بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ملخص ما تقدم
كان البحث حول الثمرة في نقاشنا مع صاحب القوانين وانها تظهر في صورة الشك بانواعه الثلاثة واوضحنا في الاجابة الثالثة بان القدرة هل هي الشرط في تعلق التكليف ام ان العجز هو المانع، وذكرنا ان المشهور هو ان القدرة من الشرائط العامة للتكليف لكن قلنا انه يمكن التأمل فيه إذ قد يقال ان العجز مانع، هذا ما سبق.
ما هو الحق هل القدرة شرط ام العجز مانع؟
اما مبحث اليوم فهو تحقيق ذلك وما هو وجه الحق، فنقول:
التحقيق يتوقف على بيان مقدمات ثلاثة ثم يظهر الحال بذكر امرين,
1- هل العجز عنوان وجودي أو عدمي؟
المقدمة الاولى: ان العجز لو جعل موضوعا لحكم او شرطا او مانعا - كما ان المدعى الان هو ان العجز مانع عن التكليف -, فلو جعل العجز في كلام المولى شرطا او مانعا او مقتضيا فهل العجز عنوان وجودي ام هو عنوان عدمي؟ وكونه عدمياً يعني ان العجز هو عدم القدرة عن مَن شأنُه ان يكون قادرا ولو كان عنوانا عدميا فأنه سيكون من قبيل العدم والملكة؛ اذ لا يقال للحائط انه عاجز عن الكتابة، فهل العجز عنوان عدمي هذا احتمال او العجز عنوان وجودي هذا احتمال ثانٍ، وذلك مثل الظلام فهل هو أمر عدمي وهو المأنوس للاذهان لكن يحتمل كونه أمراً وجوديا ضد النهار، كما لعل بعض الادلة تدل على ذلك علميا ونقليا كقوله عليه السلام (يامن يعلم وزن النور والظلام) فللظلام وزن ولا يعقل أن يكون للعدم وزن, وهذا تفصيله في محله، اما في التشريعيات فنمثل بالصوم فهل الصوم عبارة عن ترك المفطرات فهو اذن امر عدمي (لكن بضميمة النية طبعاً) ام الصوم هو كف النفس فهو امر وجودي, وعلى أية حال: فالعجز هل هو عدم القدرة فهو امر عدمي ام هو عنوان وجودي اي القدرة المحجوزة او المحجوبة او الممنوعة فانها تسمى عجزا، هذا هو الامر الاول الذي يحتاج إلى تدبر، وسنذكر وجه الحق في الامر الرابع – أي الأول من الأمرين الأخيرين -.
2- هل المدار على العنوان أم المعنون؟
المقدمة الثانية: على فرض ان العجز عنوان وجودي , فنقول: لو فرض تحقق عنوان وجودي الا ان المعنون كان عدميا فعلى ايهما المدار عند اجراء الاصل؟ وهذا بحث دقيق، ولو عكس الامر بان كان العنوان عدميا والمعنون وجودياً فاصالة العدم يلاحظ فيها العنوان ام المعنون؟ وامثلته في الفقه كثيرة، مثاله الصوم فلو نوى الصوم ثم بعد ذلك غفل في اليوم اللاحق فشك انه صام ام لم يصم فما هو مقتضى الاصل؟ قد يقال برجوع الأمر إلى هذه المسألة وان الموضوع وهو الصوم هل هو امر وجودي وهو كف النفس عن المفطرات فالاصل عدمه فلم يكن صائماً, اذن هو لم يصم ولم تبرأ ذمته من الصوم الذي بذمته لاستئجار أو شبهه، ام ان الصوم امر عدمي بمعنى ترك المفطرات فالاصل عدمه اي الاصل انه لم يرتكب المفطرات فهو صائم اذن , اذن العنوان لو كان امرا وجوديا مثل الصوم لكن المعنون كان عدميا أو كان مركبا من وجودي محرز الوجود كالنية ومن عدمي مشكوك، فهل نلاحظ العنوان أم المعنون؟
وفي ما نحن فيه الامر كذلك فالعجز عنوان وجودي فلو فرض انه عنوان معنونه عدمي، فلو شك انه عاجز ام لا؟فاذا لا حظنا العنوان بما هو هو فالاصل انه ليس عاجزا عن المعرفة لكن لو كان المعنون هو عدم القدرة وقلنا بان العجز عنوان وجسر موصل لعدم القدرة فالمعنون عدمي فالاصل عدم القدرة وليس الاصل عدم العجز الذي يعني القدرة فالنتيجة تكون متخالفة، وهذا البحث لم يطرح حسب الاستقراء الناقص فلا بأس من التدبر فيه.
وان كثيراً من العناوين في الشريعة يبتني الحكم فيها في صورة الشك وما بعد صورة الشك على تحقيق ذلك وان الموضوع امر وجودي او عدمي ثم لو كان بظاهره وجوديا فمعنونه ماذا؟ مثل الفقر في مقابل الغنى فهل هو ضد الغنى؟ او الفقر عدم ملكة بالنسبة للغنى وقد جعل في الشارع موضوعاً أو شرطاً لأحكام، فمثلاً قوله تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ), المثال الثاني هو غير المذكى فهل هو أمر وجودي؟ هذا رأي, او هو أمر عدمي؟ رأي أخر ، وعلى ذلك تترتب حلية او عدم حلية هذا الحيوان، كذلك مثال العدالة والفسق، ومثال رابع الايمان والكفر، فبعض الاحكام معلقة على عدم الايمان لا على الكفر كعنوان وجودي، والامثلة كثيرة عند تتبع الفقه من اوله إلى اخره,اذن هذا الامر الثاني وهو سيال وعميم الفائدة، لكن تناولناه بإيجاز بما يفيد المقام.
3- هل الأصل عدم العدم؟
المقدمة الثالثة: لو فرض ان العدم جعل موضوعا او شرطا او مانعا او قاطعا، فهل الاصل عدمه , فانه لو جعل الوجود موضوعا او شرطا او مانعا ففي صورة الشك فالاصل عدمه لأن الوجود امر حاصل فقسيم الوجود هو العدم وكلاهما فلسفيا بوزان واحد اي كلما امكن وجوده امكن عدمه فيستحيل ان يكون الشيء ممكن الوجود لكن واجب العدم او ممتنع العدم بالذات او العكس .اذن هما متوازنان تماما فكلما شك في الوجود فالاصل عدمه، ولو جعل العدم هو المحور في الحكم الشرعي فلو شك في العدم فهل الاصل عدمه اي عدم العدم اي الوجود؟ او الاصل هو العدم لا عدم العدم، لأن العدم بالنسبة للممكن حادث كالوجود فلو شك في الوجود فالاصل عدم الوجود فهل لو شك في العدم فالاصل عدمه اي عدم العدم اي الوجود؟ كما في ما نحن فيه لو فسرنا العجز بعدم القدرة فهل الاصل هو عدم هذا المحور اي عدم عدم القدرة اي وجود القدرة او الاصل هو عدمها وليس عدم العدم؟ والجواب بتحليل مختصر فلسفي هو ان هنا خلطا قد حدث بين العدم الذاتي والعدم الزمني، توضيح ذلك:
موضوع الاستصحاب ليس العدم الذاتي حتى يقال ان العدم الذاتي يوازن الوجود للممكن وكلاهما لو جرى الاصل فيه فالاصل هو العدم؛انما موضوع الاحكام هو العدم الزمني والعدم الزمني هو الاصل في الممكنات اما الوجود فهو خلاف الاصل ومن هنا نشأ الخلط، فالاستصحاب مصبّه على العدم الزمني لا العدم الذاتي، فليتدبر وهذا بحث له كلام اكثر تفصيلا لكن نكتفي بهذا المقدار.
بعد بيان هذه المقدمات الثلاثة نأتي إلى ما يتفرع على هذا الكلام من التحقيق: والتحقيق نلخصه في امرين وبايجاز: (ولكن قبل ذلك لنستحضر محور البحث وهو: العجز هل هو امر وجودي او عدمي؟ لأن هذه الكلمة كانت جوهرية في نقاشنا مع صاحب القوانين، إذ لو كانت القدرة شرطاً للتكليف فالاصل عدمها ولو كان العجز مانعاً عن التكليف فالاصل عدمه فالنتيجة تكون متناقضة ان النتيجة تكون تارة اثبات التكليف بالمعرفة ان قلنا ان العجز مانع وتارة تكون النتيجة رفع التكليف ان قلنا ان القدرة شرط والاصل عدمها).
العجز على نوعين: عدم القدرة والقدرة المحجوزة
الأمر الأول: التحقيق يقودنا إلى ان العجز على قسمين، وانه عنوان يشمل معنونين وليس معنونا واحدا (إذ ان ظاهر الكلام حتى الان هو ان العجز هو عبارة عن عدم القدرة فهو امر عدمي) بل العجز على نوعين فتارة يكون العجز بمعنى عدم القدرة وتارة يكون العجز بمعنى القدرة المحجوزة وكلاهما في الشرع وفي العرف قد يقع مدار الحكم، وهنا النقطة الدقيقة في كل المباحث، فتارة يطلق العجز ويراد به عدم القدرة وتارة يطلق ويراد به القدرة المحجوزة
وفي مثالنا (المعرفة) عندما نقول فلان عاجز عن المعرفة، فهل يراد به غير قادر اي لا اقتضاء، او يراد انه قادر لكن هناك مانع عن اعمال القدرة فهي قدرة محجوزة؟ كلتا الصورتين واقعتان اما الصورة الاولى بان يكون العجز بمعنى عدم القدرة فكما لو كانت المعرفة او المعلومة ممتنعة ذاتا احاطة الممكن بها أو نيلها كما في كنه الله تعالى فان الممكن الضيق لا يمكن له الاحاطة بالواسع فكيف باللامتناهي؟ فكوني عاجزاً عن معرفة كنه الباري بمعنى ان لا قدرة ولا اقتضاء وليس انني قادر لكن وجد هناك مانع، وهذه الصورة واضحة.
لكن تارة يكون العجز بمعنى القدرة المحجوزة وذلك كما لو كانت المعلومة ممكناً ذاتا ان ينالها الانسان، ككثير من بحوث المبدأ والمعاد، لكن عدم قدرتي على نيلها كان بسبب حدوث طارئ مثل تشابك الأقوال وتكثر الادلة إذ احيانا: المطلب اذا طرح على بساطته فان الانسان يكتشف وجه الصواب ببساطة، لكن اذا ذكرت عشرة من الأقوال في الموضوع وشفعت بادلة مختلفة متكثرة، فانها تصّعب على الانسان الوصول للحق فيضيع في زحمة الأقوال والمصطلحات، فهنا العجز ناشيء من المانع لا من عدم المقتضي لأن المقتضي موجود وهو الفطرة فهو قادر على الادراك الا ان المانع موجود، كما في كثير من بحوث الكتب الاصولية والفلسفية بالذات، فانها من هذا القبيل فلو طرحت المسألة ببساطتها فلربما أدرك الانسان انها من المستقلات العقلية – إيجاباً أو سلباً - في اعلى الدرجات أو ادرك وجه الصواب فيها لكن عندما يدخل الأمر في دائرة المصطلحات والاقوال المختلفة فقد يرى الانسان نفسه عاجزاً عن ادراك الحق
اذن العجز عن المعرفة تارة يكون ناشئا من عدم القدرة فهنا الاصل العدم فلا تكليف، وتارة يكون الشك لا من حيث عدم القدرة بل تكون القدرة محرزة كما في الصنف الرابع بل والثالث من اصناف المعارف السالفة الذكر فالقدرة موجودة، لكن يشك في وجود المانع فالاصل عدمه، فتدبروا به وللبحث تتمة وهناك مكمل اخر نتركه للغد ان شاء الله.
وصلى الله على محمد واله الطاهرين |