بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(25)
وتوضيح كلام الشيخ الحلي وإشكال السيد الحكيم (قدس سرهما) في ضمن النقاط التالية:
المفيد والمرتضى: يكفي الغسل بالمضاف، الكاشاني: لا يلزم الغسل[1]
1- انّ الثمرة من كلام الشيخ الحلي الآتي تظهر في اكتشاف دليل جديد للشيخ المفيد والسيد المرتضى، إضافة إلى ما أقاماه من الدليل فقد ذهب السيد المرتضى[2] والشيخ المفيد[3] (قدس سرهما) إلى أن غسل ملاقي النجاسات وإن كان واجباً شرعاً، إلاّ أن الغسل لا يلزم أن يكون بالماء بل الغسل بالمضاف بل بكل ما يكفي في إزالة العين، وصدق عنوان الغسل وإن كان خارجاً عن المضاف أيضاً كاف في طهارته كالغسل بالنفط أو بالاسپرتو إذا قلنا بعدم نجاسته في نفسه، فإنّهما مائعان وليسا بماء ولا مضاف[4].
وذلك مقابل رأي المشهور الذين يشترطون الغسل بالماء وانه لا يكفي الماء المضاف، ومقابل رأي المحدث الكاشاني في مفاتيح الشرائع: حيث ذهب إلى عدم سراية النجاسة إلى ملاقيها، وأن غسل ملاقي النجاسة غير واجب إلاّ في بعض الموارد كما في الثوب والبدن للدليل، وأمّا في الأجسام الصيقلية كالزجاج ونحوه فيكفي في طهارتها مجرد إزالة عين النجاسة ولو بخرقة أو بدلك وأمثالهما، بلا حاجة معها إلى غسلها فالأجسام نظير بواطن الإنسان وظاهر الحيوان لا يتنجس بشيء[5].
ونص كلام الكاشاني في مفاتيح الشرائع: (يشترط في الإزالة إطلاق الماء على المشهور، خلافا للسيد والمفيد فجوزا بالمضاف، بل جوز السيد تطهير الأجسام الصقيلة بالمسح، بحيث يزول العين لزوال العلة. ولا يخلو من قوة، إذ غاية ما يستفاد من الشرع وجوب اجتناب أعيان النجاسات، أما وجوب غسلها بالماء عن كل جسم فلا، فكل ما علم زوال النجاسات عنه قطعاً حكم بتطهيره، إلا ما خرج بالدليل، حيث اقتضى فيه اشتراط الماء كالثوب والبدن.
ومن هنا يظهر طهارة البواطن كلها بزوال العين، مضافاً إلى نفي الحرج، ويدل عليه الموثق. وكذا أعضاء الحيوان المتنجسة غير الآدمي، كما يستفاد من الصحاح، أما الآدمي فاشترط بعضهم غيبته زماناً يمكن فيه الإزالة. وليس بشيء، إذ العضو الباطن لا يحتاج فيه الى ذلك، والظاهر لا يكفي فيه ذلك، بل لا بد فيه من العلم بإزالته أو الظن المعتبر شرعاً، ولو استند إلى اخباره مع عدم قرينة خلافه.
والإسكافي جوز ازالة الدم بالبصاق، وله الموثقان، وحملهما على غير الثوب والبدن من الصقال ممكن)[6].
والمستند في الأقوال مثل موثقة عمار بن موسى الساباطي أنّه سأل: ((أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) عَنِ الرَّجُلِ يَجِدُ فِي إِنَائِهِ فَأْرَةً، وَقَدْ تَوَضَّأَ مِنْ ذَلِكَ الْإِنَاءِ مِرَاراً وَغَسَلَ مِنْهُ ثِيَابَهُ وَاغْتَسَلَ مِنْهُ، وَقَدْ كَانَتِ الْفَأْرَةُ مُنْسَلِخَةً؟ فَقَالَ: إِنْ كَانَ رَآهَا فِي الْإِنَاءِ قَبْلَ أَنْ يَغْتَسِلَ أَوْ يَتَوَضَّأَ أَوْ يَغْسِلَ ثِيَابَهُ، ثُمَّ فَعَلَ ذَلِكَ بَعْدَ مَا رَآهَا فِي الْإِنَاءِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَغْسِلَ ثِيَابَهُ وَيَغْسِلَ كُلَّ مَا أَصَابَهُ ذَلِكَ الْمَاءُ وَيُعِيدَ الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ...))[7]، حيث وردت مفردة الغسل لكن غير مقيدة بالماء (أي لم يقل يغسله بالماء) مما يصلح مستنداً للمفيد والمرتضى، وأما مستند الكاشاني فهو أن الأمر بالغسل وارد في موارد محددة وهي البدن والثوب والإناء في روايات متعددة، لكن يرد عليه ان رواية عمار مطلقة في قوله ((وَيَغْسِلَ كُلَّ مَا أَصَابَهُ ذَلِكَ الْمَاءُ)) وليس الشاهد في رأي الكاشاني بل في رأي المفيد والمرتضى والاستدلال لهما بكلام الحلي مع تتميمه بما سيأتي فانتظر.
الحلي: الماء حقيقة في المضاف، فهو دليل جديد لرأي المفيد[8]
2- ان الشيخ الحلي استظهر من صحة القول (بأن الماء إما مطلق أو مضاف) ان التقسيم حقيقي فالماء موضوع للأعم من المطلق والمضاف، لذا صح تقسيمه حقيقة لهما، لا مجازاً بنحو عموم المجاز أو غيره، فيشمل ماء الورد والمعقمات بل كل أنواع الماء المضاف.
أقول: فلو كنا وهذا المقدار من كلامه كان دليلاً على كلام المفيد والمرتضى لكن بوجه آخر وطريق آخر غير ما سلكاه وإن كان الناتج واحداً إذ يشمل حينئذٍ قوله (عليه السلام): ((الْمَاءُ يُطَهِّرُ وَلَا يُطَهَّرُ))[9]، الماء المضاف حقيقة فيكون مطهراً، فهذا وجه جديد لكلامهما وأما وجههما فهو ان الروايات وردت فيها مفردة الغسل، كموثقة عمار السابقة، ولم تقيد بالغسل بالماء المطلق فيكفي مطلق الغسل.
لكن على كلام الحلي فإنه وإن اشترطنا في الغسل كونه بالماء إلا انه يشمل المضاف لأن المضاف ماء، فالمآل هو صحة الغسل بالمضاف، إما لكونه ماء (على كلام الحلي حتى الآن) وإما لكون الغسل به غسلاً وعدم اشتراط الغسل بكونه بالماء خاصة وهو كلام المرتضى.
نعم الشيخ الحلي تراجع عن ذلك لاحقاً بدعوى الانصراف كما سيأتي، فلو قبلنا كلامه حتى الآن ولم نقبل دعوى الانصراف، تمَّ الدليل. فتدبر وانتظر.
أ- لصحة استعمال الماء في الجامع، وفيه: الاستعمال أعم من الحقيقة
3- ان الشيخ الحلي استدل على مدعاه بدليلين أولهما (لصحة استعماله فيه[10] وفي المقسِم[11]، والأَولى كونه حقيقة)، وأجاب عنه السيد الحكيم بقوله: (وفيه: ان الاستعمال أعم من الحقيقة).
توضيح كلام الشيخ الحلي: ان استعمال الماء في المضاف وفي الجامع يحتمل كونه حقيقة كما يحتمل كونه مجازاً، قال والأولى كونه حقيقة، ولكن لماذا؟ لأن الحقيقة بتعبير عرفي: تفرض نفسها وتجذب الاستعمال إليها، وبتعبير فنّي: ان المستعمِل الأصل فيه ان يستعمل اللفظ في معناه الحقيقي، ولا يستعمله في معناه المجازي إلا بقرينة وإلا كان إغراءً بالجهل، وحيث افتقدنا القرينة ههنا دلنا ذلك على أن قولهم (الماء إما مطلق او مضاف) الذي استعمل في الجامع استعمل على نحو الحقيقة، لا المجاز وإلا لأقام قرينة.
فأجاب السيد الحكيم بالقاعدة المشهورة وهي (أن الاستعمال أعم من الحقيقة)، وتوضيحها: اننا إذا وجدنا لغوياً، مثلاً، يستعمل لفظةً في معنى فلا يمكن أن نستكشف من ذلك وضعه له إذ يحتمل ان يكون قد اعتمد على قرينة حالية أو مقالية خفيت علينا، وعليه: فإذا وجدنا اللغوي أو الفقيه مثلاً يقول (الماء إما مطلق أو مضاف)، لم يدل ذلك على أن هذا الاستعمال (في الجامع) حقيقي إذ لعله استعمله فيه لقرينة حالية خفيت علينا.
التحقيق هنا قاعدتان
ومن المهم الالتفات إلى أن ههنا قاعدتين ولكل منهما موطن، فيجب تنقيح الفرق بينهما:
الاستعمال لدى الشك في المعنى المراد
الأولى: ما لو علمنا المعنى الحقيقي وعلمنا المعنى المجازي، ولكن لم نعلم أن المتكلم استعمل اللفظ في أيهما؟ فهنا يجب القول (الاستعمال دليل الحقيقة)[12]، وهي المعبر عنها بأصالة الحقيقة الجارية عند الشك في مراد المتكلم، أي أن الأصل أن يستعمل المتكلم اللفظ في المعنى الموضوع له فإذا أراد العدول عنه وجب عليه إقامة القرينة (على الخلاف = على المجاز) ولذا إذا قال: رأيت أسداً حمل على الحقيقي.
فهذه الكبرى الكلية صحيحة، لكن تطبيق الشيخ الحلي لها على المقام غير صحيح، إذ المقام من صغريات القاعدة الثانية.
الاستعمال لدى الشك في الوضع
الثانية: ما لو جهلنا الموضوع له الحقيقي والمجازي أي كان الشك في الوضع فاستعمل مستعمِلٌ، كاللغوي، اللفظ في معنى، فهنا موطن القول المشهور وهو: (الاستعمال أعم من الحقيقة)، إذ لعله استعمله فيه بقرينة حالية خفيت علينا.
والمقام صغرى هذه الحالة إذ الفرض اننا نجهل، ونحن في طور البحث، انّ الموضوع له الحقيقي للماء هو الماء المطلق فقط أو الأعم من المطلق والمضاف فإذا استعمل اللغوي أو الفقيه الماء في الأعم (في قوله: الماء إما مطلق أو مضاف) لم يدل على انه استعمله فيه بنحو الحقيقة إذ الاستعمال أعم من الحقيقة، ولذا أشكل عليه السيد الحكيم بذلك.
حكم القاعدتين واحد، خلافاً للمشهور
لكنّ الذي نستظهره وحدة حكم القاعدتين[13] وأن الاستعمال إما دليل الحقيقة فيهما أو أعم من الحقيقة فيهما.. وذلك لأنه لو لم نحتمل وجود قرينة خفيت علينا أو نفيناها بالأصل، ففي الصورتين (الشك في المراد والشك في الوضع) أصالة الحقيقة جارية ولو احتملنا وجودها ولم ننفها بالأصل، لوجه ما، فالاستعمال أعم من الحقيقة (سواء الوضع أو المراد) والحاصل: أن المستعمل إذا استعمل اللفظ مع احتمال وجود قرينة حالية أو مقالية علينا فالاستعمال أعم من الحقيقة فيهما. فإذا كان احتمال الاختفاء عقلائياً، ومع ذلك نفينا القرينة بالأصل لتنقيح حال المراد في الصورة الأولى، فكذلك ليكن حال الجهل بالوضع وصورة ما لو استعمل اللغوي اللفظ واحتملنا اعتماده على قرينة حالية أو مقالية خفيت علينا فيمكن أن ننفي القرينة بالأصل، ففي الصورتين لو أجرينا أصالة نفي القرينة فإن الاستعمال دليل الحقيقة وإلا فلا فيهما. وسيأتي مزيد بيان وبرهان بإذن الله تعالى.
نعم لنا أن نستشكل على الشيخ الحلي صغروياً بوجود قرينة في قول العلماء (الماء إما مطلق أو مضاف) فمعها لا يكون الاستعمال دليل الحقيقة، فنحن مآلاً نتفق مع الحكيم لكنه عبر طريق الالتزام بالكبرى وأن (الاستعمال أعم من الحقيقة) ونحن بطريق إنكار الصغرى مع إنكار الكبرى (الاستعمال أعم من الحقيقة) أي نراه دليل الحقيقة لكن نقول المقام ليس منه لأنه استعمال مقترنٍ بقرينة كما سيأتي.
ب- ولعدم العناية في تقسيم الماء إلى مطلق ومضاف، والجواب
4- واستدل الحلي على مدعاه بدليل آخر وهو: (ولعدم التكلف والعناية في التقسيم المذكور بحسب الذوق السليم)، فأجاب عنه السيد الحكيم بـ (ودعوى: عدم العناية في التقسيم مردودة عليه، ولا سيما بعد عدم معروفية التقسيم المذكور بين أهل اللغة، وإنما عُهِد من الفقهاء لأجل تعلق غرضهم به، وإعمالهم العناية لأجل ذلك غير عزيز).
وإشكال السيد الحكيم ههنا وارد؛ وذلك لأن هذا التقسيم (الماء إما مطلق أو مضاف) لا يوجد منه أثر في العرف العام أبداً، وإنما يوجد في كلام الفقهاء فقط فلا يكون دليل الحقيقة، إذ الفقهاء يستخدمونه بعناية وبقرينة مقامية بيّنة، وذلك لأنهم يبحثون في الفقه عن أحكام الماء المطلق والمضاف وان الأول مطهِّر دون الثاني، وأن الكر من الماء المطلق معتصم دون الثاني وهكذا، فحيث كان همّهم أحكام القسمين اقتضى ذلك أن يستعملوا الماء في الأعم (من باب عموم المجاز) كي يكون جامعاً للقسمين فقالوا كتاب المياه أو بحث عن المياه وقالوا الماء إما مطلق أو مضاف.
والذي يشهد لذلك: سؤالكم العرف العام عن أقسام المياه إذ ستجدونهم قد يجيبون: انه ينقسم إلى ماء النهر وماء البحر وماء البئر وماء العين وهكذا أو يجيبون بأنه إما ماء ساخن أو بارد وإما ماء زلال أو غيره، ولا يقولون انه إما ماء وإما ماء الرمان مثلاً ولا إما ماء مطلق أو مضاف من معتصَر وممتزِج.
وأسألوا عرف الكيماويين، وهم عرف خاص، فإنهم لا يقسمون الماء إلى مطلق ومضاف أبداً.
تنبيه: الظاهر ان مقصود السيد الحكيم (ولا سيما بعد عدم معروفية التقسيم المذكور بين أهل اللغة)[14] من أهل اللغة: العرف العام أي الناس، ولا يقصد اللغويين، على انه غير معروف لديهم أيضاً، وعلى أي فإن ملاك وجود العناية وعدمها (كإمارة على المجاز وعدمه) العرف العام والناس لا اللغوي.
وسيأتي غداً بإذن الله تعالى مزيد إيضاح لكلامنا مقابل المشهور وتتمة كلام الحلي (نعم، المنصرف...) وإشكال الحكيم عليه بانه تهافت وتناقض.
أسئلة:
- اقرأ عبارة مفاتيح الشرائع بدقة وأوضحها، ولاحظ هل يختلف ما ذكره عما نقله عنه التنقيح؟
- قرّر دليلي الحلي وجوابي الحكيم عنه بأسلوبك وحاول الانتصار بوجه أو أكثر لأحدهما.
- أوضح دليل المشهور على مدعاهم من التفرقة بين القاعدتين، ودليلنا على وحدة حكمهما.
قال الإمام الصادق (عليه السلام): ((مَن أرادَ الحَديثَ لِمَنفَعَةِ الدُّنيا لَم يَكُن لَهُ فِي الآخِرَةِ نَصيبٌ، ومَن أرادَ بِهِ خَيرَ الآخِرَةِ أعطاهُ اللّهُ خَيرَ الدُّنيا والآخِرَةِ)) (الكافي: ج1 ص46)
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
------------------------------------
[1] إلا في الثوب والبدن.
[2] الناصريّات: 183 السطر 2 .
[3] نقل عنه في الحدائق 1 : 399 .
[4] السيد أبو القاسم الخوئي / الشيخ ميرزا علي الغروي، التنقيح في شرح العروة الوثقى، مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قم: ج2 ص25.
[5] المصدر.
[6] الفيض الكشاني، مفاتيح الشرائع، ج1 ص77.
[7] الشيخ الطوسي، تهذيب الأحكام، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج1 ص418.
[8] لكن بوجه آخر.
[9] الشيخ الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج3 ص1.
[10] أي استعمال الماء في المطلق.
[11] أي في الجامع بين الماء المطلق والمضاف.
[12] لا الاستعمال أعم من الحقيقة.
[13] هذا كبرى وأما تنقيح حال الصغرى فسيأتي.
[14] السيد محمد سعيد الطباطبائي الحكيم، مصباح المنهاج / كتاب الطهارة، مؤسسة الحكمة للثقافة الإسلامية ـ النجف الأشرف: ج1 ص8.
|