بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(17)
(الأصول): الجمع بين الإنشاء وجهة الكشف
سبق ما ذكره السيد الوالد تأييداً للشيخ الأعظم (قدس سرهما) من (الطهارة والنجاسة: الظاهر: انهما واقعيان كشف عنهما الشارع، كما قاله الشيخ (قدس سره) لا انهما تعبديان، كما قاله المشهور.
وإشكالهم عليه – بلزومه التساوي بين الثانية[1] والقذارة عليه مع ان بينهما من وجه[2]. وكون كلامه فيهما إخباراً لا إنشاءً مع تسالمهم عليه)[3] وحاصل الإشكال الأول ان لازم مبنى الشيخ كون النسبة بينهما[4] التساوي مع انها من وجه.
وأما حاصل الإشكال الثاني فهو: ان الفقهاء تسالموا على كون الأدلة الدالة على طهارة أمور كالماء في {وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُورا}[5]، و{وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ}[6]، ونجاسة أمور كالمشرك والكلب والبول والغائط... إلخ هي إنشائية وليست إخبارية، فالتسالم يقف أمام قول الشيخ بـ (انهما واقعيان كشف عنهما الشارع) مما يعني كون الأدلة إخباراً لا إنشاءً، فأجاب بقوله: (الثاني: بأن كل إنشاء تابع لمصلحة أو مفسدة معه أو لا معه، أو لتساويهما كما في الإباحة)[7]، وحاصله انه جمع بذلك بين الحقين، بوجهٍ، وهو انها إنشاء لكنه من نوع الإنشاء الكاشف عن الواقع، أو فقل: الإنشاء الذي لازمه أو ملزومه الإخبار، وذلك بعد ضميمة مسلمية أن كل إنشاء فهو تابع لمصلحة أو مفسدة في المتعلق، على ما هو الأصل، والأمر الامتحاني نادر على انه محتاج إلى قرينة، فلا تنافي بين القول بأن الأدلة الدالة عليهما إنشاء وبين قول الشيخ بكونهما واقعيين إذ هذا الإنشاء كاشف عن الواقع، وحيث ان المصلحة والمفسدة واقعيتان وحيث ان النجاسة والطهارة قائمتان بهما، فهما واقعيتان أيضاً. فتأمل[8].
مقارنة بين المقام[9]، وحجية الإمارات والإمضائيات
وتحقيق الحال في ذلك بما يكمل ما بدأناه في البحث السابق وينقحه: ان ههنا ثلاث مسائل لها ثلاث موضوعات وهي: (الحجية) للطرق و(الإمارات) و(الإمضائيات) و(الوضعيات) والنسبة بين (الإمضائيات) والطرفين العموم المطلق: إذ جميع الحجج إمضائيات كخبر الثقة والظواهر وحتى الاستصحاب، إلا لو قلنا بتعبدية بعضها كالبيّنة في الزنا المتوقفة على شهادة الأربعة وما أشبه، فتكون النسبة من وجه، لكنها صور قليلة جداً، كما ان جميع الوضعيات إمضائيات، كالملكية والزوجية والقضاوة والنجاسة، فالنسبة العموم المطلق إلا لو قلنا بأن بعضها تعبدي كما قالوه في النجاسة فتكون النسبة من وجه لكنها أيضاً قليلة إلا مع ضميمة السببية والشرطية ونحوها[10].
وقد أسهب الاصوليون في البحث عن الحجج والامارات وكيفية الجمع بين الحكمين الواقعي والظاهري جواباً على شبهة ابن قِبة من استلزام جعل حجيتها، للجمع بين الضدين إن أخطأت أو المثلين إن أصابت، فمثلاً لو حكم القاضي بكون هذه البضاعة لزيد فإنها تفيد ملكية مماثلة للملكية الواقعية التي هي له إن كان مالكاً، أو مخالفة إن لم يكن مالكاً. وكذا لو أدت الامارة إلى وجوب جلسة الاستراحة أو جوب صلاة الجمعة فإن كانت واجبة واقعاً لزم اجتماع وجوبين، أو لا، لزم اجتماع الوجوب والحرمة إن كانت صلاة الجمعة محرمة في زمن الغيبة، أو الوجوب والاستحباب إذا كانت جلسة الاستراحة مستحبة، والاستحباب بحده مضاد للوجوب بحده.
وموطن الشاهد ان ما ذكروه هنالك في الامارات يصلح لتنقيح البحث ههنا (في النجاسة والطهارة ومطلق الوضعيات. فيرمم بذلك ما أوجزوه من البحث ههنا.
وقد بلغت الأقوال في الامارات، في معنى حجيتها أو موطنه ومعروضه أو وجهه، عشرة أضفنا لها وجهين فبلغت اثني عشر وجهاً.
والعديد هذه الوجوه مما يمكن الاستعانة به، كما هو أو مع بعض التغيير، في تنقيح مبحثنا (الطهارة والنجاسة[11] وسائر الوضعيات، وكذا في مطلق الإمضائيات) بشكل كبير، ولذلك سنستعرض هنا، إشارةً، الوجوه الإثنتي عشرة، من دون مناقشاتها، إذ الغرض بيان أن كل من يتبنى وجهاً من تلك الوجوه فله أن يقوم بتسريته إلى المقام (وإلى الإمضائيات) فيكون لذاك المبحث فائدة أعم وأشمل.
ومن الضروري الإشارة قبل استعراض الأقوال إلى أن هذا المنهج مما يساعد على تنمية ملكة الاجتهاد بل وينفع في القدرة على ابتكار الجديد المفيد في مباحث الأصول وغيرها، ونعني بهذا المنهج إقامة الجسور الرابطة بين مسائل العلم الواحد (كما مثلنا من العناوين الثلاثة) بل، وهذا أصعب، إقامة الجسور الرابطة بين مسائل علم، كعلم الأصول، وعلم آخر، كعلم الرياضيات بالنسبة إلى الاستصحاب مثلاً، وكقواعد علم النفس والاجتماع بالنسبة إلى الظواهر وأنواع الخبر الأربعة.. ولذلك تفصيل نتركه إلى محله..
الأقوال في حجية الامارات وفي الحكم الظاهري
1-2 المنجزية وجعل الطريقية
1- المحقق الخراساني (قدس سره): حجية الامارة تعني منجزيتها أو معذريتها، والتنجيز يعني استحقاق العقاب بالمخالفة، ولا تعني جعل الحكم المماثل أو إيجاد حكم كي يلزم اجتماع المثلين أو الضدين[12].
2- المحقق النائيني (قدس سره): حجيتها تعني جعل الطريقية والعِلمية ومحض صفة المحرزية فيها (وعليه: تتنجز قهراً، فقد اغفل الخراساني حسب هذا الرأي الحلقة الوسيطة) وفسّر ذلك بإلغاء احتمال الخلاف لأن الامارة كاشف ظني للواقع (80% مثلاً) فيحتمل الخلاف فيها بنسبة (20% في المثال) فيلغي العقلاء هذا الاحتمال ويعتبرون الظن النوعي كالعلم، فليس هنالك جعل للمماثل ولا للمضاد[13].
3- الحكم الظاهري متأخر رتبة عن الواقعي
3- الشيخ الأعظم: الحكم الظاهري متأخر رتبة عن الحكم الواقعي، إذ لوحظ فيه الشك في الحكم الواقعي، قيداً أو ظرفاً على وجهين، والشيء مع لحاظ مشكوكيته متأخر رتبة عنه بما هو في حد ذاته فليس موضوعهما واحداً ليلزم اجتماع مثلين أو ضدين[14].
الحكم الظاهري مقيد بقيد المشكوكية
4- المحقق العراقي (قدس سره): الأحكام تتعلق بالعناوين الذهنية (أي الكلي الطبعي)، لكن بما هي مرآة للخارج دون المعنونات الخارجية، والحكم الظاهري مقيد بقيدٍ هو كونه مشكوك (الحرمة الواقعية مثلاً) والخمرة مغايرة لمشكوك الخمرية وكذا شرب الخمرة مغاير لشرب مشكوكها، والمقيد متأخر عن ذيه فلم يتحد المصبّان كي يلزم اجتماع المثلين أو الضدين[15].
المصلحة السلوكية
5- الشيخ الأعظم: المصلحة السلوكية، وهو غير رأيه السابق، ومن أمثلة المصلحة السلوكية: إتباع العامي للمجتهد المفتي فإنه إن أصاب أدرك المقلد مصلحة الواقع وإن اخطأ أدرك المقلد مصلحة سلوك طريق اتباع الفقيه، قال تعالى: {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُون}[16]، و{فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ}[17] بناءً على أن الفقيه من أهل الذكر وانهم (عليهم السلام) أجلى المصاديق، بل يكفي كونه ناقلاً عنهم (عليهم السلام) فإن في سلوك هذا الطريق تكريساً لموقع العالم الرباني والقيادة الدينية التي تشرفت بإرجاع المعصوم (عليه السلام) إليها ((وَأَمَّا الْحَوَادِثُ الْوَاقِعَةُ فَارْجِعُوا فِيهَا إِلَى رُوَاةِ حَدِيثِنَا فَإِنَّهُمْ حُجَّتِي عَلَيْكُمْ وَأَنَا حُجَّةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ))[18].
ووجه الغيرية واضح إذ على الرأي السابق لا مصلحة في الحكم الظاهري، بل كان مجرد وجهٍ للتخلص عن إشكال اجتماع المثلين، عكس هذا الرأي الذي تُوازِن فيه مصلحةُ السلوك، طولياً[19]، مصلحةَ الواقع.
تشكيكية الحجية
6- ما نضيفه من تشكيكية الحجية: توضيحه:
إنّ الحجية، بناءً على أنها تعني الكاشفية[20]، وكذا لو قيل بانها تعني الانكشاف، حقيقة مشككة، فكما ان الكاشفية التكوينية مشككة كذلك الجعلية – العقلائية – الإمضائية؛ ألا ترى أن نور الشمس كاشف وكذا نور القمر والشمعة... إلخ، ولكن أي هذا من ذاك؟ فكذلك حال الحجج العقلائية: فإن المتواتر أقوى كاشفية عن الواقع من خبر الثقة، لبداهة وجود احتمال الخلاف في الأخير دون الأول، بل المشككية متحققة حتى بين أنواع الخبر الأربعة: الصحيح، الموثق، الحسن، الضعيف، بل كل منها له درجات كالصحيح الاعلائي مع غيره، فكيف بمثل الاستصحاب بناءً على انه امارة (وفرش الامارات وعرش الأصول).
بل الأمر كذلك حتى على القول بأن الحجية تعني المنجزية؛ فإن استحقاق العقاب بمخالفة الأمر المولوي الواصل بطريق التواتر أقوى وأشدّ من استحقاقه بمخالفة الأمر الواصل بطريق الثقة، وبعبارة أخرى: قد يعذر العبد بمخالفته خبر الثقة، ولو بدرجةٍ، مما لا يعذر بمخالفته للمتواتر، إذ يكون للعبد مجال لأن يتعلل، وإن لم يقبل منه، بانه لم يطمئن أو احتمل الخلاف (وإن أجيب بانه حجة من باب الظن النوعي) عكس المتواتر[21].
ويؤكد المشككية قوله تعالى {وَما كُنَّا مُعَذِّبينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا}[22] فإن الآية واردة مورد الامتنان فيستفاد منها أن المكلف كان مستحقاً للعقوبة قبل البلاغ والوصول عبر الرسول، لكنّ الله تعالى امتنّ عليه برفع العذاب (على احد تفسيري الآية الكريمة)[23].
ووجه استحقاق العقوبة: وجوب الاحتياط عقلاً لدى وجود الاحتمال الضعيف لا لمسلك حق الطاعة فقط بل لمسالك أخرى ذكرناها في بحث سابق[24].
فالاحتمال الضعيف منجِّز لأنه مملوك محض للمولى (وأمره هو أمر مولى الموالي) أو غير ذلك لكنه رفع امتناناً، أما البلاغ الواصل من الرسول (عليه السلام) عبر الحجج العقلائية فلا امتنان في رفعه، بل الامتنان في وضعه وتأكيده؛ لأن الأحكام تابعة لمصالح ومفاسد في المتعلقات فرفع العقاب رغم وصول الحجة إغراءٌ للعبد للاقتحام في الحرمات كما انه تلزم منه لغوية جعل الأحكام ولو في الجملة، فرفع هذا وعدم رفع ذاك، حُسناً وقُبحاً وامتناناً وعدمه، دليل المشككية في الحجج[25] حتى لو أخذت بمعنى المنجزية والمعذرية.
وسيأتي بإذن الله تعالى استعراض بقية الوجوه الاثنتي عشرة وبيان كيفية استثمار هذا الوجه وبعض الوجوه الأخرى في مبحث الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي، في مبحثنا (النجاسة) ومطلق الوضعيات وكذا الإمضائيات.
أسئلة:
- حقِّق عن النسبة بين الإمضائيات وبين الحجج والإمارات، وعن النسبة بين الإمضائيات والأحكام الوضعية، واذكر أمثلة للعناوين الثلاثة.
- حاول أن تقيّم الأقوال السابقة، وانقدها أو أيّدها بوجه أو أكثر.
- ما الدليل على تعلق الأحكام بالعناوين الذهنية كما اختاره العراقي؟ وما الدليل على تعلقها بالوجودات الخارجية كما اختاره الآخوند في مبحث اجتماع الأمر والنهي؟.
- هل توجد أدلة على المصلحة السلوكية؟
- هل يمكن تصوير مشككية الحجية بناءً على تفسيرها بلزوم الإتباع؟ وهل اللزوم (والوجوب) متواطئ أو مشكك؟
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ((عَجِبْتُ لِمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ مُنْتَقِلٌ عَنْ دُنْيَاهُ كَيْفَ لَا يُحْسِنُ التَّزَوُّدَ لِآخِرَتِهِ)) (عيون الحكم والمواعظ: ص329).
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
------------------------------------
[1] أي النجاسة.
[2] ابن الكافر نظيف نجس، والطاهر المنتن قذر ليس بنجس – منه (قدس سره).
[3] الدرس (1036/16).
[4] النجس والقذر.
[5] سورة الفرقان: الآية 48.
[6] سورة الأنفال: الآية 11.
[7] السيد محمد الحسيني الشيرازي، الأصول، ص284-285.
[8] إذ (حيث) الثانية يرد عليها: ان كونهما واقعيين أعم من كون الطهارة والنجاسة قائمتين بهما أو كونهما واقعيين.
[9] الطهارة والنجاسة ومطلق الوضعيات.
[10] من الأحكام الوضعية المنتزعة من التكليفية، على رأي، فتكون الموارد غير قليلة.
[11] لدى تخالف أو تطابق النجاسة الـمُنشأة على الكلب أو الكافر مثلاً مع نجاسته واقعاً.
[12] كفاية الأصول: ج2 ص40 ط مجمع الفكر الإسلامي.
[13] يراجع فوائد الأصول: ج3 ص106 وأجود التقريرات ج3 ص129 ط جديدة.
[14] الرسائل: ج2 ص10-11.
[15] نهاية الأفكار: ج3 ص60.
[16] سورة التوبة: الآية 122.
[17] سورة النحل: الآية 43.
[18] الشيخ الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج2 ص484.
[19] هذا لدفع توهم إشكال لزوم التخيير.
[20] على رأي المحقق النائيني (ومتممية الكشف).
[21] فلو بلغ العبد من المولى أمره إياه بأن يبيع بضاعته فلم يبعها فخسر المولى، فإن كان بلغه الأمر بطريق متواتر استحق عقاباً أشد مما لو بلغه عبر خبر ثقة سلمنا (أن العقاب ليس أشد) لكن الاستحقاق أشد وآكد، فتدبر.
[22] سورة الإسراء: الآية 15.
[23] والتفسير الآخر هو أن المراد عذاب الاستئصال (الدنيوي).
[24] كـ: حق المملوكية الذاتية، ومسلك الاستحقاق الذاتي وغيرها، فراجع.
[25] بمراتبها من الاحتمال إلى الظن المعتبر، كما فصّلنا وجوه حجية الاحتمال في كتاب (الحجة معانيها ومصاديقها).
|