بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
تفصيل الحائري في المثبتين بين المطلق التحريمي والترخيصي
سبق (ومما قد يستدل به للسيد المرتضى (قدس سره) ما نقل عن الشيخ عبد الكريم الحائري (قدس سره) من أن المقيد إنما يتقدم على المطلق، إذا لم يكن المطلق صريحاً في دلالته على الإطلاق وإلا فإنهما يتعارضان، وعلى ضوء ذلك فصّل بين كون المطلق متعرضاً لحكم ترخيصي مع كونه في وقت العمل والحاجة، فلا ريب حينئذٍ في انه مراد جدي للمولى، ولا يعقل ان يحمل على المقيد لأنه يستلزم إلقاء العبد في المفسدة، إذا كان محرماً أو تفويت المصلحة إذا كان واجباً، عكس ما لو كان المطلق دليلاً تحريمياً فإن إطلاقه وإن لم يكن مراداً جداً غير ضار إذ غاية الأمر اجتناب العبد عنه، أي عن المباح، وليس هذا بضرر.
فقد نقل عنه قوله: (إن حمل المطلق على المقيد يكون في الحالات التي لا يتوافر فيها دليل صريح على إطلاق المطلق، وذلك لأن المطلق في مثل هذه الظروف يكون له حكم النص، ولا يمكن العدول عنه وحمله على المقيد. وبالتالي، يجب التعامل مع الدليلين وفقاً لقواعد باب التعارض. ثم يضيف: من الحالات التي يجب فيها اعتبار المطلق صريحاً في إطلاقه هي عندما يذكر حكماً ترخيصياً بشكل مطلق في وقت الحاجة إلى بيان الحكم، لأنه إذا لم يكن المراد الجدي من الدليل المطلِق للترخيص مطابقاً لظاهره الذي هو الإطلاق، فإن هذا يؤدي إلى الوقوع في المفسدة أو تفويت المصلحة. وذلك لأنه قد يحدث أن المكلف يقدم على فعل نفس الفرد المحرم غير المحكوم بالإباحة استناداً إلى الترخيص المطلق، قبل أن يطّلع على الدليل المقيد.
ولكن إذا كان الدليل المطلق تحريماً وكان بعض أفراده في الواقع مباحاً، فإن المكلف لن يقع في مفسدة أو يفوت مصلحة إذا ترك الفعل بسبب جهله بالدليل المقيد، لأنه لم يتضرر بتركه للمباح.
من هنا، يمكن للمتكلم أن يحكم بالتحريم معتمداً على الدليل المقيد من دون أن ينشأ عن ذلك أي أثر فاسد. وبالتالي، إذا كان الدليل المطلق ترخيصياً، يجب اعتباره صريحاً في إطلاقه، وان يُعتبر الدليل المقيد معارضاً له. أما إذا كان الدليل المطلق تحريماً، فإنه بقرينة المقيد يُحمل على المقيد، وينطبق ذلك أيضاً على العام والخاص)[1])[2].
وتوضيحه[3]: ان المطلق الترخيصي (الأعم من المباح والمكروه والمستحب)، والمراد به المرخّص في فعل الحرام أو في ترك الواجب، هو نص في العموم والشمول إذا صدر في وقت الحاجة أي في وقت ابتلاء المكلف بالفعل واقتحامه فيه[4]، وعليه يتعارض مع المقيد، فإن كان المقيد نصاً تعارضا وتساقطا، حسب القاعدة الأولية[5] وخيّر بينهما حسب القاعدة المستفادة من قوله (عليه السلام) ((إِذَنْ فَتَخَيَّر))[6] ونظائره بعد فقد المرجحات، وإن كان المقيد ظاهراً تقدّم المطلق عليه.
ومثال الترخيصي: ما لو قال: ذكِّ بالحديد، أي الحاد الشامل للمعدن والحاد كالاستيل والزجاج، والأمر فيه إرشادي إلى ما يسبب الذكاة والحلية وليس مولوياً، وأوضح منه ما لو قال: ذكاة الحيوان بذبحه بالحاد أو قال: ذبحه بالحاد سبب ذكاته وحلية لحمه، ثم قال: ذكّ بالحديد المعدن (أو ذكاته بذبحه بحاد حديد أو سبب ذكاته وحلية لحمه ذبحه بالحديد المعدن) فإن المطلق ترخيصي أي انه ترخيص في أكل لحم المذكى بالاستيل (والزجاج – والفتوى في الزجاج على العدم، وفي الاستيل خلاف) [7]فإذا قال ذلك (أي المطلق) في وقت العمل كان لا بد أن تكون إرادته الجدية مطابقة للاستعمالية[8] أي أن يكون إطلاقه وشموله هو المراد له جدّاً، إذ لولا ذلك لكان إغراء بالجهل وإيقاعاً للعبد في مفسدة أكل حرام اللحم (إذ ان العبد حسب إطلاق كلام المولى قد يذبحه بالحاد الاستيل) فهو إذاً نص في العموم.
وأما مثال التحريمي: فكما لو قال: لا تأكل السمك وقال: لا تأكل السمك فاقد الفلس، فإنه حتى لو لم يكن المطلق مراداً له بالإرادة الجدية (وكان حكمه واقعاً دائراً مدار المقيد) فإنه لا يلزم منه ضرر، إذ غاية الأمر ان يُمتنع المكلف عن أكل السمك ذي الفلس أيضاً وهو ليس مما يقبح على الحكيم قوله، إذ غاية الأمر أن يترك المكلف المباح أو فقل: انه فوق ذلك، مطابق للاحتياط[9].
وكذا لو قال: (لا تنكح المرتضعة معك) وقال: (لا تنكح المرتضعة معك عشراً) فإن مراده الجدي وإن كان على محرمية العشرة دون التسعة إلا انه لا يلزم من المطلق ضرر إذ غاية الأمر ان لا يتزوج مع المرتضعة معه تسعاً أو أقل، وهو ليس بضرر، بل غاية الأمر هو عدم نفع.
مثال آخر: في ذكر اسم الله على الذبيحة و(تجنب ما لم يذكر الله عليه) فروع:
منها: ذكر سائر أسماء الله عليه كالرحمن والرحيم (كأن يقول باسم الرحمن).
منها: أن يذكر اسمه تعالى بالفارسية (به نام خدا).
ومنها: ان يذكره لقصدٍ آخر لا بقصد الذبح (لكن لا بشرط لا عنه).
وفي كل هذه الفروع ارتأى السيد الوالد في الفقه الكفاية وخالف بعض فاشترط بعضهم، الجواهر على ما ببالي، العربية.
والشاهد انه: أ- لو قال: اذكر اسم الله (الشامل لكل الصور والفروع الثلاثة السابقة فرضاً).
ب- وقال: اذكر اسم الله الخاص[10] أو بالعربية، أو قاصداً الذبح، فإنه لو صدر المطلق من المولى في وقت العمل، مع كون حكمه مبنياً على المقيد، فإن إطلاقه لا يستلزم الإغراء بالجهل والإيقاع في المفسدة إذ غاية الأمر ان يتجنب كل ما لم يذكر اسم الله الخاص بالعربية قاصداً إياه بعنوانه، وهو ليس بضرر.
المناقشة
ولكن يرد عليه: انه ليس القبيح على الحكيم الإيقاع في المفسدة أو تفويت المصلحة الملزمة فقط، بل من القبيح عليه أيضاً: إيقاع المكلف في عسر وحرج بدون وجه، فإن منعه، بالمطلق غير المقصود بالإرادة الجدية رغم وروده وقت الحاجة، عن أكل سائر أنواع السمك، حرجي مطلقاً أو في الجملة، وكذا منعه عن الزواج بالمرتضعة معه تسعاً أو منعه عما ذبحه ذاكراً اسم الله تعالى بالفارسية.
ولئن شكك مشكك في المثال فنقول: ان من الأمثلة ما لا نقاش في كونه حرجياً إذا أطلق المولى المطلق وقت الحاجة مع عدم كونه مراداً جدياً له بل كان مراده الجدي المقيد فقط، أي لا نقاش في انه يستلزم العسر والحرج (بل أحياناً: الشديدين) كما لو اطلق القول بـ (المتنجس منجس) ثم قال: (المتنجس الأول منجس) فلو كان مبناه على المقيد، فلا شك في ان إطلاق الأول يوقع المكلفين في الحرج من جهة لزوم اجتناب المتنجس الثاني والثالث (مع انه على الفرض ليس بواجب) وهو مبتلى به بشدة وموقع للحرج نوعاً والشديد منه كثيراً.
بل تقول: أصل المنع عن المباح، لا لوجهٍ من ضرورة واضطرار وشبهها، قبيح من الحكيم خاصة مع قوله تعالى: (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)[11]، بل وقوله: (يُريدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُريدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)[12].
الاصبهاني: بعد إبقاء العدم في المطلق لا مجال له في المقيد
وقد نقل السيد الأستاذ الوالد عن المحقق الاصفهاني (قدس سرهما) وجهاً آخر لتقدم المطلق على المقيد في المثبتين وهو: (والاصبهاني (قدس سره) بأنه بناءً على أن عدم الحكم مجعول بمعنى التسبيب الانشائي إلى إبقاء العدم على حاله (كذا الإنفاذ إذا كان اعتبارياً) فجعلهما في المطلق والمقيد محال، إذ بعد إبقاء العدم في المطلق لا مجال له في المقيد وكذا الإنفاذ الاعتباري).
ويمكن أن يتصور ذلك في مثل الملك السابق على البيع بغير العربية حيث أن المقيد يقتضي استمراره بينما المطلق قاضٍ بعدمه)[13].
توضيحه: انه يوجد قولان في عدم الحكم وانه مجعول أو لا، فإذا قال مثلاً (جعلت البيع سبباً لنقل الملكية) فقد يقال بأن هنالك جعلاً آخر في الاتجاه المقابل وهو: وجعلت عدم البيع سبباً لعدم نقل الملكية إذ كما ان الوجود بحاجة إلى سبب كذلك عدمه إذ كلاهما أمر ممكن، وكما ان نَقْلُ الملكية وجودٌ بحاجة إلى سبب، كذلك عدم نقله عدمٌ بحاجة إلى سبب، وسبب الوجود وجود وسبب العدم عدم (مطلقاً أو بحسب المقام).
وقد يقال: انه لا حاجة إلى جعلٍ آخر بل إنّ جَعْلَ وجود البيع سبباً لوجود النقل، يكفي إذ يستلزم عدم جعله عدم النقل ولا حاجة إلى جعل العدم.
وعلى القول الأول، فإذا قال: (جعلت البيع سبباً لنقل الملكية) فإنه يدل بدلالة الإشارة على (وجعلت عدم البيع سبباً لعدم نقلها).
وعليه: فإذا كان عدم البيع سبباً للعدم فإنه لا مجال لأن يقال (عدم البيع العربي سبب العدم) لاستلزامه اما اجتماع المثلين أو اللغوية، نظير ما نقلناه عن المحقق المشكيني، لكنّ كلامه كان عن الجانب الإيجابي وهذا الكلام عن الجانب السلبي.
وأضاف السيد الوالد حالة أخرى تدور مدار بقاء الملك السابق قال: (ويمكن أن يتصور ذلك في مثل الملك السابق على البيع بغير العربية حيث أن المقيد يقتضي استمراره بينما المطلق قاضٍ بعدمه).
والفرق ان كلام الاصبهاني عن (عدم نقل الملكية) وبقاء العدم السابق (عدم نقلها) على حاله، وإضافة الوالد عن (استمرار الملك السابق) وعدم حدوث ما يغيره، واستمرار الملكية مقدم رتبةً على عدم النقل فإنه مقتضي وهذا الأخير رافع أو عدمه.
وعليه: فإذا قال (البيع سبب) أي لعدم استمرار الملك السابق ولعدم بقائه فقد يقال: ان عدم البيع سبب لاستمرار الملك السابق، وعدم البيع وإن لم يكن مقتضياً لاستمرار الملك السابق لكنه شرط في استمراره فمدخليته من هذه الجهة.
ولكن أشكل عليه الوالد بـ (لكن فيه أن عدم الحكم ليس مجعولاً لللغوية أو التأكيد وأي منهما ليس حكماً)[14]، فإن جعل أحد الطرفين كافٍ فإذا جعل وجوب الصوم كان جَعْلُ حرمةِ تركِهِ لغواً، وإذا قيل بانه تأكيد فإن التأكيد ليس حكماً بل هو مجرد تأكيد له.
بعبارة أخرى: جعل أحد الطرفين يغني عن جعل الآخر[15] فلا حاجة لجعله وإلا لكان لغواً أو تحصيلاً للحاصل؛ لكونه لازماً للجعل الأول. فتدبر.
وستأتي بإذن الله تعالى منا مناقشة لهذا الرأي فانتظر.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال الإمام الباقر (علیه السلام): ((إِنَّ الَّذِي يُعَلِّمُ الْعِلْمَ مِنْكُمْ لَهُ أَجْرٌ مِثْلُ أَجْرِ الْمُتَعَلِّمِ وَلَهُ الْفَضْلُ عَلَيْهِ، فَتَعَلَّمُوا الْعِلْمَ مِنْ حَمَلَةِ الْعِلْمِ وَعَلِّمُوهُ إِخْوَانَكُمْ كَمَا عَلَّمَكُمُوهُ الْعُلَمَاءُ))
الكافي: ج1 ص35.
أسئلة:
- اشرح كلام الحائري ومناقشتنا له، وناقش أو أيّد.
- اشرح كلام الاصفهاني، وحاول مناقشته.
______________________________
[1] شيبري زنجاني، موسى، كتاب نكاح، مؤسسة بژوهشي راي برداز: ج7 ص2102.
[2] الدرس (1087/67).
[3] مع إضافةٍ ما.
[4] علماً، أو ظناً، أو حتى (في المولى العرفي) احتمالاً، أي حتى لو احتمل حسب إطلاق ترخيصه ارتكاب المكلف له.
[5] المشهور ان القاعدة الأولية في المتعارضين هي التساقط، لكن المنصور انها التخيير، فالاخبار المفيدة له هي على الأصل.
[6] عوالي اللآلئ: ج4 ص133.
[7] في حالة الاختيار وأما في حالة الاضطرار وعدم وجود غيرها فقد افتى بعض الفقهاء بصحة الذبح حتى بالزجاج.
[8] وأن يكون القيد في المقيد محمولاً على الأفضلية مثلاً.
[9] فيه: ان الاحتياط على هذا الفرض، لا وجه له.
[10] أي لفظ الجلالة (الله) الدال على الذات المستجمعة لصفات الجمال والجلال.
[11] سورة الحج: الآية 78.
[12] سورة البقرة: الآية 185.
[13] السيد محمد الحسيني الشيرازي، الأصول: ج5 ص569.
[14] السيد محمد الحسيني الشيرازي، الأصول: ج5 ص569.
[15] جعل وجوبه (الصوم مثلاً) يغني عن جعل حرمة تركه، وكذا جعل حرمته (الكذب مثلاً) يغني عن جعل وجوب تركه.
|