بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
تحرير محل النزاع
المحتملات، بل الأقوال، في المطهِّر من الخبث، شرعاً، ثلاثة:
الأول: الإزالة.
الثانية: الغَسل.
الثالث: التطهير أي[1] الغسل بالماء المطلق بشروطه ككونه وارداً مثلاً لا مورداً عليه.
والأول أعم من الثاني، لشموله الإزالة ولو بالحك والحتّ[2]، والثاني أعم من الثالث لشموله الغسل ولو بالماء المضاف.
وأما الأول ذهب المحدث الكاشاني (قدس سره)، وذهب المشهور إلى الثالث، بينما ذهب السيد المرتضى (قدس سره) إلى القول الوسط بينهما.
مركز الخلاف بين السيد المرتضى والمشهور
وعمدة الخلاف بين المرتضى والمشهور أن جميع الروايات، إلا اثنتين أو ثلاثاً، وردت فيها مفردة (الغَسل) من دون التقييد بكونه بالماء، فاستفاد المرتضى منها كفاية مطلق الغسل ولو كان بماء الورد وكذا سائر المضافات؛ وذلك نظراً لإطلاق لفظ الغسل وصدقه بالحمل الشائع على الغسل بمطلق المائع، بينما ارتأى المشهور الانصراف، أي انصراف الغَسل إلى الغَسل بالماء المطلق وهذا يعني انهم لم ينكروا ان الغسل مطلق شامل لهما لكنهم رأوا وجود قرينة على الخلاف وهي الانصراف كما فيما نقلناه عن المحقق الهمداني..
ولكن السيدين الوالد والخوئي (قدس سرهما)، أنكرا الانصراف (وردّا على المشهور) كلّ بوجه:
الفقه: لا انصراف؛ لشهادة العرف غير المتشرع
قال في الفقه: (الثالث: إطلاق الأخبار الآمرة بالغَسل، بضميمة أن المنصرف من الغسل هو الإزالة بالماء المطلق.
وفيه: أن الانصراف بدوي من جهة كون الماء الفرد الغالب أو المنحصر في أغلب الأوقات، وذلك غير موجب لتعيين الماء، ألا ترى أن العرف غير المتشرع لو أُمِر بالغسل، لم يَفهم منه إلا إزالة القذارة، وكان فهمُ كونِ مرادِهِ بالماء من باب انحصار المطهر به أو غلبته، حتى لو فرض أن هناك شيئاً آخر يزيل القذارة بحذافيرها وأزاله العبد بذلك، كان بنظر العرف مطيعاً لأمر الغسل.
والحاصل: أن انصراف أدلة الغسل إلى الغسل بالماء غير موجب لتعيين الماء[3]، لكونه بدوياً)[4].
إيضاحٌ: قوله: (الانصراف بدوي من جهة كون الماء الفرد الغالب أو المنحصر في أغلب الأوقات، وذلك غير موجب لتعيين الماء) يراد به أن الماء هو الفرد الغالب أو المنحصر فيتبعه كون الاستعمال كذلك، ولذا فرّع عليه (ألا ترى...) حيث رتبه على الغسل وانه لا يفهم منه العرف إلا كذا، ولولا ذلك لورد عليه ما نقلناه من مصباح الفقيه: (من وجود فردين: ندرة الماء وندرة الغسل...) فراجع.
وحاصل استدلاله هو قرينية الفهم العرفي وان العرف يرونه حينئذٍ ممتثلاً، ومرجعية عرف غير المتشرعة وهم يرون الصدق[5].
وعرف المتشرعة ليس حجة هنا
لا يقال: المسألة شرعية فالمرجع عرف المتشرعة لا غيرهم؟
إذ يقال: لا شك انه لا توجد حقيقة شرعية في الغسل، ولم يقل به أحد فليس منقولاً عن معناه اللغوي بل هو باقٍ عليه، فالمرجع إذاً عرف غير المتشرعة في فهم المراد من الغسل وانصرافه وعدمه.
فهذا أولاً، ونقول ثانياً: انه حتى لو فرض ان المرجع عرف المتشرعة، وان المتشرعة طراً يرون الماء المطلق مطهراً من الخبث دون الماء المضاف، فإنه يجاب بان خصوص هذا العرف المتشرعي ليس بحجة، وذلك لأن عرف المتشرعة، أي عامة المتدينين، وارتكازهم إنما نشأ عن الفتاوى (بعدم مطهِّرية المضاف) والفتاوى لا شك في أن مستندها هي هذه الروايات (ودعوى انصرافها عن المضاف)[6] فغاية الأمر ان تكون إجماعاً، (وليست إجماعاً مع مخالفة المرتضى، على مبنى اللطف إذ اللطف حاصل بمخالفة مثله، بل على مبنى الحدس أيضاً على وجه)، والإجماع محتمل الاستناد ليس بحجة فكيف بمقطوعه؟
والحاصل: ان الفقيه إذا عرف مستند المجمعين وانه دعوى انصراف هذه الروايات وعدمها، فلا يكون استظهارهم حجة عليه إذا لم يرَ ما ارتأوه.
التنقيح: لا وجه للانصراف؛ لعدم تشكيكية الغَسل
وقال في التنقيح: (وقد يجاب عن ذلك بأن المطلقات الآمرة بغسل المتنجسات تنصرف إلى الغسل بالماء، لمكان قلة الغسل بغير الماء وندرته وكثرة الغسل بالماء وأغلبيته.
وفيه: أن كثرة الأفراد وقلّتها لا تمنع عن صدق الاسم على الأفراد النادرة والقليلة، وبعبارة أخرى الغسل ليس من المفاهيم المشكّكة حتى يدّعى أن صدقه على بعض أفراده أجلى من بعضها الآخر، بل الغسل كما يصدق على الغسل بالماء كذلك يصدق على الغسل بغيره حقيقة، كالغسل بماء الورد بناءً على أنّه مضاف، إذ الغسل ليس إلّا بمعنى إزالة النجاسة والقذارة، وهي صادقة على كل من الغسلين، وبعد صدق الحقيقة على كليهما فلا تكون قلة وجود أحدهما خارجاً موجبة للانصراف كما هو ظاهر)[7].
وبعبارة أخرى: ان منشأ الانصراف إما هو كثرة الأفراد وقلتها أو هو تشكيكية الماهية، والأول ليس منشأ للانصراف (بل هو انصراف بدوي – بل خطوري كما سيأتي) والثاني ليس متحققاً في المقام؛ إذ الغسل ليس مشككاً (وليس الغسل بالمضاف مرتبة نازلة من الغسل بالماء المطلق ليقال بانصراف الغَسل عن الأول إلى الثاني).
لا يقال: الغسل مشكك، لبداهة ان هنالك غسلاً سريعاً وغسلاً بطيئاً (لاحظ الغسالات الحديثة مثلاً) وان هنالك غسلاً شديداً وغسلاً ضعيفاً.
إذ يقال: ذلك وإن صح، فيما نرى ( وإن كان لعله (قدس سره) لا يقبله)، لكنه لا يصح في المقام (فلا يشكل به عليه وإن لم يقبل الكبرى) إذ نقول: هب أن الغسل مشكك، وان له مراتب ولكن الغسل بالمضاف والغسل بالمطلق صنفان من الغسل في عرض واحد وليسا مرتبتين.
وتوضيحه: ان الحقائق التشكيكية كالحرارة والبرودة والحلاوة والحموضة والنور والسرعة والبطؤ ونظائرها وإن كانت لها مراتب، ولكن مع ذلك توجد في كل مرتبة أفراد أو أصناف عرضية، ألا ترى أن أنوار الشمس والقمر والشمعة، مراتب، ولكن للشمعة، وهي إحدى المراتب، أفراداً وأصنافاً؟.
لا يقال: قوله: (إذ الغسل ليس إلّا بمعنى إزالة النجاسة والقذارة، وهي صادقة على كل من الغسلين) غير تام إذ الغسل لو كان بمعنى (إزالة النجاسة والقذارة) صدق على الحك والحت، مع انه لا يصدق؟
إذ يقال: المراد (الغسل ليس إلا بمعنى إزالة النجاسة والقذارة، بالمائع، وهي...)، ففي التعبير مسامحة لكن هذا هو المقصود.
ثم أقول: هب اننا سلّمنا أن الغسل مشكك (وأن الغسل بالماء المضاف مرتبة نازلة من الغسل بالماء المطلق – ولا نسلمه) لكنّ الغَسل بالمضاف ليس مرتبة خفية من الغسل لينصرف عنه (الغسل) بناءً على انصراف المشكك عن أفراده الخفية، بل هو مرتبة جلية فلا وجه للانصراف حتى على فرض كون الغسل حقيقية تشكيكية.
هل يمكن القول بالانصراف وعدمه، بحسب الأزمنة؟
تتمة: هل يمكن القول: بان اللفظ إذا انصرف عن فرد أو صنف، نظراً لندرة استعماله فيه زمن النص أو حتى عدمه مطلقاً، فإنه لا ينصرف عنه بعد ذلك إذا كثر استعماله فيه.
دليل التفريق بين الزمنين: ان النصوص والأدلة النقلية واردة مورد القضية الحقيقية، والآيات[8] حيّة[9] وكذا الروايات، ففي كل يوم يمكن استنطاقها وكأنها نزلت فيه، فيمكن عليه: أن يكون مثل (اغسل) الواردة في الروايات منصرفاً عن المعقِّمات المستحدثة، لا نظراً لعدم وجودها بل نظراً لعدم استعماله فيها (وإن كان معلولاً لعدم وجودها) لكنها حيث وجدت الآن بكثرة واستعمل لفظ الغسل فيها بكثرة، فإن (اغسل) لا يكون الآن منصرفاً عنها فتكون مطهرة؟ تدبر وتأمل في ذلك وبيّن الدليل على كلا الطرفين وناقش وايّد.
تنبيه: حسب سياق استدلالنا ومناقشاتنا، فإن التفصيل بين مثل ماء الورد (والمعقِّمات السائلة) وبين مثل ماء الرمان، هو المتحتم، فهو قول رابع، فتدبر وتأمل.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال الإمام الكاظم (عليه السلام): ((تَفَقَّهُوا فِي دِينِ اللَّهِ فَإِنَّ الْفِقْهَ مِفْتَاحُ الْبَصِيرَةِ وَتَمَامُ الْعِبَادَةِ وَالسَّبَبُ إِلَى الْمَنَازِلِ الرَّفِيعَةِ وَالرُّتَبِ الْجَلِيلَةِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا.
وَفَضْلُ الْفَقِيهِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الشَّمْسِ عَلَى الْكَوَاكِبِ وَمَنْ لَمْ يَتَفَقَّهْ فِي دِينِهِ لَمْ يَرْضَ اللَّهُ لَهُ عَمَلًا))
تحف العقول عن آل الرسول (صلى الله عليه وآله): ص410.
أسئلة:
- اكتب بحثاً عن مناشئ الانصراف (ولعلها تبلغ تسعة) وما الحجة منها وما غير الحجة؟
- متى يكون عرف المتشرعة حجة ومتى لا يكون؟
- هل يعقل كون الماهية مشككة؟
- ما الفرق بين تشكيكية الماهية وتشكيكية الدلالة؟
______________________
[1] أي بالمعنى المعهود له في الفقه.
[2] بل وقد يضاف: الزوال من قبل نفسه، كما لو جفّ الدم فسقط عن الجسد.
[3] أي الماء المطلق.
[4] السيد محمد الحسيني الشيرازي، موسوعة الفقه / كتاب الطهارة، دار العلوم للطباعة والنشر ـ بيروت: ج2 ص34-35.
[5] صدق الغَسل بالغَسل المضاف.
[6] نعم توجد أدلة أخرى ستأتي مناقشتها.
[7] الشيخ مرتضى البروجردي / تقريراً لأبحاث السيد أبو القاسم الخوئي، المستند في شرح العروة الوثقى، مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي ـ قم: ج2 ص27.
[8] لاحظ مثلاً قوله تعالى: )يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ( (سورة النساء: الآية 11).
)إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا( (سورة النساء: الآية 58).
[9] حتى كانها نزلت اليوم، وكل يوم.
|