بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(22)
الكلام في إمكان عدم إنشاء الأحكام[1]
ويمكن أن نصوغ البحث بصياغة أخرى أكمل وأدق في ضمن نقاط:
1- ان ما نطرحه، من عدم الإنشاء في الصور الثلاثة الآتية، يكفي فيه الإمكان، إذ المقام مقام الجواب عن شبهة ابن قِبة، ويكفي في دفعها طرح مختلف الاحتمالات الممكنة، على أن هنالك أدلة على الوقوع كما سيأتي بإذن الله تعالى.
2- ان ما طرحناه، يقع في طول ما طرحه مثل الآخوند (قدس سره)، وليس في عرضه، إذ ان بحثنا عن عدم[2] وجود إنشاء تشريعي في الموارد الثلاثة الآتية، فلم يجتمع الحكمان الواقعي والظاهري من باب السالبة بانتفاء الموضوع، أي اننا قمنا بنفي وجود حكم واقعي، وقلنا ان الموجود هو حكم ظاهري فقط، عكس الآخوند الذي اثبت الحكم الواقعي ونفى الظاهري بالقول انه لا يوجد حكم ظاهري بل مجرد تنجيز وإعذار وعكس النائيني الذي نفاه أيضاً واثبت مجرد الطريقية ومتممية الكشف.
الصور الثلاثة – مورد البحث
3- انّ مورد كلامنا هو صور ثلاثة:
أ- ما قامت الامارات النوعية، التي جعل الشارع حجيتها أو أمضاها، على الخلاف (أي خلاف ما يدعى انه قد شُرِّع من الحكم الواقعي، أو خلاف ما كان مطلوب الشارع تشريعه، أو خلاف ما تقتضيه المصلحة والمفسدة من التشريع على طبقهما) كما لو علم الشارع بان حكمه الذي يريد أن يشرعه (لما فيه من المصلحة والمفسدة) لا يبلغ العباد أبداً حتى زمن الظهور المبارك[3] مثلاً، بل إنما يبلغ العباد خلافها بالامارات المعتبرة، فنقول: للشارع، ولأي مولى حكيم، أن لا يُشرِّع مثل هذا الحكم، ولا ينشؤه، أي يمكن له أن لا يشرع، وقد نزيد على ذلك القول بأن تشريعه لغو إذ لا يمكن والحال هذه البعث والزجر أبداً، والغاية من الأمر (غير الامتحاني) البعث ومن النهي الزجر، وقد لا نزيد بأن نفترض آثاراً أخرى جانبية للجعل الإنشائي لكن الكلام بما هو هو، والمهم الآن انه يكفي إمكان أن لا يشرِّع.
ب- ما لم تصل ولا تصل الامارات النوعية إلى المكلفين أبداً، بأن علم المولى بانها لا تصل، وإن لم يصل خلافها، فهنا يمكن، والكلام الآن في مجرد الإمكان كما سبق، أن لا يُنشِأ الحكم، كما يمكن له أن ينشأه ولكن من دون أن يريده (أي من دون تعلق إرادة فعلية به، على ما ارتضاه الآخوند) وليس الأمر منحصراً في الأخير.
ج- ما وصلت الامارات النوعية لعامة المكلفين، ولكنها لم تصل بوصول شخصي إلى هذا المجتهد المعيّن، مثلاً، (وإلى مقلده بالتبع) مع فرض قصوره وعدم تقصيره، بأن رأى خللاً في السند أو الدلالة أو من جهة المعارضة أو شبه ذلك، فلم تتم عليه الحجة لا لتقصير منه بل قصوراً، فهنا يمكن (يلاحظ قولنا يمكن) أن لا يجعل الشارع الحكم عليه، بأن يكون إنشاؤه الحكم للمكلفين منصرفاً عنه (كانصراف خطابات الشارع عن غير القادر أو غير العاقل أو غير المميز، كما سيأتي)، وهذا وإن كان أبعد وأضعف من الأولين، لكنه ممكن.
البرهان على الإم كان
4- وتوضيح ذلك وبرهنته، في حد عالم الإمكان، انّ مَن لم تصله الحجج بوصول نوعي، وكذا من لم تصله بوصول شخصي قصوراً، يمكن أن يكون لدى المشرِّع عند إرادته التشريع، كالعاجز، فكما أن العاجز حقيقةً لا يشمله التكليف ولا الخطاب، والعقلاء ببابك[4] فكذا الجاهل القاصر ففي مثل قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}[5]، لا يصح[6] القول بأن (مَنْ) شاملة لغير القادر حقيقة، إذ كيف تشمله والقدرة من شرائط التكليف العامة؟ ولا معنى للقول بانه جعل عليه الحكم ثم رفع، بل نقول حتى المضطر فإنه يمكن (إن لم نقل انه المستظهر) أن لا يكون الحكم مجعولاً عليه لا انه جعل عليه ثم رفع عنه، وكذلك المكلف في الصور الثلاثة السابقة.
وبعبارة أخرى: لو تطورنا ونقلنا الكلام إلى عالم الإثبات والوقوع، فإن الموصول (مَن) وإن كان بظاهره شاملاً، لكن الأظهر ان الإطلاق غير منعقد إما لوجود قرينة على الخلاف وهي اللغوية (لولا اعتبار أثر جانبي خارج)، أو لأنه منصرف عن العاجز والمضطر والصور الثلاثة.
والقرينة على الخلاف هي استحالة تكليف العاجز، وقبح تكليف المضطر والجاهل القاصر، بل قد يقال بأن الجاهل القاصر من مصاديق العاجز غير القادر فلا يوجد إمكان وقوعي في الأخيرين كما لا يوجد إمكان ذاتي في الأول، فإن أُنكِر القبح كفانا الإمكان في دفع شبهة الاستحالة.
بعبارة أخرى: ان العقلاء عند تشريعهم كذا (كوجوب إكرام الضيف وذهاب أولادهم إلى المدرسة) في قولهم: (اكرموا الضيوف، وكل طفل بلغ 8 سنوات يجب عليه الذهاب للمدرسة) لا ينشؤون الحكم على العاجز ولا يخاطبونه أصلاً[7]، ولا على المضطر الذي يرونه معذوراً، ولا على من يعلمون انه جاهل قاصر لا يصله حكمهم أبداً، أي انه من البدء، لبّاً، يكون تشريعهم من قبيل (ضيّق فم الركبة) فهذا في عالم الثبوت، وأما في عالم الإثبات فإن عامهم أو مطلقهم منصرف عنه لهذه القرينة المقامية الحافة، بل يكفي الاحتمال في عدم انعقاد الإطلاق، فإن أنكر ذلك كله كفانا الإمكان (إمكان أن يكون جعلهم ضيّقاً وإمكان أن يكون إطلاقهم منصرفاً) في دفع شبهة الاستحالة.
الإشكال باشتراك الأحكام بين العالم والجاهل
لا يقال: الأحكام مشتركة بين العالم والجاهل، ودعوى عدم جعل الحكم تشريعاً في الصور الثلاثة تنتج عدم اشتراكها، وقد قال الشيخ (قدس سره): ان وجود الحكم المشترك بين العالم والجاهل مما تواترات عليه الأخبار والآثار، وأقول: قد ادعي عليه الإجماع بل التسالم أيضاً.
الجواب: الصور الثلاثة خارجة عن دليل الاشتراك
إذ يقال: أولاً: حسب بعض المحققين: لا توجد روايات متواترة ولا مستفيضة بل ولا حتى رواية واحدة تفيد الاشتراك.
أقول: ويقصد انه لا توجد بالدلالة المطابقية أو التضمنية.
الاستدلال بأخبار التوقف والاحتياط وجوابه
نعم، لعله (قدس سره) استفاد ذلك من الأخبار الآمرة بالتوقف أو الاحتياط، التزاماً، بدعوى ان الاحتياط والتوقف، يتوقفان على وجود حكم واقعي مشترك بين العالم والجاهل حتى يصح الاحتياط أو التوقف، فإنه إذا لم يوجد حكم واقعي متعلق بالجاهل، فيحتاط على ماذا؟ أو يتوقف لماذا؟
وفيه: إضافة إلى هذه الأخبار ليست متواترة بل غاية الأمر كونها مستفيضة، ان ذلك أجنبي عن مقامنا أي عن الصور الثلاثة، بالإجماع في الأولى والثالثة وبإجماع الأصوليين في الثانية إذ:
الأولى: صورة قيام امارة نوعية وحجة شرعية على الخلاف فرضاً، فإنه لا شك ان الأمر بالتوقف أو الاحتياط ليس محله مطلقاً ما قامت عليه الامارة – الحجة شرعاً خاصة مع ورود النهي عن التشكيك فيما يرويه رواتهم (عليهم السلام) ((لَا عُذْرَ لِأَحَدٍ مِنْ مَوَالِينَا فِي التَّشْكِيكِ فِيمَا يُؤَدِّيهِ عَنَّا ثِقَاتُنَا قَدْ عَرَفُوا بِأَنَّا نُفَاوِضُهُمْ سِرَّنَا وَنُحَمِّلُهُمْ إِيَّاه))[8]، و((الْعَمْرِيُّ وَابْنُهُ ثِقَتَانِ فَمَا أَدَّيَا إِلَيْكَ عَنِّي فَعَنِّي يُؤَدِّيَانِ))[9].
والثالثة: صورة ما لو كانت واصلة نوعاً لكن المجتهد بعد استفراغه الوسع وصل إلى ما يضادها فإنه مأمور بالعمل بما أدى إليه ظنه مما هو حجة لديه، ولا مجال للتوقف والاحتياط أبداً خاصة بعد الأمر بالإنذار بما تفقه فيه {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُون}[10]، مع تسليم أن التفقه في الآية الشريفة شامل للتفقه الاجتهادي.
وأما الثانية: صورة عدم وصول امارة فإن إجماع الأصوليين على البراءة في الشبهات الحكمية الوجوبية والتحريمية بعد الفحص، لا التوقف ولا الاحتياط، وإجماعهم مع الإخباريين في الوجوبية كذلك، نعم الاخباريون احتاطوا في التحريمية حتى بعد الفحص.
وأما الإجماع والتسالم فهما دليلان لبيان يقتصر فيهما على القدر المتيقن، ولا يعلم شمولهما للصور الثلاثة، والقدر المتيقن هو الجاهل البسيط الذي بإمكانه الوصول إلى الحكم والجاهل المقصر وإن عجز لاحقاً، فإن الحكم مشترك بينهما وبين العالم، ولذا قيل للجاهل هلا تعلمت؟ ولا يقال للقاصر ذلك أبداً (وهو ما سيأتي الآن).
الاستدلال بـ (أَفَلَا تَعَلَّمْتَ) وجوابه
ويمكن أن يستدل للشيخ (قدس سره) بروايات ((أَفَلَا تَعَلَّمْتَ))، فعن مسعدة بن زياد قال: ((سَمِعْتُ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ (عليه السلام) وَقَدْ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ}[11] فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَبْدِي أَكُنْتَ عَالِماً فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ لَهُ: أَفَلَا عَمِلْتَ بِمَا عَلِمْتَ[12]، وَإِنْ قَالَ: كُنْتُ جَاهِلًا، قَالَ لَهُ: أَفَلَا تَعَلَّمْتَ حَتَّى تَعْمَلَ فَيَخْصِمُهُ، وَذَلِكَ الْحُجَّةُ الْبَالِغَة))[13].
وفيه: ان الاستدلال إنما هو بالبرهان الإنّي، أي انه يستفاد من الأمر بالتعلم وجود حكم واقعي مشترك بين العالم والجاهل لذا أمر بالتعلم.
وفيه: ان المخاطَب بـ ((أَفَلَا تَعَلَّمْتَ)) هو، كما سبق، فقط الجاهل البسيط والمقصر وإن كان قاطعاً الآن، أما الصور الثلاثة فلا، لبداهة ان المجتهد الذي وصل رأيه إلى الخلاف عليه إتباع رأيه ولا يُخاطب بـ أفلا تعلمت ولا يعاتب ولا يعاقب مادام مستفرغاً وسعه، بل انه قد تعلّم حسب معتقده الذي هو حجة عليه بينه وبين ربّه.
وكذا من قامت لديه امارة نوعية على الخلاف فإنه قد تعلّم، ولا يخاطب بانه أفلا تعلمت الواقع؟، كيف وقد سدّ الشارع طرقه إليه[14] بجعله الامارة النوعية على خلافه؟
وكذا حال من لم تقم لديه امارة على الواقع (المفترض)[15] في الشبهتين، على ما سبق إذ ان الفقيه إذا استفرغ وسعه فلم يجد دليلاً على الوجوب أو الحرمة أجرى البراءة، على المبنى، ولا يخاطب بـ ((أَفَلَا تَعَلَّمْتَ)).
الإشكال بلزوم التصويب وجوابه
لا يقال: يلزم التصويب الباطل؟
إذ يقال: كلا؛ إذ التصويب الباطل هو أن يجعل المولى جل وعلا أحكاماً بعدد آراء المجتهدين، أو يغيّرها بحسب تغير اجتهادهم، قال في الإحكام: (المسألة الخامسة: المسألة الظنية من الفقهيات إما أن يكون فيها نص، أو لا يكون:
فإن لم يكن فيها نص فقد اختلفوا فيها: فقال قوم: كل مجتهد فيها مصيب، وإن حكم الله فيها لا يكون واحداً بل هو تابع لظن المجتهد، فحكم الله في حق كل مجتهد ما أدى إليه اجتهاده، وغلب على ظنه، وهو قول القاضي أبي بكر وأبي الهذيل والجبائي وابنه)[16].
وقال في فواتح الرحموت: (وبعض منهم قالوا: الحكم من الأزل هو ما أدى إليه رأي المجتهد وعليه الجبائي من المعتزلة ونسبته إلى جميع المعتزلة لم تصح)[17]، وقال في التنقيح: (والصحيح أن يقال: قد يطلق التصويب ويراد به أن قيام الطرق والامارات سبب لحدوث المصلحة فيما أدّتا إليه، وأن تلك المصلحة تستتبع جعل الحكم على طبقها فلا حكم واقعى وراء ما أدت إليه الامارة عند المجتهد، والنتيجة أن الاحكام الواقعية تابعة لآراء المجتهدين، وجعل الحكم متأخر عن قيام الأمارة عليه، وهذا هو المعبّر عنه بالتصويب الاشعري. إلا أنه أمر غير معقول)[18].
أقول: وأنت ترى أن الصور الثلاث السابقة، أجنبية عن ذلك كله إذ لم ندع أياً منها، بل المدعى ان الحكم الواقعي مجعول في حق مَن عَلِم الشارعُ انها ستصله بوصول نوعي، وغير مجعولة في حق من قامت لديه امارة على الخلاف (نوعية – وهي الصورة الأولى – أو شخصية وهي الصورة الثالثة)، ومَن لم تصل الامارة إليه ولا إلى غيره بوصول نوعي، فلا جعل للحكم الواقعي حينئذٍ، والإجماع كما سبق دليل لبّي، قدره المتيقن المذكورات السابقة، بل لعل المجمعين لم تخطر ببالهم أو ببال بعضهم الصورة الثلاثة التي ذكرناها، وعلى مدعي الشمول الإثبات.
ومنه ظهر أن الصورة التي ذكرها التنقيح: (وقد يراد به ان في الواقع احكاما مجعولة حسبما فيها من المصالح المقتضية لجعلها وهى التي تحكى عنها الامارات إلا ان قيام الامارة سبب لحدوث مصلحة فيما أدت إليه أقوى مما فيه من المصلحة الواقعية ولذا يكون الحكم الفعلى المجعول على طبق الامارة ومؤداها دون الواقع، لان الاحكام الواقعية ليست بفعلية بل هي صورية وانشائية ولا تتصف بالفعلية الا فيما إذا ادت الامارة إليها فمن لم يقم عنده امارة على الحكم لم يكن حكم فعلى في حقه. وهذا هو المعبر عنه بالتصويب المعتزلي وهو وإن كان أمرا معقولا في نفسه فانه لامانع من ان تكون الاحكام الواقعية انشائية تتوقف فعليتها على قيام الامارة على طبقها وان تكون مختصة بالعالمين بها دون الجاهلين نظير اختصاص بعض الاحكام ببعض المكلفين دون بعض كاحكام النساء المختصة بهن دون الرجال. إلا ان الاجماع قد انعقد على أن الامارة لا تكون مغيرة للواقع ولا تمس كرامته بوجه)[19]، غير منطبقة على الصور الثلاث وما ادعيناه فيها إذ كلامه عن (قيام الامارة سبب لحدوث مصلحة) ولم نقله كما لم نقل بـ (لان الاحكام الواقعية ليست بفعلية بل هي صورية وانشائية ولا تتصف بالفعلية الا فيما إذا ادت الامارة إليها فمن لم يقم عنده امارة على الحكم لم يكن حكم فعلى في حقه) فإنه كلام الآخوند وليس كلامنا، ولا يرد على كلامنا لأن كلامنا خاص بالجاهل القاصر (في صوره الثلاث) ولا نقول بإطلاق (فمن لم يقم عنده امارة على الحكم لم يكن حكم فعلي في حقه) بل نقول: بانه مُنشَأ وفعلي في حقه إذا كان جاهلاً بسيطاً أو مقصراً، وليس مُنشَأً في حقه إذا كان جاهلاً قاصراً، والإجماع لبّي لا إطلاق له ليشمل هذه الصورة، كما لم نقل بما ذكره في ذيل كلامه (إلا أن الإجماع...) إذ لا نقول الامارة مغيرة للواقع، بل نقول عدم وصولها بوصول نوعي (أو وصول خلافها) سبب لعدم الجعل، فكلامنا في النفي وكلامه في الإثبات. فتدبر.
الإشكال بلزوم الدور وجوابه
لا يقال: يلزم الدور.
إذ يقال: يجاب بأجوبة عديدة منها أن يقال: ان العلم بوجوده الذهني هو الموقوف عليه لا بوجوده الخارجي كي يلزم الدور.
بعبارة أخرى: يقال: علم المكلَّف بالحكم الواقعي متوقف على وجوده (أي وجود التشريع الإنشائي) إذ كيف يعلم به وهو معدوم؟ (وإن كان قد يجاب: ان علمه به موقوف عليه، لا قطعه به، والمحرز عادةً هو القطع لا العلم، فتدبر فإنه دقيق).
ولكن وجود الإنشاء التشريعي ليس موقوفاً على علم المكلَّف به، بل وجوده موقوف على عِلم المشرِّع المكلِّف بوصوله النوعي إلى المكلَّف أو بعدم وصول الامارة المخالفة (بحسب الصور الثلاثة).
بوجهٍ آخر: عِلم المشرِّع بأنّ حكمه الذي يريد أن ينشأه الآن، سوف يصل بوصول نوعي إلى عبده، يكون داعياً له إلى إنشائه، فإن عَلِم انه سوف لا يصله أو انه يصله مخالِفُهُ لا يشرّع، فأين الدور مع أن الموقوف عليه غير الموقوف عليه؟
من الأدلة على الوقوع
فهذا كله عن الإمكان، وأما عن الوقوع أي الدليل على دعوى أن الجاهل القاصر (بصورة الثلاثة السابقة) غير مجعول عليه الحكم حتى إنشاءً، فأدلة عديدة:
حديث الحجب
منها: حديث الحجب، وهو صحيح عند بعض، معتبر عن بعض آخر ((مَا حَجَبَ اللَّهُ عِلْمَهُ عَنِ الْعِبَادِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ عَنْهُم))[20] فإن ظاهر ((مَوْضُوعٌ عَنْهُم)) انه لم يوضع عليهم لا انه تعالى وضعه ثم رفعه، ويؤيده ما ذكره الشيخ (قدس سره) من أن حديث الحجب مساوق لـ (سكت عن أشياء)، لكنه خاص بالصورة الأولى والثانية، أي كلما حجب الله علمه عن العباد (بأن لم يوصل لهم الامارة عليه، أو أوصل لهم امارة مخالفة لوجهٍ، كالتقية أو الابتلاء أو لمصلحة أخرى كـ في قوله (عليه السلام) ((قَالَ: اخْتِلَافُ أَصْحَابِي لَكُمْ رَحْمَةٌ، وَقَالَ: إِذَا كَانَ ذَلِكَ جَمَعْتُكُمْ عَلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ وَسُئِلَ عَنِ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فَقَالَ (عليه السلام) أَنَا فَعَلْتُ ذَلِكَ بِكُمْ لَوِ اجْتَمَعْتُمْ عَلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ لَأُخِذَ بِرِقَابِكُم))[21]، دون الثالثة فإنه لا يصدق (حجب الله علمه عن العباد) مع وصول الامارة للنوع لكن المجتهد لم تتم لديه فانعقد رأيه على الخلاف، إلا أن يجاب بانحلالية العباد فيشمله.
نعم قد يقال[22]: ان ظاهر ((حَجَبَ اللَّهُ عِلْمَهُ)) ما كان من فعله لا من فعل خلقه فيلزم التفصيل في الصورتين الأوليين من الصور الثلاث بحسب ما كان من فعله تعالى فغير مجعول وما كان الحجب بفعلهم فمجعول، فتأمل.
حديث الرفع
ومنها: حديث الرفع ((رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي تِسْعٌ: ... وَمَا لَا يَعْلَمُونَ))[23]، فإن المحتمل فيه وجهان، بل وأكثر، لكن موطن الشاهد:
1- أن يكون وضع عليهم أولاً ثم رفع.
2- أن لا يكون موضوعاً اصلاً، ولعل المشهور الأول، واختار بعض الثاني وله وجه، فعلى هذا المبنى يكون حديث الرفع دليلاً (تنبيه: الكلام كله وكما سبق عن رفع الحكم عمن لا يعلم قصوراً في الصور الثلاثة، لا الجاهل البسيط ولا المقصر، فإنه غير مرفوع عنه الحكم الواقعي لذا أوجب عليه الفحص أو الاحتياط، واستحق العقاب، عكس القاصر).
لا يقال: ظاهر الرفع ثبوته ثم رفعه؟
إذ يقال: 1- قد يدعى انه لغو.
2- سلّمنا، لكن الرفع صادق بعدم الجعل أصلاً بلحاظين:
الأولى: ما ذكره السيد الوالد (قدس سره) على ما ببالي من أن الرفع بلحاظ ثبوته في الأمم السابقة فما لا يعلمون مجعول على الأمم السابقة مستمراً حتى إذا وصل الأمر إلى أمتنا رفع عنّا (فلم يجعل علينا) ويؤيده كون حديث الرفع امتناناً وقوله: ((رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي...)) أو بلحاظ وجود المقتضي لثبوته، وعلى كل منهما يصدق الرفع.
الثاني: ان الحكم إذا جعل على المكلفين (في أمتنا) كان له تقرر عليهم وامتداد وانبساط بحسبهم فإذا وصل إلى الجاهل القاصر، في حركته وجرياته وشموله، رفع عنه، فالرفع لا بلحاظ انه كان ثابتاً عليه فرفع بل لأنه كان الحكم المجعول سيالاً ممتداً فإذا وصل إليه لم يجعل عليه فصح ان يقال رفع بلحاظ نسبة هذا الفرد إلى الامتداد السابق.
وفي كل الوجوه السابقة مناقشات وفي بعضها تكلف وبعضها محتاج إلى قرينة وإن صح في حد نفسه، وفي حديثي الحجب والرفع كلام طويل للأعلام وأخذ ورد، ليس ههنا محله، إلا أن الشاهد أن من اختار ما أشرنا إليه، يمكن له أن يعدّه دليلاً على المقام وإلا فلا، وحيث ان البحث في المسألة محلها الأصول، لذا لا يمكننا التوسع أكثر، فليوكل إلى مظانه.
تتمة: قال في الأصول: (والاشتراك بالنسبة إلى ما له أثر أدائي، وإلا فلا أثر للجاهل القاصر إلى الموت ونحوه[24] والقضاء والكفارة حيث يكونان بأمر جديد لا يصححان البعث، ولذا يوجدان في إفطار ذات العادة والقاتل في النوم)[25]، و(على هذا فسياق الرفع مع ما لا يطيقون ونحوه وانسياقه مع الرفع عن الصبي ونحوه، يؤيدان: إطلاق الرفع واقعاً لا ظاهراً فقط – كما قالوا – فما في الكفاية: من أن الإلزام المجهول مما لا يعلمون فهو مرفوع فعلاً وإن كان ثابتاً واقعاً، محل سؤال، كما أن ما ذكره الشيخ (قدس سره): من أن المرفوع هو وجوب الاحتياط غير ظاهر الوجه نعم رفع الحكم مستلزم لرفعه لأنه لحفظه، فإذا لم يكن لم يكن، أما لو شك في وجوبه كان مشمولاً للحديث، وهو غير[26] ما نحن فيه)[27]، وقال: (الرفع والدفع، ثم الرفع حيث يضاد الوضع، لا يكون إلا عنه، فكيف والحال لم يكن للتسعة وضع؟ والجواب: انه حيث كان في الأمم السابقة صح الإطلاق حقيقة، أو كان له المقتضي صح عناية، أو بالنسبة إلى سائر الأحكام، فكأنّ القلم جرى فيها حتى وصل إليها فرفع، كما في رفعه عن الصبي وأضرابه)[28].
أسئلة:
- هل يصح أن يُمثَّل للصورة الأولى من الصورة الثلاثة بالأحكام التي سيظهرها الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف ففي الإرشاد، روى أبو بصير، عن أبي جعفر عليه السلام في حديث طويل أنه قال: ((إِذَا قَامَ الْقَائِمُ (عليه السلام)، سَارَ إِلَى الْكُوفَةِ، فَهَدَمَ بِهَا أَرْبَعَةَ مَسَاجِدَ، فَلَمْ يَبْقَ مَسْجِدٌ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ لَهُ شُرَفٌ إِلَّا هَدَمَهَا، وَجَعَلَهَا جَمَّاءَ، وَوَسَّعَ الطَّرِيقَ الْأَعْظَمَ، وَكَسَرَ كُلَّ جَنَاحٍ خَارِجٍ فِي الطَّرِيقِ، وَأَبْطَلَ الْكُنُفَ وَالْمَآزِيبَ إِلَى الطُّرُقَاتِ، وَلَا يَتْرُكُ بِدْعَةً إِلَّا أَزَالَهَا، وَلَا سُنَّةً إِلَّا أَقَامَهَا، وَيَفْتَحُ قُسْطَنْطِينِيَّةَ وَالصِّينَ وَجِبَالَ الدَّيْلَمِ، فَيَمْكُثُ عَلَى ذَلِكَ سَبْعَ سِنِينَ مِقْدَارُ كُلِّ سَنَةٍ عَشْرُ سِنِينَ مِنْ سِنِيكُمْ هَذِهِ، ثُمَّ يَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاء))[29]، وكذا ما ذكره العياشي في تفسيره عما يفعله (عليه السلام) باليهود والنصارى والصابئة والزنادقة فراجع.
- اسأل مجموعة من الناس، من كبار وصغار، انه هل يأمر غير القادر أمراً حقيقياً؟ وهل يأمر وهو يعلم أن أمره لا يصل أبداً للمأمور؟ والغرض استطلاع وجدان الناس في ذلك، واكتب الأجوبة لكن صُغ السؤال صياغة بريئة لا بصياغة توحي بهذا الرأي أو ضده.
- حاول البحث عن أدلة أخرى على الاشتراك في الأحكام، ولاحظ هل تنطبق على المقام؟
- ابحث عن الفرق الدقيق في تقرير شبهة الدور بين ما كان محط كلام الأعلام وهو توقف علم المكلف على وجود الحكم، والعكس: توقف وجود الحكم على علم المكلف (اللازم من التصويب) وبين نقلنا الكلام منه إلى توقف علم المكلف على وصول الحكم وعكسه: توقف وجود الحكم على وصوله إلى المكلف.
- اكتب بإيجاز ودقة عن الأقوال في حديث الرفع.
- اكتب بإيجاز ودقة عن الأقوال في حديث الحجب.
روي عن الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) أنه قال: ((أَلَا إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَتَخَوَّفُ عَلَيْكُمْ اثْنَانِ طُولُ الْأَمَلِ وَاتِّبَاعُ الْهَوَى، أَلَا وَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ أَدْبَرَتْ وَآذَنَتْ بِانْقِلَاعٍ، أَلَا وَإِنَّ الْآخِرَةَ قَدْ أَقْبَلَتْ وَآذَنَتْ بِاطِّلَاعٍ، أَلَا وَإِنَّ الْمِضْمَارَ الْيَوْمَ وَالسِّبَاقَ غَداً، أَلَا وَإِنَّ السُّبْقَةَ الْجَنَّةُ وَالْغَايَةَ النَّار...)) تحف العقول عن آل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ص152.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
-------------------------------------
[1] أي في الصور الثلاثة الآتية.
[2] أي عن إمكان عدم... ثم نتطور إلى عدم.. فلو لم يتم الثاني بقي الأول
[3] ستأتي أمثلة لذلك آخر البحث في ضمن الأسئلة.
[4] ويوضّحه: انّ احدنا لو راجع نفسه عند إنشائه الحكم على ابنه أو عبده إذا رأى انه عاجز فإنه لا ينشأ الحكم عليه (إلا لغرض آخر جانبي، مما يحتاج إلى دليل على انه خارج عن مقتضى الأمر بالشيء بما هو هو)، وإذا شرّعه بنحو القضية الحقيقية على رعاياه فإنه، إجمالاً، لو التفت إلى أن بعضهم غير قادراً أبداً، لا يشمله بحكمه ولا بخطابه.
[5] سورة البقرة: الآية 185.
[6] على انه إن صح، فإنه يصح عكسه أيضاً، مادام الكلام عن الإمكان.
[7] ولو فعلوا كان تسامحاً وتجوّزاً.
[8] وسائل الشيعة: ج1 ص38.
[9] الكافي: ج1 ص330.
[10] سورة التوبة: الآية 122.
[11] الأنعام: 149.
[12] في النسخ: «مما علمت».
[13] الأمالي للمفيد: ص228.
[14] أو سدّه المكوّن، بالأسباب التكوينية التي قررها بأسبابها الطبيعية، كدفن كتب ابي عمير وضياع خامس الكتب الأربعة، مدينة العلم، بما لا يعود إلى تقصير المكلف نفسه.
[15] خلاف الواقع، عندهم، وخلاف ما كان الأمر يقتضيه، عندنا، أو خلاف ما كان مطلوب المولى أو... كما سبق في أول البحث.
[16] أبو الحسن الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام، المكتب الإسلامي: ج4 ص183.
[17] فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت المطبوع بهامش المستصفى للغزالي: ج2 ص380.
[18] السيد أبو القاسم الخوئي، كتاب الاجتهاد والتقليد، ج1 ص38-39.
[19] السيد أبو القاسم الخوئي، كتاب الاجتهاد والتقليد، ج1 ص39.
[20] الشيخ الصدوق، التوحيد، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المقدسة: ص413.
[21] علل الشرائع: ج2 ص395.
[22] وهو ما نقل عن الشيخ (قدس سره) من (أنّ هذا إنّما يتمّ لو لم يكن الحجب مضافاً إلى الله ـ تعالى ـ بأن يقال: ما حُجب عن العباد فهو موضوع عنهم، ولكن بما أنّه اُضيف في هذا الحديث إليه ـ تعالى ـ يكون خارجاً عن محلّ الكلام؛ إذ ظاهر الحجب المضاف إليه ـ تعالى ـ هو الحجب في قبال ما يترقّب من البيان منه ـ تعالى ـ وهو عبارة عن إعلام وليّه بالحكم وأمره بالتبليغ، وأين هذا ممّا هو محلّ الكلام من احتمال اختفاء الحكم المبيّن علينا بالعوارض الخارجيّة؟!) (مباحث الأصول: ج3 ق2 ص212) وهناك أجوبة عديدة عن هذا الكلام، ليس محل ذكرنا ههنا.
[23] الحسن بن شعبة الحراني، تحف العقول، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المقدسة: ص50.
[24] كالجنون، بأن جن ثم مات كذلك.
[25] السيد محمد الحسيني الشيرازي، الأصول، دار العلوم للطباعة والنشر ـ بيروت: ج2 ص136.
[26] ما نحن فيه: الشك في الحكم، لا الشك في الاحتياط، وإن كان كلاهما مشمولاً لدليل الرفع.
[27] السيد محمد الحسيني الشيرازي، الأصول، دار العلوم للطباعة والنشر ـ بيروت: ج2 ص136.
[28] السيد محمد الحسيني الشيرازي، الأصول، دار العلوم للطباعة والنشر ـ بيروت: ج2 ص138.
[29] الشيخ المفيد، الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد، دار المفيد ـ قم: ج2 ص385.
|