بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(44)
تتمات:
1- ليس السياق حجة
سبق (الأول: ليس السياق القرآني حجة على خلاف ظواهر الألفاظ وذلك للروايات المسلّمة الدالة على «إِنَّ الْآيَةَ لَيَنْزِلُ أَوَّلُهَا فِي شَيْءٍ وَأَوْسَطُهَا فِي شَيْءٍ وَآخِرُهَا فِي شَيْءٍ وَهُوَ (كَلَامٌ مُتَصَرِّفٌ) عَلَى وُجُوهٍ»[1] وفي جامع أحاديث الشيعة عن المحاسن: «وَهُوَ كَلَامٌ مُتَّصِلٌ مُنْصَرِفٌ عَلَى وُجُوه»[2].
ويستثنى من ذلك ما لو كان السياق ظاهراً عرفاً، وليس المقام كذلك[3] ولذا أعرض عن ذكره والبناء عليه مشهور الفقهاء، بل كاد أن يكون إجماعهم[4] في الآية الشريفة، سلّمنا لكن السياق القرآني لو كان حجة فإنه، بحسب المحقق الاشتياني في بحر الفوائد، أضعف الظهورات فلا يقاوم الظهور الاطلاقي. وسيأتي بإذن الله تعالى مزيد بيان)[5].
المحتملات الثلاثة في المراد من حجية السياق
ومزيد البيان انه: تارة: يراد بحجية السياق القرآني انه مفيد نافع، فهذا لا شك فيه (مطلقاً أو في الجملة حسب نوع السياق ودرجات خفائه أو ظهوره).
وأخرى: يراد به انه لو بلغ مرتبة الظهور كان حجة، ولا شك ان كل شيء يبلغ درجة الظهور العرفي حجة، لكن تكون عهده إثبات بلوغ السياق درجة الظهور حينئذٍ على المدعي، فلا يصح له أن يتمسك بمجرد القول أن السياق كذا بل لا بد له من إثبات انه بلغ مرتبة الظهور العرفي (ولو بضميمةٍ كمناسبات الحكم والموضوع مثلاً).
لا حجية للسياق في مقابل العمومات والإطلاقات
وثالثة: يراد به انه حجة مسقطة لسائر الحجج (كالمطلق والعام) عن الحجية، فهذا هو الذي ننفيه ونقول انه على فرض حجية السياق فإنه لدى تعارضه مع ظهور العام في العموم أضعف منه فيتقدم عليه العام، ولذا قال المحقق الاشتياني أن الظهور السياقي أضعف الظهورات واعتبره في الدرجة السادسة (النازلة) من الظهور بعد ظهور العموم والإطلاق ونظائرهما[6].
وتدل على ذلك الروايات وبناء الفقهاء وسيرتهم (حتى من ادعى حجيته وتقدمه على الإطلاق والعموم منهم):
للروايات ولجرْي الفقهاء
أما الروايات فهي متعددة ومنها ما صدرنا به البحث، فإن الذي يستفاد منها: ان السياق مكمّل وليس بنافٍ[7] فـ «إِنَّ الْآيَةَ لَيَنْزِلُ أَوَّلُهَا فِي شَيْءٍ وَأَوْسَطُهَا فِي شَيْءٍ وَآخِرُهَا فِي شَيْءٍ» إذن فكل جملة منها حجة في حد ذاتها، ولكن مع ذلك فإن الأمر من قبيل الاتصال في الانفصال والانفصال في الاتصال، ولذا فإنها رغم كونها حجة تامة في حد ذاتها فإنها بلحاظ السياق تفيد فوائد أخرى (مكمِّلة – لا نافية) ولذا فـ «وَهُوَ (كَلَامٌ مُتَصَرِّفٌ) عَلَى وُجُوهٍ» فيستفاد منها شيء ويستفاد من سياقها شيء وهكذا[8] فلها وجوه من المطالب والفوائد والدلالات[9] خاصة مع ان النسخة في المصدر الذي نقل عنه الوسائل هي (وهو كلام متصل ينصرف).
وأما الفقهاء، فإن جريهم وسيرتهم على الاستدلال بمطلقات الكتاب وعموماته، وعدم عدّ السياق مخلّاً بها، حتى ان من اعتبره حجة في الأصول لم يعمل في الفقه على مبناه، ويكفي أن نمثل بمثالين واضحين:
{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} مطلق لا يُخِلّ به سياقه
أولهما: قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}[10] فإن الفقهاء استدلوا بإطلاق البيع، مع أن السياق سياق الجواب عن إشكال المشركين بـ {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا} وليس سياق تأسيس قاعدة أو إلقاء حكم عام، أي ليس المقام مقام البيان من هذه الجهة (ومع ذلك لم يعتنِ الفقهاء بالسياق ولم يرونه مخلاً بالإطلاق ولا باشكال عدم إحراز كون المولى في مقام البيان) فلاحظ تمام الآيات الكريمة {الَّذينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فيها خالِدُونَ} فالسياق كله صريح في انه في مقام الرد على المشركين:
أ- حيث زعموا: أن البيع مثل الربا، أي كما اننا لو امتلكنا داراً أو شاة فلنا أن نبيعها بثمن نربح به، فكذلك لو أمتلكنا نقداً ومالاً، فلنا أن نربح به (وهو المسمى بالربا) فما الفرق بين البيع والربا إذ في كل منهما نحن مالكون (إما الشاة أو المبلغ) فلماذا لا يصح أن نربح باعطاء مالنا للمقترض لمدة سنة ويصح أن نربح ببيعنا الشاة له (مع أن الشاة تتحول إلى مال والمال يتحول إلى شاة، فالواقع هو المدار، والجوهر هو: اننا نملك شيئاً له قيمة فلنا أن نربح به سواء ببيع أم بمعاملة ربوية أم بقرض) قال في التبيان: (إن المشركين قالوا: الزيادة على رأس المال بعد مصيره على جهة الدين كالزيادة عليه في ابتداء البيع، وذلك خطأ، لأن أحدهما محرم والآخر مباح)[11].
وفي الكشاف: (فإن قلت: هلا قيل إنما الربا مثل البيع لأنّ الكلام في الربا لا في البيع[12]، فوجب أن يقال إنهم شبهوا الربا بالبيع فاستحلوه، وكانت شبهتهم أنهم قالوا: لو اشترى الرجل ما لا يساوى إلا درهما بدرهمين جاز، فكذلك إذا باع درهما بدرهمين؟ قلت: جيء به على طريق المبالغة، وهو أنه قد بلغ من اعتقادهم في حل الربا أنهم جعلوه أصلا وقانونا في الحل حتى شبهوا به البيع. وقوله وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا إنكار لتسويتهم بينهما، ودلالة على أنّ القياس يهدمه النص، لأنه جعل الدليل على بطلان قياسهم إحلال اللَّه وتحريمه)[13].
ب- والجواب جوابان:
1- اقتصادياً بالفرق بينهما علمياً واقتصادياً، وقد فصّلناه بوجوه عديدة وبإسهاب في كتاب (بحوث في الاقتصاد الإسلامي المقارن) وكتاب (التنمية في نصوص الإمام علي عليه السلام) حيث أوضحنا ذلك بوجوه عديدة اعترف بها، بعد بحث مطول، عدد من كبار علماء الاقتصاد الذين ناقشناهم.
2- ما ذكرته الآية الكريمة من {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} وهو جواب ظاهره التعبد (وواقعه البرهان) وهو أن الفارق أن الله تعالى وهو المالك حرَّم الربا وأحل البيع، وللمالك أن يتصرف في ملكه كما يشاء؛ ألا ترى أن الضيف لو قال له صاحب الدار (أجلس في هذه الغرفة دون تلك) لم يصح له أن يعترض بـ: وما الفرق إذ للمالك أن يحدد التصرف في ملكه كما يشاء.
فـ {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} إنما وقع في سياق الجواب عن شبهة انه ما الفرق بين البيع والربا، وليست في مقام تأسيس قاعدة، فلو قلنا ان السياق مخلّ لما أمكن الاستدلال بها على حلية مطلق البيوع، ولكن الفقهاء يستدلون، والسبب ما ذكرناه من أن كل جملة فهي حجة في حد ذاتها والسياق مكمّل لا نافٍ، والروايات بذلك شاهدة، فإن لم يقبل ذلك فقيه في آية {طَهُوراً} فعليه أن لا يقبله في هذه الآية والآية اللاحقة وغيرهما.
نعم من لم ير من الفقهاء تمامية الإطلاق في آية {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} لا يرد عليه هذا النقض فراجع تمام الكلام عن ذلك وعن رد هذا المدعى في مناقشتنا مع الفقيه الهمداني (قدس سره) في مباحث البيع[14].
والمفسرون لم يخصصوا {طَهُوراً} استناداً للسياق
وفي المقام نجد انه على ذلك بنى المفسرون (أي على أن الخطاب في هذه الآيات التي اعتبرت سياقاً، عام وليس مختصاً بالمشركين بل هو موجه لجميع المكلفين (وامتنان عليهم).
قال في مجمع البيان: (ثم نبّه سبحانه على النظر فيما يدل على وحدانيته وكمال قدرته فقال: {أَلَمْ تَرَ} الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله)، والمراد به سائر المكلفين {إِلىَ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ اَلظِّلَّ}[15].)[16] فلاحظ قوله: (والمراد به سائر المكلفين) وليس الكفار فحسب. أقول: وهو المتفاهم عرفاً، وقال: ( {وَهُوَ اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَللَّيْلَ لِبَاساً} أي غطاء ساتراً للأشياء بالظلام، كاللباس الذي يشتمل على لابسه، فالله سبحانه ألبسنا الليل، وغشانا به، لنسكن ونستريح من كد الأعمال، كما قال في موضع آخر {لِتَسْكُنُوا فِيهِ}، {وَاَلنَّوْمَ سُبَاتاً} أي راحة لأبدانكم و قطعاً لأعمالكم)[17]، فالكلام عن جميع البشر لا عن الكفار خاصة، وقال: ( {وَأَنْزَلْنَا مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} أي طاهراً في نفسه ومطهِّرا لغيره مزيلاً للأحداث والنجاسات)[18].
وقال الزمخشري: (وهذه الآية مع دلالتها على قدرة الخالق فيها إظهار لنعمته على خلقه، لأنّ الاحتجاب بستر الليل، كم فيه لكثير من الناس من فوائد دينية ودنيوية، والنوم واليقظة وشبههما بالموت والحياة، أي عبرة فيها لمن اعتبر)[19].
{أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} عام لا يُخِلّ به سياقه
ثانيهما: قوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} وقد استدل بها الفقهاء، مع أن السياق لو قيل بحجيته لأخلَّ، ولا أقل من كونه من محتملات القرينية المتصل، فلاحظ الآيات الشريفة {يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُريدُ * يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلائِدَ وَلاَ آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَديدُ الْعِقابِ}[20]، فإن الآية لو لوحظت وحدها لكانت تامة الدلالة على وجوب الوفاء بالعقود (في المعاملات) لكنها مع سياقها، يحتمل فيهان بل هو قول بل فيه روايات، أن يكون المراد عقودكم مع الله تعالى، ففي الرواية فسرت بعقدهم وبيعتهم مع علي (عليه السلام) والآية محتملة، إن لم تكن ظاهرة بسياقها، في العقود مع الله تعالى إذ يحتمل أو يستظهر أن {أُحِلَّتْ...} وما بعدها تفصيل ما أجمل في {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} لا انها جملة مستأنفة عما قبلها تماماً، أي أوفوا بعقدكم مع الله تعالى فأحلّوا حلاله وحرّموا حرامه ولا تتجاوزوا عن أوامره ونواهيه، فليست على هذا عن العقود بين البشر أنفسهم أو أن شملها الإطلاق فحيث انه ليس في مقام البيان من هذه الجهة فلا يفيد وجوب الوفاء بكل عقد (حتى العقود المستأنفة مثلاً).
والمفسرون على العموم ولم يروا السياق مخلاً
فلاحظ بعض كلمات المفسرين، فإن من لم يقل بان (العقود) للعهد، بنى على العموم من غير اختلاله بالسياق، ونكتفي ههنا بكلام صاحبي الكشاف ومجمع البيان، قال في الكشاف: (وهي عقود اللَّه التي عقدها على عباده وألزمها إياهم من مواجب التكليف. وقيل: هي ما يعقدون بينهم من عقود الأمانات ويتحالفون عليه ويتماسحون من المبايعات ونحوها.
والظاهر أنها عقود اللَّه عليهم في دينه من تحليل حلاله وتحريم حرامه وأنه كلام قدّم مجملا ثم عُقّب بالتفصيل وهو قوله أُحِلَّتْ لَكُمْ وما بعده. البهيمة: كلّ ذات أربع في البرّ والبحر، وإضافتها إلى الأنعام للبيان، وهي الإضافة التي بمعنى «من» كخاتم فضة)[21].
وقال في تفسير مجمع البيان: (المعنى: خاطب الله سبحانه المؤمنين، فقال: (يا أيها الذين آمنوا) وتقديره: يا أيها المؤمنون، وهو اسم تكريم وتعظيم (أوفوا بالعقود) أي: بالعهود، عن ابن عباس، وجماعة من المفسرين، ثم اختلف في هذه العهود على أقوال:
أحدها: إن المراد بها العهود التي كان أهل الجاهلية عاهد بعضهم بعضاً فيها على النصرة، والمؤازرة، والمظاهرة، على من حاول ظلمهم، أو بغاهم سوءا، وذلك هو معنى الحلف، عن ابن عباس، ومجاهد، والربيع بن انس، والضحاك، وقتادة، والسدي.
وثانيها: إنها العهود التي أخذ الله سبحانه على عباده بالإيمان به وطاعته، فيما أحل لهم، أو حرم عليهم، عن ابن عباس أيضاً، وفي رواية أخرى قال: هو ما أحل وحرم، وما فرض وما حد في القرآن كله أي: فلا تتعدوا فيه، ولا تنكثوا. ويؤيده قوله (والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه) إلى قوله (سوء الدار).
وثالثها: إن المراد بها العقود التي يتعاقدها الناس بينهم، ويعقدها المرء على نفسه، كعقد الايمان، وعقد النكاح، وعقد العهد، وعقد البيع، وعقد الحلف، عن ابن زيد، وزيد بن أسلم.
ورابعها: إن ذلك أمر من الله لأهل الكتاب بالوفاء بما أخذ به ميثاقهم من العمل بما في التوراة والإنجيل، في تصديق نبينا، وما جاء به من عند الله، عن ابن جريج، وأبي صالح.
وأقوى هذه الأقوال قول ابن عباس: إن المراد بها عقود الله التي أوجبها الله على العباد في الحلال، والحرام، والفرائض، والحدود، ويدخل في ذلك جميع الأقوال الأخر، فيجب الوفاء بجميع ذلك، إلا ما كان عقدا في المعاونة على أمر قبيح، فإن ذلك محظور بلا خلاف)[22].
والمستظهر لدى العبد الفقير وإن كان هو ما استظهره الطبرسي.
وبعبارة أخرى: العقود عام يشمل العقود مع الله تعالى ومع الناس، لكن الكلام في كون ذلك معتمداً على جملة {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} وحدها مع ضم عدم إخلال ما لحقها بعمومها وإن كان من محتمل القرينية المتصل بل وإن أفاد تفصيل إجمال {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} فإنه، حسبما ذكرناه مفيد لفائدة جديدة أو مؤكد لبعض الأصناف، غيرُ نافٍ.
2- ليس سياق الآيات الاحتجاج بل الهجوم
الجواب الثاني: ان السياق ليس سياق المحاجة مع الكفار، على ما ذكره (قدس سره) بل هو مقام الهجوم الصريح الشديد عليهم، فلئن لم يصح الاحتجاج على الطرف بدليل ينكره ونِعمةٍ يُنكرِ كونَها نعمةً (كالمطهرية من النجاسات الشرعية) فلا شك انه يحسن الهجوم عليه ونقده على ما ينكره؛ ألا ترى أنك تقول لمن أنعمت عليه وجحد انعامك: (يا جاحد النعمة) أو تقول للمتكبر (يا متكبر) معنِّفاً إياه وإن كان ينكر كونه جاحداً للنعمة أو متكبراً، إذ يكفي في الهجوم عليه وإدانته كونه كذلك في نظرك أو كونه كذلك لدى العقلاء أو كونه كذلك حسب معطيات القواعد أو كونه كذلك في الواقع[23]. فتدبر.
والآيات الكريمة تبدأ بهجوم وتستمر به وتنتهي به.. فلاحظ قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ...} فإنه صريح في الهجوم عليهم وليس بحثاً واحتجاجاً معهم ثم قوله: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا} فإنه هجوم صريح وليس جدالاً بالأحسن[24] ولا هو استدلال ومحاجّة معهم، ثم نبّه تعالى على علامةٍ عامةٍ على قدرته {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ...} ثم استأنف الكلام بجملة عامة مخاطباً كل البشر {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ...} وليس الخطاب للكفار خاصة (بل ربما لا يخطر ببال أحد ذلك) ثم قال: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا} وليس المقصود أناسي كثيرة من الكفار بل المراد من جميع البشر.. ثم انتهى بهجوم آخر {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا[25]}.
3- وهناك سياقان
الثالث: سلّمنا، لكن ليس هنالك سياق واحد بل سياقان، كما ظهر مما ذكرناه في البحث السابق (لكنّ الخطاب الموجه إليه...) فراجعه وتدبر.
4- قرينة السياق تعارضها قرينة أقوى هي الامتنان
الرابع: سلّمنا، لكن قرينة السياق حتى لو سلمت، فإنه تعارضها قرينة الامتنان والامتنان بالمذكورات في الآية الشريفة عام لكل البشر وليس خاصاً بالكفار، بعبارة أخرى: مقتضى الامتنان، والآيات واردة مورده، العموم لا الخصوص، وقد تعامل الفقهاء عموماً مع الامتنان، في قاعدة لا ضرر وغيره، معاملة العلة المعمِّمة والمخصصة، لا الحكمة، كما اعتبر السيد الخوئي الامتنان في الآية الشريفة دليل الإطلاق (كما سبق مفصلاً) فقد بنى على العلية دون الحكمة وإلا كفى الامتنان في الجملة فلم يثبت الإطلاق.
ولا فرق في عِلّية الامتنان وإفادته العموم بين كون المراد الطهور الشرعي أو العرفي، فإن الامتنان يقتضي أن يكون كل منهما عاماً لكل البشر (كما هو كذلك وكما هو بناء العقلاء في القذارات وبناء الفقهاء في المطهرات) فإن الماء مطهر من نجاسة البول مثلاً سواء المسلم أم الكافر حتى إن قلنا بنجاسته إذ التطهر مما مسه يكفي فيه المرة من القليل وأما لو كانت يده ملوثة بالبول فلا تكفي.
5- كما تعارضها القرينة الداخلية في الآية
الخامس: وهناك قرينة أخرى على خلاف قرينة السياق وهي قوة الإطلاق عرفاً في جملة {وَأَنْزَلْنَا مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} بما لها من المادة والهيئة، فهي قرينة داخلية قوية عامة ترجح على قرينة السياق السابقة المستشكل عليها من وجوه عديدة، بل ومع قطع النظر عن الإشكالات فإنها ضعيفة لا تقاوم الظهور العرفي القوي لجملة {وَأَنْزَلْنَا...} خاصة مع عضدها بمناسبات الحكم والموضوع المقتضية للأعم؛ ولذا استفاد منها الفقهاء والمفسرون واللغويون العموم ولم نجد أحداً منهم على مر التاريخ خصها بأن الخطاب للكفار.
لا يقال: كم ترك الأول للآخر؟
إذ يقال: ذلك في النكات الدقيقة الخفية، لا في دعوى ظهور السياق في اختصاصه بالكفار، مع خفاء هذا الظهور على جميع المفسرين والفقهاء واللغويون على مر التاريخ، فأي ظهور عجيب هذا الذي لم يره ولم يتفطن له أحد من ألوف العلماء ورآه فقيه في آخر الزمان؟ فلئن كان السياق حجة فيما لو أفاد الظهور فإن النوع لم يروه في المقام ظاهراً أصلاً وإلا لذكروه كيف وقد تطرقوا لمباحث شتى ودقائق كثيرة في هذه الآية ولم يذكر أحد منهم ان ظاهر السياق صارف لـ {وَأَنْزَلْنَا...} عن عمومها للخلق إلى خصوصها بالكفار.
والحاصل: ان للفقيه أن يقطع بشيء لكن لنا أن نسأله عن منشأ قطعه فإن كان منشؤه دعوى الظهور قلنا الظهور العرفي هو الملاك، ولا ظهور عرفي أبداً.
وسيأتي الجواب السادس بإذن الله تعالى فانتظر.
أسئلة:
- أوضح المعاني الثلاثة لحجية السياق.
- ابحث عن روايات أخرى تفيد كون الآيات متصلة في حال استقلالها.
- اذكر أمثلة فقهية أخرى مشابهة لمثالي {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} و{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} مستدلاً بها على عدم إخلال السياق بالعموم أو الإطلاق.
- ابحث عن الجواب الاقتصادي عن شبهة مماثلة الربا بالبيع.
- أوضح بعباراتك كيفية وجود سياقين في {وَأَنْزَلْنَا مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً}.
- ما الدليل على تقديم قرينة الامتنان على قرينة السياق؟.
- كيف تفيد مناسبات الحكم والموضوع أعمية {وَأَنْزَلْنَا مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً}؟.
قال الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) لبعض وُلدِهِ: «يَا بُنَيَّ إِيَّاكَ أَنْ يَرَاكَ اللَّهُ فِي مَعْصِيَةٍ نَهَاكَ عَنْهَا وَإِيَّاكَ أَنْ يَفْقِدَكَ اللَّهُ عِنْدَ طَاعَةٍ أَمَرَكَ بِهَا وَعَلَيْكَ بِالْجِدِّ وَلَا تُخْرِجَنَّ نَفْسَكَ مِنَ التَّقْصِيرِ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُعْبَدُ حَقَّ عِبَادَتِهِ وَإِيَّاكَ وَالْمِزَاحَ فَإِنَّهُ يَذْهَبُ بِنُورِ إِيمَانِكَ وَيَسْتَخِفُّ مُرُوَّتَكَ وَإِيَّاكَ وَالضَّجَرَ وَالْكَسَلَ فَإِنَّهُمَا يَمْنَعَانِ حَظَّكَ مِنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» تحف العقول عن آل الرسول (صلى الله عليه وآله): ص409.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
------------------------------------
[1] الشيخ الحر العاملي، وسائل الشيعة مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) ـ قم: ج27 ص204.
[2] المحاسن، دار الكتب الإسلامية ـ قم: ج2 ص300.
[3] أي ليس السياق ظاهراً في التخصيص بالكفار.
[4] أي إجماع من ذكرها منهم في المقام.
[5] الدرس (1063/43).
[6] كظهور الأمر في الوجوب.
[7] أي مكمل لمفاد الجملة ومفيد فائدة إضافية وليس بنافٍ لمفادها.
[8] فصّلنا وجوه (هكذا) في مباحث التفسير فراجع موقع مؤسسة التقى الثقافية m-alshirazi.com
[9] فصّلنا الكلام عن محتملات معنى الرواية في فقه (المعاريض والتورية) فراجع.
[10] سورة البقرة: الآية 275.
[11] الشيخ الطوسي، التبيان في تفسير القرآن، إحياء التراث العربي ـ بيروت: ج2 ص360.
[12] قال محمود: «إن قلت لم لم يقولوا: إنما الربا مثل البيع ... الخ» قال أحمد: وعندي وجه في الجواب عن السؤال الذي أورده غير ما ذكر، وهو أنه متى كان المطلوب التسوية بين المحلين في ثبوت الحكم، فللقائل أن يسوى بينهما طرداً، فيقول مثلا: الربا مثل البيع، وغرضه من ذلك أن يقول: والبيع حلال فالربا حلال. وله أن يسوى بينهما في العكس فيقول: البيع مثل الربا، فلو كان الربا حراما كان البيع حراما ضرورة المماثلة. ونتيجته التي دلت قوة الكلام عليها أن يقول: ولما كان البيع حلالا اتفاقا غير حرام، وجب أن يكون الربا مثله، والأول على طريقة قياس الطرد، والثاني على طريقة قياس العكس، ومآلهما إلى مقصد واحد، فلا حاجة على هذا التقرير إلى خروج عن الظاهر لعذر المبالغة أو غيره، وليس الغرض من هذا كله إلا بيان هذا الذي تخيلوه على أنموذج النظم الصحيح وإن كان قياسا فاسد الوضع، لاستعماله على مناقضة المعلوم من حكم اللَّه أيضا في تحريم الربا وتحليل البيع وقطع القياس بينهما، ولكن إذا استعملت الطريقتين المذكورتين استعمالا صحيحاً فقل في الأولى: النبيذ مثل الخمر في علة التحريم، وهو الإسكار، والخمر حرام فالنبيذ حرام. وقل في الثانية: إنما الخمر مثل النبيذ فلو كان النبيذ حلالا لكان الخمر حلالا، وليست حلالا اتفاقا فالنبيذ كذلك ضرورة المماثلة المذكورة، فهذا التوجيه أولى أن تحمل الآية عليه، واللَّه أعلم.
[13] الزمخشري، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ج1 ص320-321.
[14] مؤسسة التقى الثقافية m-alshirazi.com (البيع 1440-1441هـ) الرقم 339.
[15] سورة الفرقان: الآية 45.
[16] الشيخ الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات ـ بيروت: ج7 ص299.
[17] الشيخ الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات ـ بيروت: ج7 ص301.
[18] المصدر نفسه.
[19] الزمخشري، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ج3 ص283.
[20] سورة المائدة: الآيتان 1-2.
[21] الزمخشري، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ج1 ص600-601.
[22] الشيخ الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات ـ بيروت: ج3 ص259-260..
[23] هذا الرابع، مرآته احدى الثلاثة السابقة.
[24] إذ لكلٍّ مكانه.
[25] سورة الفرقان: الآيات 43-50.
|