل (أصل عدم جعل الحرمة المنتج لعدم الحرمة التي هي حكم شرعي) فتدبر.
لا يوجد أثر شرعي لعدم الجعل
الثالث: انه لا أثر شرعياً لعدم الجعل بل الأثر لعدم الفعلية، كما نقل عن المحقق النائيني: توضيحه: ان الآثار الشرعية هي آثار الفعلية لا آثار الجعل، فإذا قال: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ}[3] تحقق الجعل لكنه لا يَلزَم المكلَّف شيءٌ إلا إذا تحققت الاستطاعة (التي قد يعبّر عنها بالموضوع)[4] فإذا تحققت تحققت فعلية الوجوب، وكذا الصلاة قبل الدلوك وبعده فإنها بعد الدلوك فِعليةٌ، وأما قبله فليس إلا الجعل والإنشاء[5].
وعليه: لا يجري استصحاب عدم جعل النجاسة أو الحرمة، لأنه ليس له أثر شرعي فتأمل[6].
لكلِّ استصحابٍ مخاطَبٌ مختلف
الرابع: ان المخاطَب باستصحاب عدم الجعل غير المخاطَب باستصحاب المجعول، إذ المخاطب بالأول هو المجتهد (المفتي) والمخاطب بالثاني العامي (الـمُجري) فلا تعارض إذ كل من الاستصحابين آخذ بعنق أحدهما دون الآخر فلم يقعا على مصب واحد وشخص فارد ليتعارضا (أو ليحكم أحدهما على الآخر)[7].
بعبارة أخرى: انّ وظيفة المجتهد إجراء الاستصحاب وعدمه في الأحكام الكلية متى فقد الدليل اللفظي، وأما المقلد فإنما يجري الاستصحاب في الموضوع الجزئي (وهو استصحاب المجعول) ولا يحق له الفتوى بإجرائه وعدمه في الحكم الكلي ومرتبة الجعل، فلا حكومة ولا تعارض، فتأمل.
لا وحدة بين القضيتين المتيقنة والمشكوكة
الخامس: بل انه لا توجد وحدة موضوع بينهما، لدى المجتهد ليكون أحدهما حاكماً على الآخر أو معارضاً.
بيانه: ان المجتهد شأنه الأحكام الكلية الواردة بنحو القضايا الحقيقية، وقد اجتمعت لديه قضيتان، في المقام:
الأولى: (الماء الكر المتغير بالنجاسة نجس) وهي قضية كلية لا يرقى إليها الشك ثابتة على مر الأزمان.
الثانية: (الكر المتغير الذي زال تغيره من قبل نفسه، لا أعلم حكمه، إذ الفرض أن الدليل اللفظي مفقود)[8] وهي قضية كلية ثابتة على مر الأزمان كذلك، وليست احدى القضيين هي متيقنة الأخرى والأخرى مشكوكتها، بل كل منهما أجنبي عن الآخر أي لكل منهما موضوعه ومحموله، ولا يجتمعان، بما هما أمران كليان في عالم نفس الأمر، أبداً، وإنما يتحقق موضوع الاستصحاب (وتكون احداهما متيقنةَ الأخرى) لو نزلنا إلى عالم المجعول والتمصدق والجزئي فكان لدينا ماء كر قد تغير ثم زال تغيره من قبل نفسه، فهذا الماء المصداقي – الجزئي (الذي نجاسته مجعولة) صار مجمع القضيتين فيقال: هذا الماء كان نجساً وقد شككنا في نجاسته الآن، لزوال تغيره، فنستصحب نجاسته.
والحاصل: في مرحلة المجعول يوجد موضوع واحد ممتد إذ وجدت قضيتان انصبتا على موضوع واحد لها امتداد زمني فصار لنا متيقن سابق ومشكوك لاحق، أما في مرحلة الجعل فتوجد قضيتان كليتان، لا رابط بينهما وليس أحدهما امتداداً للآخر موضوعاً وليست القضية المتيقنة نفس المشكوكة ولا الموضوع واحد، فكيف يجري استصحاب عدم الجعل بجرّ القضية الأولى إلى القضية الثانية؟
المعيار في الاستصحاب النظر العرفي لا الدقي
السادس: ان استصحاب المجعول، أمر عرفي، والمدار فيه النظر العرفي وهو المرجع في (استصحاب نجاسة هذا الماء الذي كان متغيراً فزال تغيره) أما استصحاب عدم الجعل فهو أمر دقي، لا يلتفت إليه العرف أصلاً بل قد ينكره إذ يراه فضولاً في عالم جعل البارئ تعالى وتحقيقاً فيه وهو مما ليس من شأننا ولا من حدود صلاحياتنا (أي ما الذي صنعه البارئ جل اسمه في عالم الجعل: هل جعل وسيعاً أو ضيقاً) ولو سلم أن لنا الصلاحية، إذ للعقل أن يتدبر في ذلك، فإنه يتطلب نظراً دقياً. والمخاطب بأدلة الاستصحاب مثل ((لِأَنَّكَ كُنْتَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ طَهَارَتِكَ ثُمَّ شَكَكْتَ فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَنْقُضَ الْيَقِينَ بِالشَّكِّ أَبَداً))[9] هو العرف، والمعيار النظر العرفي لا الدقي الفلسفي إذ {بِلِسانِ قَوْمِه} هو اللسان العرفي لا الدقي.
لا يقال: لا مانعة جمع؟
إذ يقال: أولاً: قد يقال بالامتناع وانه نظير الجمع بين اللحاظين الآلي والاستقلالي، وإن لم يكن صغراه.
ثانياً: سلّمنا الإمكان، لكن الأدلة عن الدقي منصرفة. فتأمل.
تنبيه: في العديد من الإشكالات السابقة كلام وأخذ ورد ونقاش، ولكن الغرض كان مجرد الإشارة إلى موجز الإشكالات التي أوردها الأعلام أو التي يمكن أن تورد، ليكون الطلاب الكرام على بيّنة، وأما التفصيل فمحله الأصول خاصة وقد وعدنا الطلبة بعدم التوسع في المباني الأصولية ومناقشاتها والاكتفاء بالتذكير بعناوينها وأهم الأدلة والإشكالات عليها دون بسط كلام ونقض وإبرام والله الهادي وهو المسدد.
أسئلة:
- أوضح وجه دعوى حكومة استصحاب عدم الجعل على استصحاب المجعول، ووجه المعارضة، ووجه عدم جريانه رأساً!
- راجع كلام المحقق النائيني وقرّره بعباراتك وحاول تقويته أو ناقشه.
- هل يمكن الإشكال على الوجه الرابع بأن المجتهد نفسه إذا ابتلي بالكر المتغير صار مجمعاً للمخاطب بالاستصحابين فهو مفتي وهو مجري؟ وهل يجدي ذلك في آخر حل الإشكال (أي إثبات وجود تعارض أو حكومة) في غير هذه الحالة أو هل من طريق؟
- حاول الإجابة عن الإشكال الخامس أي حاول إثبات وحدة الموضوع، أو قرر الإشكال الخامس بعباراتك.
- اذكر وجهاً للانصراف عن النظر الدقي وحاول مناقشته أو تأكيده.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ((لَا خَيْرَ فِي الْعَيْشِ إِلَّا لِرَجُلَيْنِ، عَالِمٍ مُطَاعٍ أَوْ مُسْتَمِعٍ وَاعٍ)) (الكافي: ج1 ص33).
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
-------------------------------------
[1] وان الحلية هي عدم الحرمة.
[2] وإلّا صحّ القول بدل كسر زيد، انكسر زيد وبدل انكسر الإناء كَسَرَ الإناء على المبني للمعلوم.
[3] سورة آل عمران: الآية 97.
[4] موضوع الوجوب.
[5] إلا على مسلك الفصول من الواجب المعلّق ومسلك الشيخ (قدس سره) حسب تفسيره للواجب المشروط فإن الوجوب عنده فعلي من قبل، أو مسلك الآخوند من الشرط المتأخر.
[6] إذ قد يقال: وجود الجعل لا أثر شرعي له، أما عدمه (وهو المقصود هنا) فله الأثر فإنه بعدمه تنتفي الحرمة في مرتبة المجعول. فتأمل.
[7] نظير استصحاب زيد طهارة مائه لأنه كان طاهراً واستصحاب عمرو نجاسة مائه لأنه كان نجساً، أفتراهما متعارضين؟.
[8] لذا توهم انه ينبغي الاستصحاب.
[9] الشيخ الطوسي، تهذيب الأحكام، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج1 ص422.
|