بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(14)
سبق: (الثاني: ان النجاسة الشارعية أمر واقعي، والنجاسة العرفية أمر واقعي آخر، والنسبة بينهما من وجه)[1]، ويحتمل في هذا أيضاً وجهان: فإن النسبة إذا كانت من وجه، أمكن أن يبقيها الشارع كما هي بأن لا يتصرف بتنزيلٍ ونحوه، كما يمكن أن ينزِّل ما اعتبره العرف قذراً، منزلة ما هو قذر عنده، فيكون كل قذر عرفي شرعياً فيكون الشرعي أعم مطلقاً، لكنّ الظاهر الأول وأما الثاني فالظاهر عدمه ويكفي أن لا يدل عليه دليل، على انه لو دلّ لاقتصر على مورده.
رد الروحاني على الشيخ: النجاسة هي الاستقذار
وقد أشكل السيد الروحاني (قدس سره) في المنتقى على الشيخ (قدس سره) وسائر من يقول بكون النجاسة والطهارة واقعيين بقوله: (وأما الطهارة والنجاسة، فقد ذهب بعض إلى انهما أمران واقعيان كشف عنهما الشارع.
ولكن الصحيح خلافه، وذلك لأن مرجع هذه الدعوى إلى كون الطهارة والنجاسة هي الاستقذار العرفي وعدمه، لا انهما موجودان بوجود واقعي مع قطع النّظر عن النّظر العرفي إذ الاستقذار أمر عرفي، ولذا قد تختلف فيه الطبائع.
وعليه، نقول: ان من النجاسات شرعاً ما يقطع بعدم جهة واقعية فيه بحيث يختلف واقعاً بلحاظ حالتي طهارته ونجاسته، كالكافر، فانه من المقطوع ان إظهار الشهادتين ليس له دخل واقعي في جسم الكافر بحيث يصير طاهراً به بعد أن كان نجسا وأوضح من هذا مثالاً ابن الكافر الّذي ينجس ويطهر بتبعية أبيه، مع انه من المعلوم عدم تأثير إسلام أبيه وكفره في بدنه. كما ان من الأجسام الطاهرة ما هو قذر جزما كلعاب الفم وماء الأنف وغير ذلك. إذن فبين ما هو قذر عرفا وليس بقذر، وما هو قذر شرعاً وليس بقذر، عموم من وجه، فلا يمكن ان يقال ان الطهارة والنجاسة أمران واقعيان كشف عنهما الشارع، بل هما اعتباريان يتعلق بهما الجعل ويترتب عليهما أحكام شرعية)[2].
أقول: أما قوله: (وعليه، نقول...) بما تضمن من القطع بعدم دخالة إظهار الشهادتين في جسم الكافر، فسيأتي الإشكال عليه ضمن استعراض كلام مصباح الأصول.
وأما قوله: (ولكن الصحيح خلافه، وذلك لأن...) فحاصله بعبارة أخرى: ان النجاسة الواقعية ليست إلا الاستقذار العرفي (والطهارة عدمه) والاستقذار أمرٌ نسبي أو إضافي وهو قائم بأنفس الناس ومختلفٌ بحسب اختلاف الطبائع والأذواق والسلائق والمسبقات والعادات والتقاليد، وليس له واقع وراء السلائق والطبائع.
فإذا كانت النجاسة هي الاستقذار وكان الاستقذار مختلفاً باختلاف السلائق فلا يمكن أن يكون أمراً واقعياً وراءها[3] إذ الواقع دوماً واحد، كما انه غير مرتهن إلا بعالم الإثبات (والنظر العرفي).
الجواب بوجوه
ولكن يرد عليه:
إن الأضداد ثلاثة لا اثنين وهي: النجاسة الواقعية القائمة بحقائق الأشياء، النجاسة العرفية القائمة بالطبائع والأذواق، النجاسة الشرعية، والنجاسة العرفية هي النسبية أو الإضافية إذ تختلف بحسب اختلاف الأعراف والطبائع، عكس النجاسة الواقعية، فإرجاعه الواقعية إلى العرفية غير صحيح موضوعاً.
وأما استدلاله فغير تام؛ إذ ليست النجاسة هي الاستقذار بل النجاسة هي القذارة، والنجس هو القَذِر لا المستقذَر، ولم يرد تفسير النجاسة بالاستقذار في كلام لغوي ولا يقول به العرف، فهي تحكّم كما انه لم يرد في الروايات إلا مثل لفظ نجس، قذر، نظيف... إلخ ولم يرد (المستقذر) على انه لو ورد[4] لما خصصه بل كانا من قبيل المثبتين، أو كانا من العامين من وجه فكل منهما مدار وموضوع لحكم الشارع، فتدبر.
بعبارة أخرى: النجاسة أمر واقعي، وغاية الأمر أن الاستقذار العرفي كاشف عنه، فللشارع أن يخطّأه، كما انهم قد يُخطئون فإنه لا يعدو، حتى على القول به، كونه أمارة عليها.
ومنه يظهر وجه الإشكال في قوله: (إذن فبين ما هو قذر عرفا وليس بقذر، وما هو قذر شرعاً وليس بقذر، عموم من وجه، فلا يمكن ان يقال ان الطهارة والنجاسة أمران واقعيان كشف عنهما الشارع، بل هما اعتباريان يتعلق بهما الجعل ويترتب عليهما أحكام شرعية)[5]، إذ الكلام عن النسبة بين القذر الواقعي والقذر الشرعي، لا عن القذر العرفي والقذر الشرعي إلا بإعادة الواقعي إلى العرفي الذي أجبنا عنه، على انه لو سلّمنا إرجاع هذا إلى ذاك نقول: فواقع النجاسة، على رأيه، مرتهن بالعرف (واستقذاره) ولا يستلزم ذلك اعتباريتها شرعاً بل قد تكون النجاسة أمراً واقعياً (أي عرفياً مرتهناً بالذوق) كشف عنه الشارع، فيمكن القول هما واقعيان – عرفيان كشف عنهما الشارع ولا يلزم من القول بالعرفية القول بتعلق الجعل الشرعي بهما بل يمكن التفصيل بين الموارد.
والحاصل انه يمكن القول بأن الشارع مخبر كما يمكن القول بانه مُنشِأ ولا فرق في ذلك بين كونه مخبراً عن واقع ثبوتي أو عن واقع مرتهن بالطبائع (أي واقع عرفي) ولا يضر بذلك كون النسبة من وجه، لإمكان التنزيل الشارعي، كما سبق، ففي مورد التنزيل اعتبارٌ[6] وفي مورد الكشف واقعٌ وإخبارٌ، فتدبر جيداً.
ردود المصباح على الشيخ:
وقال في مصباح الأصول: (بقي الكلام في أمور قد اختلف في أنها من الأحكام الوضعيّة أم لا:
(منها) الطهارة والنجاسة، فذهب الشيخ (قدس سره) إلى أنهما من الأمور الواقعية، فالطهارة عبارة عن النظافة الواقعية، والنجاسة عبارة عن القذارة الواقعية، وكشف عنهما الشارع، كخواص بعض الأدوية التي لا يعرفها إلا أهل الخبرة والتجربة، فالطهارة والنجاسة من هذا القبيل، وليستا من الأمور المجعولة، كالأحكام التكليفية.
1- ظاهر الأدلة حكم الشارع لا إخباره
وفيه أولاً: أنه خلاف ظواهر الأدلة، إذ ظاهرها أن الشارع حكم بالنجاسة في شيء وبالطهارة في شيء آخر بما هو شارع، لا أنه أخبر عن حقيقة الأشياء بما هو من أهل الخبرة...)[7].
أجوبة على إشكال المصباح
ولكن قد يورد عليه:
بعض نصوص الشارع إخبار
أولاً: ان بعض نصوص الشارع إخبار فكلام الشيخ هو على طبق ظاهر هذه الطائفة من الأدلة، وذلك كقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُورا}[8]، فإنه خبر دون شك والقول بأنه إخبار أريد به الإنشاء خلاف الأصل بحاجة إلى دليل، والفرض ان كلامه عن (ظواهر الأدلة) كما ان ظاهر طهور كونه صفة قائمة بماء السماء لا انها مجعولة له، وكذلك قوله (عليه السلام): ((فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمْ يَخْلُقْ خَلْقاً أَنْجَسَ مِنَ الْكَلْبِ...))[9] ومثله بعض ما سبق، وكذا قوله (عليه السلام) في الخنزير يصيبه الخمر والخنزير ((لَا تُصَلِّ فِيهِ فَإِنَّهُ رِجْسٌ))[10].
وبعضها مجملة
ثانياً: ان بعض النصوص الأخرى التي قد يدعى كونها ظاهرة في الإنشاء، يمكن القول بأنها مجملة من هذه الجهة، فمثلاً قوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ}[11]، فقد يقال انه ظاهر في التطهير التشريعي، وفيه: انه محتمل لأن يراد كل من الوجهين، فكما يحتمل أن يراد به: {لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ}: بتطهير تشريعي يحتمل أن يكون المراد: بتطهير تكويني أي ليطهركم به بما هو مطهّر تكويني أو بما انه تعالى اعتبره مطهراً تشريعاً، ويؤيده أو يشعر به السياق: إذ كما ان إنزال الماء من السماء تكويني كذلك التطهير به.
وكذا قوله (عليه السلام): ((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ الْمَاءَ طَهُوراً وَلَمْ يَجْعَلْهُ نَجِساً))[12]، فإنه محتمل للوجهين أي: (الذي جعل الماء طهوراً تكويناً) و(الذي جعله طهوراً تشريعاً) بل نقول ظاهر الجعل الجعل التكويني، والعرف ببابك بحسب مختلف استعمالاتهم بل الجعل التشريعي هو أخفى الجعلين من حيث مادة جعل.
وللشارع مقامان
ثالثاً: ما سبق من أن للشارع الأقدس مقامين: مقام التكوين ومقام التشريع فلا ظهور لكلامه في انه صادر منه بما هو مشرع فلعله بما هو مكوّن خاصة وان ((الْحَمْدُ لِلَّهِ)) يلائم التكوين أكثر وإن صح لكليهما، وكذا مثل قوله: ((إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ كُرّاً لَمْ يَحْمِلْ خَبَثاً))[13]، هل يراد به تكويناً فهو إخبار؟ أو تشريعاً فهو إنشاء؟ كلاهما محتمل.
وحكم الشارع أعم
رابعاً: سلّمنا ان (ظاهرها أن الشارع حكم بالنجاسة في شيء وبالطهارة في شيء آخر بما هو شارع) لكن ذلك أعم من المدعى إذ نسأل: انه حكم بالنجاسة بما هو شارع لكن لماذا؟ هل لأنه قذر واقعي فتجوز بما ظاهره الإنشاء، عن الإخبار، أو حكم على طبقه من باب جعل المماثل المؤكد لوجود نجاسة واقعية، وليس بالنافي. وفيه تأمل[14].
أسئلة:
- بيّن قياس المساواة الخفي في كلام صاحب المنتقى (قدس سره)، وأوضح وجه إشكالنا عليه.
- بيّن وجه إشكالنا عليه في انتقاله من كون النسبة عموماً من وجه بين القذر العرفي والشرعي، إلى انهما ليسا واقعيين، وانه كيف اننا لو سلّمنا ذلك لما نفى كونهما واقعيين – عرفيين؟
- ابحث عن أدلة أخرى تؤيد كلام السيد الخوئي (قدس سره)، وابحث عن أدلة أخرى تؤيد الإشكال عليه.
قال الإمام علي الهادي (عليه السلام): ((الدُّنْيَا سُوقٌ رَبِحَ فِيهَا قَوْمٌ وَخَسِرَ آخَرُونَ)) تحف العقول عن آل الرسول (صلى الله عليه وآله): ص483.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
------------------------------------
[1] الدرس (1033/13).
[2] السيد عبد الصاحب الحكيم / تقرير أبحاث السيد محمد الحسيني الروحاني، منتقى الأصول، ج6 ص150.
[3] وراء السلائق أو الطبائع.
[4] إذ وردت مفردة يستقذر في ثلاثة مواضع من مستدرك الوسائل، لكن لا يراد بها المعنى المطابق للنجاسة فراجعه ونصها: ((وَأَنَّهُ رُكِّبَ مِنْ نُطْفَةٍ يَسْتَقْذِرُهَا كُلُّ أَحَدٍ)) (مستدرك الوسائل: ج4 ص483)، ((إِنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الْخُضَرِ لَا يَصْلُحُ وَلَا يَزْكُو إِلَّا بِالزِّبْلِ وَالسَّمَادِ الَّذِي يَسْتَقْذِرُهُ النَّاسُ)) (مستدرك الوسائل: ج13 ص121).
[5] السيد عبد الصاحب الحكيم / تقرير أبحاث السيد محمد الحسيني الروحاني، منتقى الأصول، ج6 ص150.
[6] وهو قسمان تنزيل اللاقذر عرفاً (كالكافر) منزلة القذر أو فقل اعتباره قذراً، وعكسه: تنزيل القذر عرفاً (كبلل الفرج) منزلة اللاقذر أو فقل عدم اعتباره، وأما مادة الاجتماع كالغائط والكلب، فالشارع كاشف ومخبر ومنه قوله (عليه السلام) عن الكلب ((لَا وَاللَّهِ إِنَّهُ نَجِسٌ لَا وَاللَّهِ إِنَّهُ نَجِسٌ)) (تهذيب الأحكام: ج1 ص225)، فإن المستفاد منه عرفاً انه نجس واقعاً لا ان نجاسته مجعولة وكذا قوله (عليه السلام) عنه ((رِجْسٌ نِجْسٌ لَا تَتَوَضَّأْ بِفَضْلِه)) (تهذيب الأحكام: ج1 ص225).
[7] السيد محمد سرور الواعظ الحسيني البهسودي / السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي، مصباح الأصول، مكتبة الداوري: ج3 ص84.
[8] سورة الفرقان: الآية 48.
[9] الشيخ الصدوق، علل الشرائع، مكتبة الداوري ـ قم: ج1 ص292.
[10] الشيخ الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج3 ص405.
[11] سورة الأنفال: الآية 11.
[12] الشيخ الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج3 ص70.
[13] ابن أبي جمهور الأحسائي، عوالي اللآلئ، دار سيد الشهداء للنشر ـ قم: ج1 ص76.
[14] في كلا الشقين؛ إذ الأول بحاجة إلى قرينة، فعلى المدعي الإثبات، والثاني مؤكد لمجعولية النجاسة شرعاً وإن كان له منشأ تكويناً.
|