بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(20)
الأقوال الثلاثة في الطهارة والنجاسة على ضوء الروايات
وقبل أن نكمل البحث الثبوتي، ننتقل إلى البحث الإثباتي بحسب المستفاد من الروايات الشريفة؛ وذلك نظراً للبركة فيها وللتنويع ولأن المقصود الأسمى هو كشف المراد منها وفقه الحديث، وأما البحث الثبوتي فهو لدفع الإشكال الفلسفي أو شبهه، مما موضعه بالأساس الأصول أو الكلام أو الفلسفة، فنقول:
الخلاف بين الأعلام يعود في أصوله إلى ثلاثة أقوال:
الأول: ان الطهارة والنجاسة ليسا إلا حكمين تكليفيين ولا يوجد حكم وضعي ولا تكويني، وهو الذي تبناه الوحيد البهبهاني (قدس سره) في الفوائد الحائرية، كما سبق نقله[1]، وبعض آخر.
الثاني: انهما حكمان وضعيان اعتباريان، مجعولان للشارع[2].
الثالث: انهما صفتان حقيقيتان متأصلتان قائمتان بالشيء خارجاً، فهناك ما وراء الاعتبار شيء، ولنا أن نسميه بالوضعي – التكويني ونسمي السابق بالوضعي - الاعتباري، وهو الذي تبناه السيد الوالد تبعاً للشيخ (قدس سرهما).
طوائف الروايات
وأما الروايات: فهي طوائف:
الأولى: تلك التي مفادها ثبوت حكم تكليفي[3]، والتي استنبط منها عدد الفقهاء والمحدثين انه إنما هو لكونه فرع ثبوت الحكم الوضعي، ولذا عنون الوسائل بعض أبوابه بـ (باب نجاسة سؤر الكلب والخنزير) مثلاً كما عنون بـ (باب نجاسة آسار أصناف الكفار) مع أن الموجود في هذا الباب ثلاث روايات كلها عن الحكم التكليفي.
الثانية: تلك التي مفادها ثبوت حكم وضعي (هو المعروض للحكم التكليفي وما هو كالموضوع له) ولكن هل الوضعي – الاعتباري أم الوضعي – التكويني؟ ذلك يتبع استظهار الفقيه منها.
الثالث: ما تصلح للجمع بين الطائفتين.
الطائفة الأولى: روايات تفيد الحكم التكليفي
فمن الأولى: (محمد بن الحسن بإسناده، عن الحسين بن سعيد، عن حمّاد، عن حريز، عن الفضل أبي العبّاس، قال: ((قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام): إِذَا أَصَابَ ثَوْبَكَ مِنَ الْكَلْبِ رُطُوبَةٌ فَاغْسِلْهُ، وَإِنْ مَسَّهُ جَافّاً فَاصْبُبْ عَلَيْهِ الْمَاءَ...))[4].
وبإسناده عن محمد بن يعقوب، عن محمد بن يحيى، عن العمركي، عن علي بن جعفرن عن موسى بن جعفر (عليه السلام) - في حديث - قال: ((وَسَأَلْتُهُ عَنْ خِنْزِيرٍ شَرِبَ مِنْ إِنَاءٍ كَيْفَ يُصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ: يُغْسَلُ سَبْعَ مَرَّاتٍ))[5].
فالأمر إنما تعلق بـ (اغسله) (يغسل) وليس هنالك كلام الحكم الوضعي ونظيرها.
(وعنه، عن ابي جعفر أحمد بن محمد، عن عثمان بن عيسى، عن سماعة بن مهران، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ((لَيْسَ بِفَضْلِ السِّنَّوْرِ بَأْسٌ أَنْ يُتَوَضَّأَ مِنْهُ وَيُشْرَبَ، وَلَا يُشْرَبُ سُؤْرُ الْكَلْبِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَوْضاً كَبِيراً يُسْتَسْقَى مِنْهُ))[6].
و(محمد بن يعقوب، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن عبد الله بن المغيرة، عن سعيد الأعرج، قال: ((سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) عَنْ سُؤْرِ الْيَهُودِيِ وَالنَّصْرَانِيِ؟ فَقَالَ: لَا))[7].
وعن أحمد بن إدريس، عن محمد بن أحمد بن يحيى، عن أيوب بن نوح، عن الوشاء، عمّن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) ((أَنَّهُ كَرِهَ سُؤْرَ وَلَدِ الزِّنَا وَسُؤْرَ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ وَالْمُشْرِكِ، وَكُلِّ مَا خَالَفَ الْإِسْلَامَ، وَكَانَ أَشَدَّ ذَلِكَ عِنْدَهُ سُؤْرُ النَّاصِبِ))[8].
ورواه الشيخ بإسناده عن محمد بن يعقوب وكذا الذي قبله.
محمد بن الحسن، بإسناده عن سعد بن عبد الله عن أحمد بن الحسن بن علي بن فضال، عن عمرو بن سعيد المدائني، عن مصدّق بن صدقة، عن عمار الساباطي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ((سَأَلْتُهُ عَنِ الرَّجُلِ هَلْ يَتَوَضَّأُ مِنْ كُوزِ أَوْ إِنَاءِ غَيْرِهِ إِذَا شَرِبَ عَلَى أَنَّهُ يَهُودِيٌّ؟ فَقَالَ: نَعَمْ؛ قُلْتُ: فَمِنْ ذَاكَ الْمَاءِ الَّذِي يَشْرَبُ مِنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ))[9]، فلاحظ قوله (عليه السلام): (لا) أي لا يشرب و(كره) الظاهر في حكم الفعل و(نعم).
(وعن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن عبد الله بن المغيرة، عن سماعة، عن أبي بصير، عنهم (عليهم السلام) قال: ((إِذَا دَخَلْتَ يَدَكَ فِي الْإِنَاءِ قَبْلَ أَنْ تَغْسِلَهَا فَلَا بَأْسَ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَصَابَهَا قَذَرُ بَوْلٍ أَوْ جَنَابَةٍ، فَإِنْ دَخَلْتَ يَدَكَ فِي الْإِنَاءِ وَفِيهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَأَهْرِقْ ذَلِكَ الْمَاءَ))[10] فالحكم تكليفي طريقي بالإهراق أو إرشادي إلى لزوم تجنبه.
(وعنه، عن أبيه، عن عبد الله بن المغيرة، عن ابن مسكان، قال: حدثني محمد بن ميسّر قال: ((سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) عَنِ الرَّجُلِ الْجُنُبِ يَنْتَهِي إِلَى الْمَاءِ الْقَلِيلِ فِي الطَّرِيقِ وَيُرِيدُ أَنْ يَغْتَسِلَ مِنْهُ وَلَيْسَ مَعَهُ إِنَاءٌ يَغْرِفُ بِهِ وَيَدَاهُ قَذِرَتَانِ؟ قَالَ: يَضَعُ يَدَهُ وَيَتَوَضَّأُ ثُمَّ يَغْتَسِلُ؛ هَذَا مِمَّا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [11])) وهذه الرواية عُدّت من أدلة عدم انفعال الماء القليل وأجيب بأن المراد بالقذر الوسخ لا النجس، وبأن المراد القليل العرفي فإن الكر الشرعي ماء قليل عرفاً إذا كان في الغدير في الطريق، وبانها تقية[12] وليس هذا الآن موضع الشاهد ولا البحث بل الشاهد ان الإمام (عليه السلام) ذكر حكماً تكليفياً لمن يده قذرة وهو وجوب أن يغسله، (طريقياً) بقوله: (يضع يده) أي في الماء ثم أمر بالتوضأ والغسل، ولم يُشِر إلى حكم وضعي، نعم استظهر المشهور منها كونه نتيجة طهارة الماء ونجاسة اليد وانه (عليه السلام) رتب التكليفي نظراً للفراغ عن الوضعي.
والرواية بظاهرها تفيد أن الحرج رافع للوجوب، فإن كانت النجاسة حكماً وضعياً أفادت أن الحرج رافع لبعض الأحكام الوضعية (إن لم نقل انه كناية عن رفع الحكم).
(محمد بن الحسن بإسناده، عن الحسين بن سعيد، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، قال: ((سَأَلْتُ أَبَا الْحَسَنِ (عليه السلام) عَنِ الرَّجُلِ يُدْخِلُ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ وَهِيَ قَذِرَةٌ؟ قَالَ: يُكْفِي الْإِنَاءَ))[13] فهو مجرد أمر بإكفاء الإناء كناية إما عن وجوب تجنبه أو، على الاحتمال الآخر، كناية عن التنجيس كما اختاره صاحب الوسائل[14].
(محمد بن يعقوب، عن علي بن محمد، عن سهل بن زياد، عمّن ذكره، عن يونس، عن بكّار بن أبي بكر، قال: ((قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام): الرَّجُلُ يَضَعُ الْكُوزَ الَّذِي يَغْرِفُ بِهِ مِنَ الْحُبِّ فِي مَكَانٍ قَذِرٍ، ثُمَّ يُدْخِلُهُ الْحُبَّ؟ قَالَ: يَصُبُّ مِنَ الْمَاءِ ثَلَاثَةَ أَكُفٍّ ثُمَّ يَدْلُكُ الْكُوزَ))[15] قال في الوسائل: (أقول: يحتمل كون الحبّ كرّاً، ويحتمل أن يراد بقوله: ((ثم يدخله الحب)) ثمّ يريد إدخاله الحب، كما في قوله تعالى: {إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}[16] وغير ذلك؛ فمعناه: يغسل الكوز أوّلاً قبل إدخاله الحبّ، بقرينة الدلك، ويحتمل الحمل على التقية. ويحتمل أن يراد بالقذر الوسخ دون النجاسة)[17].
أقول: الظاهر الأخير وأن الإمام (عليه السلام) أرشده إلى طريقة إزالة الوساخة بأن يصب على الكوز ثلاثة أكف من الماء لتسهل إزالة وساخته ثم يدلكه لتزول ثم يوضع الكوز في الحب. وليس هذا موطن الشاهد إنما موطنه انه لو أريد من القذر ما هو قذر شرعاً (أي النجس أو ما يجب اجتنابه) فإن الإمام (عليه السلام) أمر أمراً وجوبياً طريقياً، بكذا.
الطائفة الثانية: روايات تفيد الحكم الوضعي
ومن الثانية: (وبإسناده عن سعد، عن أحمد بن محمد، عن أيوب بن نوح، عن صفوان بن يحيى، عن معاوية بن شريح، قال: ((سَأَلَ عُذَافِرٌ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) وَأَنَا عِنْدَهُ عَنْ سُؤْرِ السِّنَّوْرِ وَالشَّاةِ وَالْبَقَرَةِ وَالْبَعِيرِ وَالْحِمَارِ وَالْفَرَسِ وَالْبَغْلِ وَالسِّبَاعِ، يُشْرَبُ مِنْهُ أَوْ يُتَوَضَّأُ مِنْهُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ اشْرَبْ مِنْهُ وَتَوَضَّأْ، قَالَ: قُلْتُ لَهُ: الْكَلْبُ؟ قَالَ: لَا. قُلْتُ: أَلَيْسَ هُوَ سَبُعٌ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ إِنَّهُ نَجِسٌ! لَا وَاللَّهِ إِنَّهُ نَجِسٌ!))[18].
وقد تقدم في حديث عبد الله بن أبي يعفور عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ((إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْ خَلْقاً أَنْجَسَ مِنَ الْكَلْب))[19]
(محمد بن علي بن الحسين، قال: ((سُئِلَ – يعني الإمام الصادق (عليه السلام) - عَنْ طِينِ الْمَطَرِ يُصِيبُ الثَّوْبَ فِيهِ الْبَوْلُ وَالْعَذِرَةُ وَالدَّمُ؟ فَقَالَ: طِينُ الْمَطَرِ لَا يُنَجِّسُ))[20]، وهذه الرواية ومعها روايات أخرى عديدة تفيد أن طين المطر معتصم وانه كما أن الكر معتصم كذلك طين المطر، وفي بعضها إلى مدة ثلاثة أيام، مع وضوح كثرة الكلاب في المدينة لأنها بلد بساتين ومع كثرة ترددها في الطرقات فتفيد، بضم غيرها إليها، أن طين المطر إذا تغير لونه أو ريحه ينجس وإلا فإنه بمجرد وجود بولٍ أو عذرة أو دمٍ فيه لا ينجس، ولعل اعتصامه، وهو قليل، لأن التراب من المطهرات والماء من المطهرات فاجتماعهما في طين المطر يورث اعتصاماً كاعتصام الكر، وقد ثبت علمياً معقّمية التراب وكذا الماء، فهذا كوجه حكمةٍ ليس إلا، نعم حُمِل على وقت نزول المطر، أو بزوال النجاسة وقت المطر، ولكن كليهما خلاف ظاهر الرواية، وتفصيل فقه هذه الرواية والروايات السابقة والأخذ والرد فيها سيأتي كل في بابه، وإنما الشاهد الآن في أن ظاهر قوله (لا ينجس) هو الحكم الوضعي وارجاعه إلى التكليفي بأن يقال: أي (طين المطر لا يجب اجتنابه) تكلّف.
ويؤكد الحكم الوضعي أن المرتكز في أذهان الناس جميعاً وعموم المتشرعة إلا من عرضت له شبهة من كلمات بعض الفقهاء المنكرين للوضعي، يرون النجاسة، أو القذارة، صفة حقيقية قائمة بالبول والكلب والدم... لا انها صفة اعتبارية مرتهنة وجوداً وعدماً بحسب وضع الواضع وعدمه.
وقوله (عليه السلام) (وعن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن إسماعيل، عن بعض أصحابنا، عن أبي الحسن (عليه السلام) ((فِي طِينِ الْمَطَرِ: أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ أَنْ يُصِيبَ الثَّوْبَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، إِلَّا أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ قَدْ نَجَّسَهُ شَيْءٌ بَعْدَ الْمَطَرِ فَإِنْ أَصَابَهُ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَاغْسِلْهُ، وَإِنْ كَانَ الطَّرِيقُ نَظِيفاً لَمْ تَغْسِلْهُ))[21].
ورواه الصدوق مرسلاً[22].
ورواه الشيخ بإسناده عن أحمد بن محمد[23].
ورواه ابن إدريس (في آخر السرائر) نقلاً عن كتاب محمد بن علي بن محبوب عن أحمد بن محمد، مثله[24].
فإن (قد نجّسه) صريح في الحكم الوضعي وتفسيره بالتكليفي أي بـ (جعله واجب الاجتناب) غريب.
وروي: ((أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) كَانَ يَقُولُ عِنْدَ النَّظَرِ إِلَى الْمَاءِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ الْمَاءَ طَهُوراً وَلَمْ يَجْعَلْهُ نَجِساً))[25] وقد استدلنا بالرواية في البحث الأسبق على (ان ظاهره أن كليهما مجعول بوِزان واحد وانهما إيجابيان)[26]، ونضيف هنا الاستدلال بها على أن ظاهر جعله طهوراً الحكم الوضعي لا التكليفي المفسر بـ (جعله يجوز الاغتسال به) كما أن ظاهر الجعل الجعل التكويني لا الاعتباري فإنه أخفى الفردين بناءً على انصراف اللفظ لدى تشكيكية الماهية إلى أقوى الفردين أو لا أقل من انصرافه عن أضعف الفردين كما أشار إليه المحقق النائيني وفصّلناه في بحث قديم، على ان المرتكز في الأذهان ذلك.
وعن أبي عبد الله في حديث، قال: ((قُلْتُ: يَسِيلُ عَلَيَّ مِنْ مَاءِ الْمَطَرِ أَرَى فِيهِ التَّغَيُّرَ وَأَرَى فِيهِ آثَارَ الْقَذَرِ، فَتَقْطُرُ الْقَطَرَاتُ عَلَيَّ وَيَنْتَضِحُ عَلَيَّ مِنْهُ، وَالْبَيْتُ يُتَوَضَّأُ عَلَى سَطْحِهِ فَيَكِفُ عَلَى ثِيَابِنَا؟ قَالَ: مَا بِذَا بَأْسٌ لَا تَغْسِلْهُ، كُلُّ شَيْءٍ يَرَاهُ مَاءُ الْمَطَرِ فَقَدْ طَهُرَ))[27]، إذ ظاهر (طَهُرَ) لدى العرف الملقى إليهم الكلام الحكم الوضعي (لا التكليفي الذي يفسر الرواية هكذا: فقد جاز شربه أو التوضؤ به).
وعن ابن أبي يعفور، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ((قُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ مَاءِ الْحَمَّامِ، يَغْتَسِلُ مِنْهُ الْجُنُبُ وَالصَّبِيُّ وَالْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ وَالْمَجُوسِيُّ؟ فَقَالَ: إِنَّ مَاءَ الْحَمَّامِ كَمَاءِ النَّهَرِ يُطَهِّرُ بَعْضُهُ بَعْضاً))[28]، فإن يطهّر يعني انه يسبِّب فيه الطهارة (أو فقل يوجِد) كما أن يكسر يعني يسبب كسره أو يوجد فيه الكسر أو الانكسار ويعلِّم يعني يمنحه أو يوجد فيه العلم، وظاهر كل ذلك الإيجاد الوضعي، لا التكليفي بل والوضعي - التكويني لا الوضعي - الاعتباري.
وعن زرارة قال: ((قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام): بِئْرٌ قَطَرَتْ فِيهَا قَطْرَةُ دَمٍ أَوْ خَمْرٍ؟ قَالَ: الدَّمُ وَالْخَمْرُ وَالْمَيِّتُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ فِي ذَلِكَ كُلُّهُ وَاحِدٌ، يُنْزَحُ مِنْهُ عِشْرُونَ دَلْواً، فَإِنْ غَلَبَ الرِّيحُ نُزِحَتْ حَتَّى تَطِيب))[29]، فإن المفهوم عرفاً من (تطيب) هو الوضع لا التكليف والتكوين لا الاعتبار.
فهاتان طائفتان احداهما ظاهرة في الأحكام التكليفية والأخرى في الأحكام الوضعية ولكن لا تعارض بينهما، إذ هما مثبتان لا ينفي أحدهما الآخر، فكلاهما تام وصحيح فيكمل أحدهما الآخر: فهناك حكم وضعي، حسب منطوق الطائفة الثانية وهناك حكم تكليفي حسب منطوق الطائفة الأولى، وهناك حكم عقلي بأنهما إذا اجتمعا كان الأول معروضاً وموضوعاً والثاني عارضاً أو محمولاً وحكماً.
الطائفة الثالثة: شاهد جمع
على أن الطائفة الثالثة فيها شواهد جمع حسبما ذكر.
ومنها: (وعنه، عن حمّاد، عن حريز، عن الفضل ابي العباس، قال: ((سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) عَنْ فَضْلِ الْهِرَّةِ وَالشَّاةِ وَالْبَقَرَةِ وَالْإِبِلِ وَالْحِمَارِ وَالْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْوَحْشِ وَالسِّبَاعِ؟ فَلَمْ أَتْرُكْ شَيْئاً إِلَّا سَأَلْتُهُ عَنْهُ؛ فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ، حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى الْكَلْبِ؟ فَقَالَ: رِجْسٌ نِجْسٌ لَا تَتَوَضَّأْ بِفَضْلِهِ وَاصْبُبْ ذَلِكَ الْمَاءَ، وَاغْسِلْهُ بِالتُّرَابِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ثُمَّ بِالْمَاءِ))[30]، فإن الظاهر أن لا تتوضأ بفضله... متفرع على قوله رجس نجس... وهو المفهوم منه عرفاً.
ومنها: ما ورد عن محمد بن إسماعيل بن بزيع، قال: ((كَتَبْتُ إِلَى رَجُلٍ أَسْأَلُهُ أَنْ يَسْأَلَ أَبَا الْحَسَنِ الرِّضَا (عليه السلام) عَنِ الْبِئْرِ تَكُونُ فِي الْمَنْزِلِ لِلْوُضُوءِ فَيَقْطُرُ فِيهَا قَطَرَاتٌ مِنْ بَوْلٍ أَوْ دَمٍ أَوْ يَسْقُطُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ غَيْرِهِ كَالْبَعْرَةِ أَوْ نَحْوِهَا، مَا الَّذِي يُطَهِّرُهَا حَتَّى يَحِلَّ الْوُضُوءُ مِنْهَا لِلصَّلَاةِ؟ فَوَقَّعَ (عليه السلام) فِي كِتَابِي بِخَطِّهِ: يُنْزَحُ مِنْهَا دِلَاءٌ))[31]، فإن جواب الإمام (عليه السلام) وإن كان الأمر بالنزح، لكن الشاهد في سؤال السائل وارتكازه إذ قال: ((مَا الَّذِي يُطَهِّرُهَا حَتَّى يَحِلَّ الْوُضُوءُ مِنْهَا لِلصَّلَاةِ؟)) فجعل الحكم الوضعي علّة لثبوت الحكم التكليفي.
والاستدلال تارةً بتقرير الإمام (عليه السلام) للسائل على فهمه مع انه حكم شرعي ولو كان كلامه خطأً لألفَتَ إليه الإمام (عليه السلام)، وأخرى بارتكاز السائل مع ضميمة ارتكاز سائر الرواة، حسب مجموعة من الروايات المستفادة منها انهم تلقوا ذلك من الشارع، وثالثة بارتكاز العقلاء جميعاً في القذارات مع ضميمة تسليم انه لا حقيقة شرعية في النجاسة والطهارة وإلا لما صح الاستناد إلى ارتكاز العقلاء.
تتمة المبحث الثبوتي: قد سبق:
(الامارة إما مطابقة للواقع أو مخالفة
إذا قامت الامارة على حكم فإما أن تكون مطابقة للواقع (ولما شرَّعه المولى) وإما أن تكون مخالفة:
إن كانت مطابقة فهي موجبة لأشدية الحكم[32]
فإن كانت مطابقة ففيها تفصيل بحسب الصور...)[33]، وقد مضى الكلام عنها ونضيف الآن:
وإن كانت الامارة مخالفة للواقع فهنا صور:
وإذا كانت الامارة مخالفة للواقع، أو كانت محتملة المخالفة[34] فهنا صور:
فإما أن يكون ملاك الحكم الواقعي قوياً وإما أن يكون ضعيفاً وإما أن يكون متوسطاً بينهما، وعلى الصور لا يلزم اجتماع الضدين بل لا يوجد في بعضها حكم ظاهري ولا يوجد في بعضها حكم واقعي كما سيظهر:
أ- إذا كان ملاك الواقع قوياً فتارة يقع الكلام في الامارة وأخرى في الأصل.
أما في الامارة فلها حالات وصور وسنقتصر فعلاً على احداها، وهي من لطائفها وسنشير لاحقاً إلى حال سائر الامارات:
الإقرار الصانع للواقع
الإقرار: فإنه إذا أقرّ بأن هذه الدار أو هذا الثوب لزيد ثم عدل وأقرّ بانه لعمرو، فإنّ المشهور بل ما قال عنه الجواهر بلا خلاف معتد به: انه يُعطى ما أقر به لزيد ويغرّم قيمته لعمرو، مع ان مقتضى القاعدة أحد الأمور التالية:
1- أن تكون للمقرّ له الأول، مع بطلان إقراره الثاني لأنه إقرار في ملك الغير، إذ بإقراره الأول انتقل للأول فالإقرار الثاني لغو فهو كما لو باعه بضاعة ثم ادعى انها كانت مغصوبة إذ لا يقبل إلا بالبيّنة.
2- أو تكون للمقر له الثاني، لأن المعتبر هو المتأخر، فإنه ناسخ.
3- أو ينصّف بينهما حسب قاعدة العدل والإنصاف الجارية في الأمور المالية.
4- أو يقترع، لأن القرعة لكل أمر مشكل.
5- أو يتعارضان ويتساقطان.
6- أو يسأل عن مراده الجدي وما إذا كان قد غلط أو اخطأ وأظهر الوجوه الأول ثم الثالث ثم الرابع.
لكنّ الفقهاء حسبما استفادوه من الشارع حكموا بخلاف ذلك كله وهو ما سبق[35]، فلو كان هذا هو حكم الشارع كشف ذلك عن أن ملاك الواقع، ونعني بالواقع (حق الغير) من القوة بحيث جعل الشارع الإقرار وهو من عالم الإثبات علّة لثبوت حق آخر عليه[36]، فلا يكون ههنا إلا حكم واحد فقط[37] فيكون الإقرار كالهبة مثلاً موجباً لثبوت الحق، ولا يوجد هنا حكمان واقعي[38] وآخر ظاهري[39] بل إنما يكون ما يقال انه ظاهري، واقعياً.
بوجه آخر: الواقع هو أن احدهما لا يملك عليه شيئاً، والإقرار حكم ظاهري يفيد انه يملك ظاهراً، فلو كنا وهذا المقدار لاجتمع الحكمان الظاهري والواقعي، ولكن الشارع جعل الإقرار علّة واقعية لأن يملك كلاهما عليه ففي الواقع أصبح الدليل الظاهري متصرفاً في الواقع بجعل الشارع، لا انه يوجد حكمان واقعي وظاهري، فتدبر. وللبحث صلة بإذن الله تعالى.
أسئلة:
- ابحث عن روايات أخرى وأدرجها في احدى الطوائف الثلاث.
- ابحث عن شواهد جمع أخرى بين الطائفتين الأوليين.
- هل للواقع معنيان بحسب ما استعرضناه في (الإقرار) وما هما؟
- أوضح استدلال الفقهاء في بدل الحيلولة وفي مجمل استدلالهم وناقشه لو أمكن.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ((مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَسْتَجِيبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُ فِي الشَّدَائِدِ وَالْكُرَبِ، فَلْيُكْثِرِ الدُّعَاءَ عِنْدَ الرَّخَاء)) (الدعوات للرواندي: ص19).
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
------------------------------------
[1] قال: (مع أنّ النّجاسة الشّرعيّة لا معنى لها سوى وجوب الاجتناب عن الصّلاة معها، والأكل والشّرب بملاقاتها رطبا فضلاً عن أكل نفسها وشربها، وكذا وجوب الإزالة عن المسجد وأمثاله، وغير ذلك من أحكامها. ولا شكّ في أنّ الأصل عدم الوجوب، لأنّه تكليف، والأصل براءة الذمّة، والطّهارة الشرعيّة في مقابل النّجاسة فمعناها عدم تعلّق التكليف بالاجتناب شرعا) (الفوائد الحائرية: ص518).
[2] وهو الذي تبناه السيد الخوئي (قدس سره) في مصباح الأصول: ج3 ص85.
[3] أي أحكام تكليفية.
[4] الشيخ الطوسي، تهذيب الأحكام، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج1 ص261.
[5] الشيخ الطوسي، تهذيب الأحكام، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج1 ص261.
[6] الشيخ الطوسي، تهذيب الأحكام، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج1 ص226.
[7] الشيخ الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج3 ص11.
[8] الشيخ الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج3 ص11.
[9] الشيخ الطوسي، تهذيب الأحكام، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج1 ص224.
[10] الشيخ الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج3 ص11.
[11] الشيخ الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج3 ص4.
[12] الوسائل ومستدركاتها: ج1 ص187.
[13] الشيخ الطوسي، تهذيب الأحكام، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج1 ص39.
[14] أو كي يحرز تحقق (ولم تجدوا ماء) ولو لدفع وسوسة المكلف.
[15] الشيخ الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج3 ص12.
[16] سورة المائدة: الآية 6.
[17] وسائل الشيعة ومستدركاتها، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة: ج1 ص197.
[18] الشيخ الطوسي، تهذيب الأحكام، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج1 ص225.
[19] وسائل الشيعة: ج1 ص227.
[20] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة: ج1 ص8.
[21] الشيخ الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج3 ص13.
[22] الفقيه 1:70/163.
[23] التهذيب 1: 267/783.
[24] السرائر 3: 613.
[25] الشيخ الحر العاملي، وسائل الشيعة، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) ـ قم: ج1 ص135.
[26] الدرس (1031/11).
[27] الشيخ الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج3 ص13.
[28] الشيخ الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج3 ص14.
[29] الشيخ الحر العاملي، وسائل الشيعة، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) ـ قم: ج1 ص179.
[30] الشيخ الطوسي، تهذيب الأحكام، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج1 ص225.
[31] الشيخ الطوسي، الاستبصار، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج1 ص44.
[32] الوجوب وأخواته.
[33] الدرس (1039/19).
[34] احتمال المخالفة في غير مولى الموالي.
[35] قال في الجواهر: (في تعقيب الإقرار بالإقرار: "إذا كان في يده دار على ظاهر التملّك" بمقتضى اليد "فقال" مقراً "هذه لفلان بل لفلان، قضى بها للأول وغرم قيمتها للثاني" إن لم يصدّقه "لأنّه حال بينه وبينها، فهو كالمتلف" بلا خلاف معتدّ به أجده فيه*؛ لعموم ((إقرار العقلاء على أنفسهم جائز))** وللحيلولة التي سمعتها)***)
* كما في مفتاح الكرامة: الإقرار / تعقيبه بما ينافيه ج22 ص591.
** عوالي اللآلئ: الفصل التاسع من المقدمة ح104 ج1 ص223، وسائل الشيعة: باب 3 من كتاب الإقرار ح2 ج23 ص184، مستدرك الوسائل: باب 2 من كتاب الإقرار ح1 ج16 ص31.
*** الشيخ محمد حسن النجفي الجواهري، جواهر الكلام، مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم: ج36 ص224.
[36] على المقرّ.
[37] أي أن الشارع جعل ما ليس حقاً له حقاً له، لا انه جمع بين كونه لاحقاً وكونه حقاً.
[38] هو اللاحق لمن لا يملك عليه شيئاً.
[39] هو الحق له.
|