بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(33)
هل {طَهُوراً} مجمل بين المعاني الثلاثة؟
والحاصل: ان {طَهُوراً} مردد بين ثلاث معاني أساسية: كونه فعولاً يفيد المبالغة، كونه بمعنى مطهِّر، كونه نظير اسم الآلة أي ما يُتطهّر به.
وعلى الثاني والثالث يتم الاستدلال بالآية الكريمة على مطهّرية الماء، لكن سبق الإشكال في الثاني مفصّلاً، وأما الثالث فإنه وإن صح لكنه مرجوح بالنسبة إلى الأول، لأن الأول (المبالغة) كثير جداً، أما الثالث فإنه وإن كان غير قليل في حد ذاته لكنه أقل جداً من الأول، فحمل الآية الكريمة عليه، على الثالث، خلاف القاعدة، فتكون الآية، لو كنا وهذا المقدار[1]، مجملةً، وبعبارة أخرى: (فعول) قد يقال بانه مشترك لفظي بين الأول والثالث (وكذا الثاني لو قيل به) فحمله على الثالث (أو على الثاني) بحاجة إلى قرينة معيِّنة فما هي؟ فعلى المدعي الإثبات، وقد يقال بانه مشترك معنوي، فإن لم نناقش فيه بانه لا جامع عرفي بينها، فتحمل الآية على الأعم فتكون دليلاً على المطهرية.
وأما المعنى الأول (وهو المبالغة) فإنه كما سبق معنى غير متعدي إلى الغير، أي ان {طَهُوراً} يعني شديد الطهارة (في حد ذاته) فمن أين انه مطهّر؟ ألا ترى ان أكولاً يعني كثير الأكل لكنه لا يعني انه مؤكل لغيره، حتى مع كون فعله ومصدره متعدياً فكيف بطهور الذي فعله غير متعدي![2]
وجوه دلالة {طَهُوراً} للمبالغة على المطهرية في المحتملات الخمسة
نعم، يمكن الاستدلال بـ {طَهُوراً} حتى مع القول بانه يعني المبالغة، على انه يفيد المطهرية بأحد الوجوه الآتية ضمن التقسيم الخماسي الآتي وذلك لأن للّفظ خمس حالات:
1- أن يستعمل في الموضوع له، فهو حقيقة.
2- أن يستعمل في غير الموضوع له ولكن لعلاقة المشابهة، فهو إما استعارة أو مجاز بليغ (والأخير[3] كما تقول زيد أسد أي كالأسد والأول كـ : زأر زيد في المعركة).
3- أن يستعمل في غير الموضوع له ولكن لعلاقة غير علاقة المشابهة، كعلاقة الجزء والكل أو السبب والمسبب.. إلى سائر العلائق التي زادت على الثلاثين، والمختار انها لا تنحصر فيها بل بحسب ما يقتضيه الطبع والذوق السليم، كقولك اعتق رقبةً وغيره، وهذا هو المسمى بالمجاز المرسل.
4- الوجود التنزيلي، كقول الشارع ((الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَ اة))[4]، فإن الطواف حقيقةٌ مغايرةٌ للصلاة، إذ أفعالها غير أفعالها وماهيتها غير ماهيتها، لكنّ الشارع نزّلها منزلتها.
5- الحقيقة الادعائية، وهي ما سبق من التصرف في الحقيقة التكوينية الخارجية ادعاءً، بأن ندعي بأن زيداً الخارجي أسد حقيقة، ومآله إلى توسعة ادعائية لدائرة الأسد، فإذا ادعينا ذلك صح أن نقول (زيد أسد) حقيقة بلا تجوّز إذ بعد توسعة الأسد الثبوتي (وهو الذي صار مورد الادعاء) يكون حمل اسد على زيد حقيقة دون كلام، فلو أشكل مشكل لوجب أن يشكل على المبنى (وانه هل يصح التصرف الاعتباري في الامر التكويني بادعاء كون هذه الحقيقة المغايرة لحقيقة أخرى، عينها ادعاء) لا على البناء، فتدبر.
وحينئذٍ نقول: في قوله تعالى {طَهُوراً} وإن قلنا بأنه موضوع للمبالغة لا لمعنى مطهِّراً ولكن يمكن القول بانه يفيد معنى مطهِّراً بأحد الوجوه التالية:
1- انه حقيقة واقعاً في المطهِّر على مبني الآخوند
الأول: ادعاء انه حقيقة واقعاً، وليس مجازاً بل ولا حقيقة ادعائية، وذلك ما يستفاد من كلام بعض الفقهاء، قال: (نعم، قد يدعى أن المبالغة في الطهاره ملحوظة جهة مصححة لاطلاق الطهور على ما يُحدِث التطهير، لأن إفاضة الطاهر للطهارة على الغير يناسب شدة طهارته، فالمبالغة ليست ملحوظة في المعنى المستعمل فيه، لتكون معيارا مصححا للاستعمال - كما في سائر موارد صيغ المبالغة - بل هي جهة ملحوظة للواضع موجبة لمناسبة اللفظ للمعنى وسببا لاستعماله فيه واطلاقه عليه)[5]، ولعل في كلامه (قدس سره) أكثر من احتمال، ولكن نذكر هنا الاحتمال الذي نرى له وجهاً لو قصده، وهو ان هذا الكلام مبني[6] على مبنى صاحب الكفاية في المعنى الحرفي وإجماله: انه لا شك في اختلاف معنى الابتداء عن معنى (مِن) ومعنى الانتهاء عن معنى (إلى) فإن الابتداء معنى اسمي ومِن معنى حرفي، ولذا صحّ (الابتداء خير من الانتهاء) ولا يصح (من خير من إلى) وصحّ (ابتداء سير القافلة سيكون من المسجد) ولا يصح (من سير القافلة سيكون من المسجد).
وهنا اختلف الأعلام فالمشهور ذهبوا إلى أن الابتداء موضوع للمعنى الاسمي ومن للمعنى الحرفي فالموضوع له فيهما مختلف تماماً لأن المعنى الاسمي مختلف ذاتاً وجوهراً عن الحرفي تماماً، وذهب الآخوند إلى انه لا شيء من المعنى الاسمي والحرفي بموضوع له، بل كلاهما موضوع لمعنى واحد، فلا اختلاف بينهما من حيث الوضع ولا من حيث الموضوع له وإنما لم يصح ذلك الاستعمال لأنه خلاف شرط الواضع إذ شرط في الأسماء استعمالها في (ما قصد لنفسه) وفي الحروف (ما قصد لغيره).
وأجيب بوجوه، منها: ما ذكره المحقق النائيني من استحالة وجود جامع بين المعنى الاسمي والحرفي أي بين ما يستقل بالمفهومية وما لا يستقل كي يكون اللفظان (الابتداء ومن) موضوعين له، ومنها: انه لو صح ما قاله لما وجب علينا الالتزام به إذ الالتزام بشرط الواضع غير لازم إذ غاية الأمر انه يلزم منه مخالفة الواضع ولا يلزم أن يكون غلطاً (مع ان استعمال من مكان الابتداء غلط) إذ لا يقصُر هذا الاستعمال عن المجاز[7].
وبوجه آخر: اننا نرى بوجداننا بداهة بطلان استعمال أحدهما موضع الآخر سواء شرط الواضع أم لا.
وليس البحث الآن مبنوياً، إنما الكلام انه على مبنى الآخوند، فإنه تصح دعوى ان (المبالغة) ليست موضوعاً له لهيئة فعول كي يكون استعمال مثل طهور في مطهِّر مجازاً، بل هو شرط الواضع وعليه يكون استعمال فعول في مُفعِّل حقيقة.
وفيه: ان ذلك وإن أمكن بل حتى وإن صح لكنه خلاف الظاهر وخلاف المرتكز العرفي، فإن العرف يرون هيئة فعول دالة على المبالغة بنفسها وان المبالغة مدلولة لفعول بذاتها، لا انها نتيجة شرط الواضع مع كونها في حد ذاتها لا بشرط وأجنبية عن المبالغة.
بل نقول: حتى لو سلّمنا ما ذكر فمن أين دلّت {طَهُوراً} على معنى مفعِّل أي مطهِّراً (ما دامت المبالغة وغيرها، كالمفعّلية، أجنبية عن الهيئة)؟ ما ذلك إلا لقرينة فأين هي؟
2- انه مطهِّر لعلاقة المشابهة
الثاني: استعمال طهور في مطهِّر لعلاقة المشابهة بينهما، لكنه مجاز بحاجة إلى دليل فأين هو؟ بعبارة أخرى كيف تحمل {طَهُوراً} في الآية عليه[8]، من دون قرينة دالة عليه؟ فلا يتم ما ذكره بعضهم من (بعد ما عرفت من إمكان المبالغة الحقيقية بلحاظ شدة الطهارة واستحكامها وعدم اطراد الاستعمال معها، فلو تم ما ذكروه تعين إرجاعه لما ذكرنا)[9] إذ الإمكان لا يصلح دليلاً على الوقوع فأين الدليل؟.
3- انه مطهِّر تنزيلاً
الثالث: تنزيل مطهِّر منزلة طهور، كتنزيل الطواف منزلة الصلاة، وفيه: إنه وإن أمكن لكنه كسوابقه ولاحقه مفتقر إلى القرينة والدليل.
4- انه مطهِّر كحقيقة ادعائية
الرابع: وكذا حال الحقيقة الادعائية فإنه حتى لو قبلنا بها، مبنىً، فمن أين أن الله تعالى جعل مطهِّراً طهوراً بادعاء كونه حقيقة فيه، بل هو خلاف الظاهر جداً ولذا لا يصح ما ذكر من (وإن كان قد يترائى منه أن الصيغة محافظة على المبالغة وان إفادتها للمطهرية لانها من مظاهرها ومصاديقها الادعائية بعد تعذر المصداق الحقيقي لها وهو التكثر، لعدم قابلية الطهارة له)[10].
تنبيه: كما ترون فإن البحث في معنى {طَهُوراً} هو مشتَبَك البحث الفقهي والتفسيري وفقه اللغة، لذلك استدعى استفراغ الوسع في تحقيق المراد به.
بل نقول: ان ذلك ونظائره مما يكشف عن ان الاجتهاد في المسائل ليس سهلاً كما يتوهمه بعض بل ليس متاحاً لكل أحد؛ إذ وجدنا أن البحوث السابقة بحوث دقيقة وقد وقعت معتركاً للأخذ والرد بين كبار الفقهاء والمفسرين واللغويين، فهل يمكن لكل أحد الغور فيه والاستنباط؟ وإذا أمكن فإنه ليس بالسهل بل هو بحاجة إلى إعمال فكر وتدبر وتأمل واحتياط أيضاً في رد هذا الكلام أو قبول ذاك.
أسئلة:
- أوضح الحقيقة الادعائية بأسلوبك.
- ما الفرق بين المجاز البليغ والاستعارة.
- ما الفرق بين الوجود التنزيلي والحقيقة الادعائية.
- ناقش الآخوند في مدعاه من ان الحرف والاسم (من، الابتداء) موضوعان للقاسم المشترك والجامع بين المستقل بالمفهومية وغير المستقل، أو دافع عنه.
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ((الدَّهْرُ يَوْمَانِ فَيَوْمٌ لَكَ وَيَوْمٌ عَلَيْكَ فَإِذَا كَانَ لَكَ فَلَا تَبْطَرْ وَإِذَا كَانَ عَلَيْكَ فَلَا تَحْزَنْ فَبِكِلَيْهِمَا سَتُخْتَبَرُ)) تحف العقول عن آل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): ص207.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
------------------------------------
[1] أي مع قطع النظر عن الأدلة الأخرى.
[2] بعبارة أخرى التعدي يستعمل بمعنيين ههنا: الأكل فعل متعدي إذ نقول أكل زيد الطعام، لكن أكول غير متعدي (أي إلى الغير، لا إلى الطعام) أي لا يعني أكول انه مؤكل غيره بل أكول للطعام.
[3] المجاز البليغ.
[4] عوالي اللآلئ: ج2 ص167
[5] السيد محمد سعيد الطباطبائي الحكيم، مصباح المنهاج / كتاب الطهارة، مؤسسة الحكمة للثقافة الإسلامية ـ النجف الأشرف: ج1 ص21.
[6] أو هو نظير له.
[7] يراجع فوائد الأصول: ج1-2 ص47-49.
[8] على مطهِّر.
[9] السيد محمد سعيد الطباطبائي الحكيم، مصباح المنهاج / كتاب الطهارة، مؤسسة الحكمة للثقافة الإسلامية ـ النجف الأشرف: ج1 ص22.
[10] السيد محمد سعيد الطباطبائي الحكيم، مصباح المنهاج / كتاب الطهارة، مؤسسة الحكمة للثقافة الإسلامية ـ النجف الأشرف: ج1 ص22.
|